كانت لعبة لم تكن فينيلا قد شاهدت مثلها من قبل .. نعم هذا ما كانت تعرفه
على الأقل .. وهذا ما تستطيع ان تتذكره..
اللاعبون من مختلف النوعيات .. خاصة ذلك الرجل الأسمر ذي العيون الرمادية
والذي كان يرميه بنظرات حادة كلما مرت بالقرب منه ركزت على اللعب .. كان
ذلك الرجل يلعب بمهارة فائقة انتبهت الى نفسها تحدق فيه وكأنها تدعوه الى
النظر اليها على الرغم من الأضطراب الذي كانت تثيره هذه النظرات في قلبها ,
هل يعقل انها قابلته من قبل ؟ هل التقيا في يوم من الايام .. هل عرفا
بعضهما؟
كيف كانت ستعرف ذلك؟
واذا كانت قد التقته من قبل ....كيف حدث وأن نسيته؟
كيف كان لها ان تنسي تأثير هاتين العينين؟ كيف كان لها ان تنسي سحره ؟
كيف كانت ستنسى ذلك الأنجذاب الذي تشعر به نحوه؟
لا....هذا مستحيل فكل الذكريات يمكن ان تمحى من ذاكرتها الا ذلك الرجل كانت
متأكدة من ذلك....
مررت فينيلا يدا مرتجفه فوق جبهتها.. خيل اليها انها تستطيع ان تتذكر.. الا
ان الذكريات مازالت بعيده..
متى سينتهي كل هذا؟
متى تستطيع مجابهة العالم مرة اخرى؟
أحكمت قبضتي يديها .. ما هي تلك المشاعر وتلك المخاوف التي كانت تنتابها؟
كانت متأكدة انها تعاني من أزمة صعبه لا تستطيع منها فكاكا..
عادت لمراقبة اللاعبين .. مشاعرها كانت قوية .. لاحقت عيناها الرجل ذي
العينين الفضيتين ..
بدأت تشعر بأن المستشفى الذي نقلها اليه الدكتور سام أخذ يتبدل في نظرها ..
فهو اكبر من المصحة التي قضت فيه فينيلا الاسابيع القليلة الماضيه ..
لاحظت منذ قدومها التنوع الكبير للمرضى .. فمنهم على العجلات والبعض الآخر
يمشون بأطراف صناعيه..
شعرت بالخجل عندما نظرت اليهم .. كيف شعرت بالحزن والخيبة وهي القوية
السليمه الجسم.. وهي تملك السمع والبصر
والنطق .. بينما كان الاخرون يحاولون مواجهة حياتهم وقد فقدوا أجزاء هامه
من اجسادهم..
تجول الدكتور معها في مختلف المناطق المحيطه بالمستشفى .. سارا في الحدائق
وشاهدت بعينها المرضى يسيرون بسرعة وهم جلوس على الكراسي المتحركة ..نظرت
الى وجوههم ....لم تشاهد اليأس وخيبة الامل .. بل التصميم على مواجهة
الحياة الجديده التي فرضت عليهم ....ذلك التصميم الذي لم تحاول حتى التفكير
فيه..حاولت التركيز مره أخرى في اللعبة.. تلك اللعبة التي لايمكن القول
انها لعبة كرة القدم.. ولكنها تعتمد على نفس القواعد والقوانين فكل
اللاعبين يجلسون على كراسي ذي عجلات يحاولون الامساك بالكره وتمريرها الى
بعضهم البعض .. كان البعض مقدرا له الجلوس على الكرسي المتحرك مدى طوال
حياته..
وجدت فينيلا نفسها تبحث مره اخرى عن الرجل الأسمر .. لابد وأنه سيكون طويلا
لو قدر له الوقوف على قدميه .. مر من أمامها محاولا الأمساك بالكره .. نظر
اليها بأصرار.. نظره اثارت فيها الأضطراب .. ولكنها لم تبعد عينيها عنه ..
رأت في عينيه شيئا أحيا فيها بعض الأهتمام وشيئا من الذكريات..
