احلام مستغانمي
ودّع الصبرَ محبٌ ودّعك
ذائعٌ من سره ما استودعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم
بتُّ أشكو قصرَ الليلِ معك
ولادة بنت المستكفي
في الأسبوع الثاني للنسيان، لم أجد لإنقاذ صديقتي الحمقاء من حنينها لجلّادها سوى أن أعرض عليها وصفة قديمة للشفاء من حبيب (أظنّني أملك براءة اختراعها) ابتكرتها قبل عشرين سنة في باريس عندما وجدت نفسي أمام فتاة جاهزة للانتحار بسبب قسوة رجل.
«الحاجة أمّ الاختراع» وكانت الفتاة فعلًا بحاجة إلى سند عاطفي كي لا تنهار. قلت لأجرّب فيها الوصفة. فقد كنت أجرب فيها أيضًا مسودّات «ذاكرة الجسد» عندما تنتهي من الأشغال المنزليّة وأسألها كيف تجد القصّة والحوارات. وتناقشني المسكينة على قدر ثقافتها.. وعلى قدر عقلي.. فمن الواضح أنّني ما كنت سويّة. والآن وأنا أكتب يحضرني قول نزار في ما كتبه عن «ذاكرة الجسد» حين يقول للغالي الدكتور سهيل إدريس رحمه الله: دعها تجنّ فإنّ الأعمال الإبداعيّة الكبرى لا يكتبها إلّا مجانين.
مذ شهد لي نزار بالجنون ما عدت أشعر بالحرج في إشهار حماقاتي.
كانت فتاة مغربيّة رسبت في البكالوريا. لا تملك أيّة جاذبيّة. جاءتني بضفائر قرويّة وملامح جبليّة. كانت تقيم عند قريبتها وتأتي يوميًّا لمساعدتي لبضع ساعات في أشغال البيت وللاهتمام بالأولاد.
ذات يوم وقعت البنت في حبّ رجل سوري لا أدري أين صادفته. كان يعمل أستاذًا في سوريا وأصبح يعمل طرّاشًا في باريس. كان الرجل يملك وسامة مشرقيّة تباهي بها. فقد كانت تحمل صورته أينما حلّت. تدريجيًّا فقدت البنت صوابها. جنّت به حبًّا وغيرة. لكنّ الرجل لم يفقد عقله كان فقط يتسلّى. «رجّال واستحلى» كما يقول اللبنانيّون.
وجدت نفسي متورّطة في قصّتها فقد كانت تطلب منّي أن أكتب رسائل حبّ نيابة عنها (بعد أن اكتشفت موهبتي الأدبيّة!) بينما اكتشف الرجل لاحقًا عندما أرته مقالاتي وصوري في المجلات أنّها تعمل عند كاتبة وأنّ الرسائل المكتوبة إليه أجمل من ساعية البريد! (والقصّة تستحقّ رواية!).
ذات يوم قرّر التخلي عنها برغم جهدي في تجميلها وقصّ ضفائرها وإهدائها أجمل ثيابي. حتى أقسمت أمي أنّها سحرتني. وإلّا كيف أعفيها من الاهتمام بأطفالي الثلاثة وأكرّس وقتي لخدمتها. وكنت أردّ أنّها لو كانت تعرف السحر لسحرت ذلك الرجل أوّلًا! ذلك أنّ حالتها أصبحت بائسة ومشفقة حدّ تركي « ذاكرة الجسد « جانبًا. والانهماك في « كتابة « حياتها العاطفيّة.
كلّما هاتفَتْه كان يقطع الهاتف في وجهها. وإن دقّت بابه رمى عند الباب بأشيائها حتى بدأت تراودها فكرة الانتحار لمقاصصته بموتها. أو إلحاق أيّ أذى به. فقد كانت البنت بربريّة من الأطلس المغربي.. وتحبّ لأوّل مرة بوفاء وأنفة وشراسة. أيّ مدججة بكوكتيل من العواطف القابلة للانفجار والدمار!
