بسم الله الرحمن الرحيم
هل تذوقت الرق .. العبودية ؟ ... ستقول : ماذا ؟ ! لقد تحررنا .. وأقول : ذق ما نحاول أن نتجاهله أونخفيه .. ذق مرارة ألا تملك من أمرك ورأيك إلا ما يملي عليك .. وألا تفعل إلا ما يرسم لك .. وألا تتزوج إلا من تفرض عليك ( من أهلك أو من سلطان الإغراء ) .. وألا تتعلم إلا ما أريد لك أن تتعلمه .. وألا تشاهد أو تسمع إلا ما يسمح لك به .. وألا تؤمن إلا بدرجة معينة من الإيمان مسموح لك بها .. بل وألا تلبس إلا علي آخر موضة وإلا فليس عندك ذوق .. ذق طعم ربوبية ذاتك .. وسلطان كُبرائك .. وجبروت حكامك .. ذق حرية العبودية أو عبودية الحرية الحديثة
لقد شرونا بثمن بخس في سوق نخاسة كبير .. فما بقي لنا من الحرية شيء .. الرب الواحد قال لنتحرر .. ( لا إكراه في الدين ) .. في الدين وغيره .. ونحن نساق إلي الدين جبرا .. وإلي إيمان مقنن علي قدر المصالح .. وعلي حسب الظروف .. وإلي حياة لم تحددها أنت ولا أنا ولم نرسم معالمها ولم نختر أدوارنا فيها .. ذق طعم العبودية حتي تتحرر.. فأنت حر لوجه الله , بأمر الله : أيها الإنسان خلقتك بين الناس سيدا لا عبدا .. بشرا مكرما مختارا لا قطيعا مساقا , لك كامل الحرية في أن تفعل ما تريد وما تحب , ( اعملوا ماشئتم ) .. ( اعمل ما شئت كما تدين تدان ).. ألزمنا الله بعواقب أفعالنا , ورسم لنا طريق الصلاح ثم تركنا , وجعل الحرية والعقل هما مناط المسؤولية والتكليف كما يقول الأصوليون , يعني أن العقل والحرية هما الإنسان ( وحملها الإنسان )
لماذا نخاف من الحرية ؟ أنكفر أو نضل إن تحققت .. فلنكفر ولنفسق إن لم يكن إيماننا عن يقين وحب وشوق وتلذذ .. فلا يريد الله مؤمنا يساق جبرا .. والله يقول ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها - أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين ) فهذا الإكراه لم يرضه الله لنفسه ولا لرسوله .. فكيف نسمح لأنفسنا به .. فلنسمح بالنور يسطع ولنترك الناس ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .. ما عاد زمن الدِرة - درة عمر سوطه - فعمر كان يؤدب قوم تأدبوا .. نعم ما عاد زمن الدرة ..
أنخاف أن يترك الناس الدين ويتمذهبوا فليفعلوا .. فكبير المنافقين كان بين المؤمنين يعيش مؤمنا بظاهره .. ومفضوحا عند المؤمنين .. ولكنه كان لا يسأل عن فعله .. إلا إذا تحقق الضرر بالنفس والمال .. كبقية الناس يحاسب .. يقول :جون ميل: السبب الوحيد الذي يجعل الإنسانية أو جزء منها تتدخل في حرية أو تصرف أحد أعضائها هو حماية النفس فقط ، ( طبعا والمال ) وإن السبب الوحيد الذي يعطي الحق لمجتمع حضاري في التدخل في إرادة عضو من أعضائه هو حماية الآخرين من أضرار ذلك التصرف.
أنخاف سلطان الفواحش أن يغلب النفوس الطاهرة المؤمنة فيفسدها .. وماذا في ذلك ؟ فهذا عدل الله في اختبار الإيمان عند أهل الإيمان ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقو ا وليعلمن الكاذبين ) ( ومن الناس من يعبد الله علي حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب علي وجهه خسر الدنيا والآخرة ) .. إن النفوس التي لا تؤمن إلا إذا أصابها خير وأمان وسلامة واطمأنت لذلك فقط .. وعند الفتنة تنقلب علي وجهها فتخسر الدنيا والآخرة لا يباليهم الله باله .. ولا يريدهم الله البتة .. يوسف نجح عندما فتن فقال معاذ الله وترقي بذلك .. ومع كل فتنة ونجاح يتدرج المؤمن ..فلتتبرج النساء ولتظهر الفواحش .. وكل يفعل ما يحلو له حرية واختيارا .. والله إن ذلك عند المؤمن .. كامرأة العزيز تهيأت ليوسف فقالت : هيت لك قال : معاذ الله ..