مالذي حدث له ؟....كيف اتى الى هذا المكان؟
هل تعرض لحادث ما؟ او هل حدث له مكروه اثناء بعض التمارين كتسلق الجبال
مثلا او التزحلق على الثلج؟
مهما يكن فليس من العدل ان يصاب ولماذا هو..؟
شعرت بالدموع تحرق مقلتيها .. عضت على شفتيها بقوه..
ماذا هناك فينيلا ؟ سألها الدكتور سام
حركت رأسها نفيا ومسحت دموعها..
- كنت اتساءل فقط ..لماذا تصرفت هكذا طوال الأسابيع الماضيه .. بينما لا
اشكو من شئ البته الا من الخوف ..الخوف من مواجهة الحقيقة..
كانت تتكلم بغضب
- هؤلا الناس يواجهون حقيقتهم .. ويتابعون حياتهم.. ولماذا ليس بأستطاعتي
ان افعل مثلهم ؟ لماذا لا أستطيع ات اتذكر أي شئ لأرميه وراء ظهري وأتابع
حياتي..
- هناك حالات غريبه للعقل فلا تحاولي المواجهة بهذه الطريقه يا فينيلا ولكن
هذا لا يعني الا تتابعي حياتك..
فأنا متأكد انك تستطيعين مواجه هذه المحنه .. اليس كذلك؟
- نعم..
عادت لمراقبه الاعبين .. لتفاجأ بالرجل ذي العينين الرماديه متوقفا في فناء
الملعب ينظر اليها بأصرار..
- نعم اظن انني استطيع..
عندما عادت الى المصحة توجهت الى غرفتها ووقفت بجانب النافذة تنظر الى
الحدائق .. حيث يتمشى المرضى او يجلسوا تحت أشعة الشمس الدافئة.. البعض
منهم على وشك مغادرة المصحة والبعض الأخر ينتظر ذلك بفارغ الصبر .. بينما
لم يمض على وجود بعضهم يوم او يومان .. تعرفت فينيلا على الكثير منهم وعرفت
قصة حياتهم وسبب مرضهم..
ولكن من يعرف شيئا عنها أي شئ؟
لا احد....شعرت بالحزن..
أبتعدت عن النافذة وحاولت التفكير في اشياء أخرى .. اشياء أكثر بهجة على
الرغم من انها قليلة ونادرة في حياتها فذكرياتها قليلة ومختصرة وكلها تتركز
على حياتها في المستشفى.. بدا لها وكنها قضت عمرها كله في مكان ما لم تعد
تستطيع تذكر أي شئ عنه.. بدا لها وكأنها ولدت في هذا المستشفى منذ ستة
اسابيع.. نظرت الى وجهها في المرآة رأت عينين رماديتين ووجها متعبا .. جسم
رقيق.. عرفت
من الممرضات انها فينيلا سو وعمرها سته وعشرون عاما..
لم يعرف الأطباء في البدايه فقدانها للذاكرة الى ان فتحت عينيها واستعادت
وعيها .. كانت قد قضت في المستشفى فترة لا بأس بها الى ان شفيت من الجروح
الخارجيه ما ان فتحت عينيها فنظرت حولها حتى انتبهت الى انها مستلقية على
فراش ضيق في غرفة بيضاء ذات ستائر ناعمة لم يسمح لها في البداية بمغادرة
الفراش فيما بعد بدأت الممرضة بطرح بعض الأسئلة عليها .. وسألتها هي
بدورها:
- أين انا؟
كان هذا السؤال الطبيعي بالنسبة للمرضة .. تسمعه كثيرا من المرضى عندما
يستعيدون وعيهم .. لم تجبها بسرعة وأنما تابعت أخذ درجة الحرارة ....اقتربت
منها وابتسمت لها بعد ذلك قائلة
- في المستشفى .. كيف تشعرين الآن ؟
نظرت اليها فينيلا لم تستطع ان تفهم أي شئ تحركت قليلا وقالت..