وصلت معها إلى اتفاقيّة أن تهاتفني كلّما شعرت برغبة في مهاتفته، فأشتمه لها، وألعن أبوه وأصيح بها « كيف تسمحين لطرّاش أن يفعل بك هذا؟ من يكون ليقطع الهاتف في وجهك؟ إنّ دخلك أكبر من دخله. وأصلك أشرف من أصله.. لو كانت له أخلاق لما تصرّف هكذا مع فتاة.. ثمّ أنت التي نفختيه وطلبت منّي أن أكتب له رسائل ما كتبتها جورج صاند لشوبان فراح يظن نفسه فهد بلان (كان المطرب السوري الراحل رمز الرجولة آنذاك).
أهمليه.. دعيه هو يتعذّب ويسأل عنك. ثمّ إنّه موسم التنزيلات. اذهبي إلى ذاك المحل الذي أشتري منه ثيابًا بجانب مدرسة الأولاد. واشتري ثيابًا جميلة.. حتى إذا رآك المرة القادمة يأكل أصابعه ندامة لأنّه تركك!
طبعًا على الأرجح أنّ الرجل كان منهمكًا في «أكل» ضحيّة جديدة. لكنّني كنت أقول لها أيّ شيء يقوّي من عزيمتها كي تصمد وتنساه.
وحين كانت تزورني بعد ذلك في كلّ أناقتها ويصادف وجود أمي كانت أمي تعايرني طوال السهرة بسببها.: شفت مرا تبعث خديمتها إلى نفس المحل اللي تشري منو ثيابها.. واش يقولوا الناس؟ إحنا في فرانسا يا أمي حتى واحد ما على بالو بيك واش لابسة. وهذي البنت مسكينة كانت رايحة تقتل روحها! هذي تقتل روحها؟ تصيح أمي أنت اللي تقتلي روحك. ذرك تشوفي واش راح يخرج منها « المعلّمة « متاعك!
«في ردهة روحك ظناً منك انك تجعل من الآخرن خدماً لك على الأرجح أنت من يتحول بالتريج خادماً. خادم من؟ خادم ماذا؟ إذاً فاذهب وابحث» يقول هنري ميشو. ولكن ما كنت أملك الرغبة ولا الوقت للبحث.
كانت أمّي تصرّ على أنّي مسحورة وأعمل بدوام كامل « صانعة « عند خادمتي. أمّا زوجي فما كان ليصدّق هذه الهواتف التي أقول أنّها من الشغالة.. فقد كانت تهاتفني من أيّ كابينة تلفون تمرّ بها لتخبرني بمستجدّات قصّتها ولا أستطيع الاتصال بها لاحقًا لأنّ الجوّال لم يكن قد اخترع بعد. فأقضي ما تسع بطاقتها من وقت في الشتم حينًا والوشوشة حينًا. أتساءل الآن إن كنت يومها في كلّ قواي العقليّة، كيف لامرأة لها ثلاث صبيان أصغرهم عمره سنتين أن تضيف إلى واجبات أمومتها دور الأم تريزا.
ذلك أنّني لا أستطيع إلّا إنقاذ المهاجرات غير الشرعيّات في مراكب الحبّ. عندما يغرّر بهنّ أحدهم ويبعث بهنّ في مركب غير آمن للهجرة نحو أرض العشق الموعودة. ثمّ ينساهن في عرض البحر. قضيت عمري في انتشال الإناث الغبيّات من قصص الحبّ المغرقة. وما زلت في هذا الكتاب لا أفعل إلّا هذا. وهكذا طلبت من تلك الصديقة أن تهاتفني كلّما راودها الحنين إلى مهاتفته. فأقول لها عن الرجال ما يشفيها وينسيها ملتهم.
(الرجال تقتلهم الكراهية، والنساء يقتلهن الحب)
الشاعر أوفيد
منقول