إن ثورة التحرر الكبري هي التي قام بها رسول الإسلام .. بعد أن كبلت البشر - كل البشر - أغلال الأوهام والعقائد الواهية وجبروت البشر الطغاة ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( قال فرعون ما أريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) .. فجاءهم الرسول الأمي ( يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ).. فهل كان يحلم مجرد حلم ذلك العبد الحبشي بلال أن تعلو قدماه السوداوان الكعبة أو رأس سيده ويقطعه بسيفه .. ثم يذهب ليخطب لأخيه الفتاة القرشية الشريفة ويقول :كنا فقيرين فأغنانا الله .. ضالين فهدانا الله .. عبدين فأعتقنا الله .. فيتزوج لأن القرشي أيضا تحرر من عبودية نفسه وذاته ..
حرية رسول الإسلام .. تبدأ بالتحرر من الذات .. مضجع هني يُتجافي للقيام بين يدي الله في أحلك الظروف .. مال يسري حبه في الوريد .. يُنتزع من ذاك الوريد حتي يقول الحر المتربي بالإسلام : إن الزكاة عندنا هي كل ما عندنا .. بكر في خدرها تُهجر .. وكذلك الوالد والولد .. فالحرية عندهم : هي تحرير الروح من قيود الجسد وبتعبير أدق هي تحرير الإنسان العاقل من قيود العواطف .. بعدها يبحث عن تحرر كامل من كل بائعي النخاسة فتصير الحرية عنده هي الدين الذي يقربه من مولاه يهتف ويقول : «إما أن نحيا أحراراً أو نموت أحراراً. وإذا كان لا بد من هلاكنا فعلينا أن نموت كما يليق بالأحرار، وإذا لم تكونوا أحراراً من أمة حرة فحريات العالم عار عليكم»
لقد قال الحر منا وهو صاحب الدِرة يوما : متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا , بأي حق , وبأي منطق , ومن أي دين أو خلق جاء قانون الإستعباد بلا نخاسة أو صك , لكن التبريرات معدة : حتي لا تصير الحياة فوضي , وكل لا بد أن يتحمل مسؤولياته تجاه الآخرين وقبل ذلك تجاه نفسه , فكما لا يستطيع بحريته قتل أو إيذاء نفسه فهو كذلك لا يستطيع قتل أو إيذاء غيره , وهناك واجبات قبل الحقوق لا بد أن تحفظ , وتعيها النفوس -حتي تنضبط الحياة .. وكل هذه المبررات حق .. ولكنهم لجبروتهم - بذلك الحق - خنقوا الحرية - وبالحق المحرف ركبوا أعناق العباد , واستعبدوا الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا , بدءا من أصغر بناء اجتماعي -وهو البيت - إلي أعلي بناء في المجتمع
كانت الحرية من قبل تعرف في سياقين : اجتماعي طرحت فيه الحرية مقابل الرق ، وعقائدي في سياق علاقة الإنسان بربه ومدى حريته في الفعل ، حيث احتدم جدل المتكلمين بين مؤكد لحريةٍ للإنسان لدرجة تنال من قدرة الله المطلقة - العبد خالق أفعاله (المعتزلة) وبين مدافع عن مشيئة الله المطلقة إلى حد نفي أي فارق حقيقي بين فعل الإنسان وحركة ظواهر الطبيعة العبد مجبر علي أفعاله ( الجبرية ) . وطرف ثالث حاول التوسط فقال بـ"كسب" للإنسان، ظل مثلا للغموض وأقرب للاندراج في الموقف الثاني الذي كاد يعم الساحة الإسلامية منذ القرن الخامس (الأشاعرة) حتى ظهور بوادر الإصلاح منذ قرنين.. عقيدة الجبر تخفت أيضا عندنا في عقيدة القضاء والقدر فسلبت الناس حريتهم بل وعقولهم كذلك فاستكانوا .. يقول المصلح الكبير محمد إقبال: " المسلم الضعيف يعتذر بالقضاء والقدر، والمسلم القوي هو قضاء الله وقدره .