- أظن انني بخير .. ولكن لماذا انا في المستشفى؟ ترددت الممرضة قليلا:
- لقد تعرضت لحادث.. هل تريدين كوبا من الشراب؟
لا تحاولي الكلام فهذا يضر بك ....ستأتي رئيسة الممرضات في الحال وتجيب على
كل تساؤلاتك..
ولكن تلك الرئيسة لم تجب على ايه تساؤلات .. كان لدي فينيلا الأحساس بأنها
فقدت وعيها منذ وقت طويل .. ولكن كم من الوقت ؟ ساعة ....يوما....أسبوعا لا
....لم يستطع أحد ان يخبرها..
عندما اتى الطبيب لزيارتها في اليوم التالي جلست بجانب سريرها مقربا كرسيه
اليها.. من الواضح انه سيجري معها حديثا مطولا .. كانت فينيلا قد استردت
الكثير من قواها ولكنها كانت مشوشة ومضطربة فخلال اليومين الماضيين رأت
الكثير من القلق على وجوه الممرضات على الرغم من محاولتهن الفاشلة في اخفاء
ذلك..
- لا أستطيع تذكر أي شئ....من انا؟
بادرته فينيلا بتلك الكلمات وقد بدأ القلق والأضطراب عليها تابعت:
- لا استطيع ان اتذكر أي شئ عن نفسي .. اشعر وكأنني قد هبطت الى الأرض في
هذه اللحظة .. استطيع ان اتكلم وان افكر وأعرف ما علي فعله ولكن لا شئ آخر
أشعر وكأنني قد ولدت لتوي!!!
حدق الطبيب فيها لفترة وضع يده على ذراعها .. كانت ترتعش من الأنفعال مثل
العصفور الصغير الذي وقع في براثن القط .. نظرت اليه محاولة فهم الحقيقة ..
محاولة التقاط أي بارقة أمل في عينيه .. ولكنها لم تجد الا التعاطف وهذا
ما اخافها اكثر..
- ماالذي حدث لي؟ لماذا لا استطيع التذكر؟....من انا..؟
أشار الى الممرضة بترك الغرفة أحتضن يدها بكلتا يديه أحست بالدفء يغمرها ..
كان يحاول امدادها بالقوة .. بالقوة لمواجهة الآلام الكامنه في اعماق
عقلها.. ولكنها لم تكن تريد ذلك .. لم تكن بحاجة في الوقت الحاضر الا معرفة
أسمها ومن هي وما هي حياتها..
-قولي ....مالذي تتذكرينه سألها..
- لا شئ....انا لا اعرف أي شئ ....لقد قلت لك اشعر وكأن حياتي قد بدأت فوق
هذا السرير .. تصور انني لا اعرف اسمي او عمري..
- بالتأكيد....الممرضات....؟
-آه..نعم أخبروني عدة اشياء نعم....اسمي فينيلا سو عمري ستة وعشرون عاما..
عيد ميلادي يصادف في
شهر آيار ولكن هذا كل شئ .. بالأضافة الى انني غير متأكدة من أي شئ
فبأستطاعتهم ان يخبرونني انني الملكة فيكتوريا او ميريل ستريب ولن اعرف
الفرق..
- ولكنك تعلمين انك لست أي منهما..
نظرت اليه والتقت عيناها بعينيه .. حدقت فيه لفترة بعد ذلك شعرت بالهدؤ
يعود اليها..
- نعم اعرف ذلك .. أخبروني انني لست اولئك ولكن كيف اعرف انني فينيلا ومن
هي فينيلا تلك..
- ولكن ما يحدث لك ليس حدثا غير عادي .. فعندما جئت الينا كان هناك جرح
بليغ في رأسك.. فقد كنت في وضع صعب لهذا ووفقا لتلك الظروف كان من الصعب
عليك معرفة اية تفاصيل عن حياتك .... وعلى كل حال وكما ارى فأن ذاكرتك لم
تتأذى الى حد كبير فأنت تعرفين الملكة فيكتوريا وميريل ستريب..
يتبع...