مسرحة فعل البحر
بقلم: سعاد درير
أثارني- من جملة ما قرأت من مقالات مسرحية- مقال متميز للمسرحي العراقي المتميز قاسم مطرود، بعنوان:"مسرحة الفعل الساعاتي..". واستمتعت بتأمل فكرته التي تصور الساعة مسرحا وعقرب الساعة ممثلا و المحدق في الساعة متفرجا.. وهلم مفردة سينوغرافية ساعاتية. وتساءلت إن كان ثمة مسارح تقترب من ساعة قاسم مطرود أو تكاد.
وبالصدفة، تذكرت مسرحا موغلا في القدم، لطالما قصدناه وتزاحمنا على صفوفه الأمامية؛ واستمتعنا بمشاهدة كوميدياته بحماس وتهكم، وتقبلنا بشجن وأسى نهاياته المأساوية بعد صراعات درامية بلغت ذروتها.
أتحدث عن مسرح كبير، واسع، رحب الصدر، نصغر لتكبر فيه أحلامنا وأوهامنا، انتظاراتنا وانكساراتنا، تفاؤلاتنا وتساؤلاتنا، شموعنا ودموعنا..
أتحدث عن مسرح متميز…
أتحدث عن البحر.
¨ الخشبــة :
تشكل المساحة المائية التي ترسم حدود البحر أرضية الخشبة التي تحتضن تحركات الممثلين وتنقلاتهم، وتنعكس عليها إسقاطات الإنارة.. إن فضاء الخشبة يحدده الفرش المائي الذي يتسع ليستوعب مختلف أشكال الصراع الدرامي. وقد يحدث أن تتداخل الخشبة مع الصالة، أو بعبارة أصح: تتسع الخشبة لتشمل جزءا من الصالة، بفعل امتدادات الفعل المائي؛ الذي يضطلع بوظيفة التطهير، إذ كثيرا ما ينجح البحر وحده في استيعاب شجن المتفرج وتخفيف تراكمات الضغوط النفسية عليه، كأن مجرد النظر في ماء البحر كفيل بتحقيق الاغتسال من أدران الواقع ومن أدران النفس البشرية.
¨ الصالـة :
المكان الذي يجلس فيه المتفرجون لمشاهدة العروض المسرحية – المسمى "الصالة"- هو المساحة الرملية الممتدة على طول الشاطئ حيث تنصب الشمسيات والخيام وتفترش البسط وتوضع الطاولات والكراسي.. وهي كلها معادلات طبيعية لصفوف الكراسي التي تؤثث فضاء الصالة، بل يمكن اعتبار أي عابر للمساحة الرملية – وما جاورها – متفرجا، حتى ولو كان يطل من بعيد.
¨ الكواليــس :
إن المكان الذي يستعد فيه الممثلون لتقمص الدور وارتداء الشخصية يشمل الأفق العائم الذي يرتسم على طول البحر. فإذا كان المتفرج لا يحاط علما بما يدور داخل كواليس المسرح من عمليات ارتداء الأزياء ووضع مساحيق التجميل – وفق ما يتطلبه الدور-.. وإنما يفاجأ بانبثاق الممثل من صلبها، كذلك الأفق البعيد الذي يلوح للجالس أو العابر للرمال عائما، حد التقاء السماء بالماء؛ فإن المتفرج لا يفقه عنه شيئا أكثر من أن الأمواج (الممثلين) تنبثق منه متقدمة نحو الشاطئ.
¨ الممثل - الممثلة :
يجسد أفراد الأمواج (جمع موج) والموجات (جمع موجة) الممثلين من الجنسين. وتختلف تموضعات – وضعيات الأمواج والموجات، كما أنها تتحرك وتتحاور بشكل تناوبي أو في مرة واحدة. من هنا، كثيرا ما لاحظنا تقدم موج – موجة محدثين جلبة، لكن الصوت سرعان ما يأخذ في الانخفاض، والحركة سرعان ما تثقل وتتقلص تدريجيا، تاركين المجال لحديث وحركة موج – موجة لاحقين. وكثيرا ما رحبنا بالأمواج وهي ترتطم بأقدامنا، مذكرة إيانا بفعل الممثل الذي يتقدم نحو المتفرج، بكل الثقة، لإشراكه في التمثيل وإدماجه في الحدث. فكأن الأمواج بملامستها لنا تحفزنا على الفعل: على الغوص والإبحار..
¨ الجمهور :
يضم الجمهور، المتطلع إلى مشاهدة لوحات مائية فريدة من نوعها، كل المخلوقات الآدمية الموجودة على امتداد المساحة الرملية، من مختلف الفئات والأعمار والشرائح الاجتماعية… يجمعهم هاجس واحد هو الفرجة.
¨ الجوقة – الكورس :
قد يحدث أن يشق سرب من الأمواج العظيمة الصخب رقعة البحر، تنطلق هذه الأمواج من بعيد مدوية بسيمفونية خاطفة، لكنها سرعان ما تتبدد وتتلاشى عند منتصف الطريق. إنها تذكر بمجموعة الكورس التي تؤدي معزوفاتها على مرمى نفس من مسرح الأحداث.
¨ الكــلام :
الكلام أول جسر يحقق التواصل، وهو ضروري لمختلف الكائنات. فكما أن للإنسان لغته الخاصة، كذلك للحيوانات لغتهم، وللنبات لغته، وللطيور لغتها، وللأسماك لغتها، وللحشرات لغتها.. والفرجة البحرية كذلك لها لغتها الخاصة التي يتحقق بها التواصل، على أن كلامها يتمثل في صورة هدير؛ فالأمواج تتبادل الهدير لتحقيق التواصل.
¨ الموسيقــى :
للموسيقى وقع خاص في أي مجال وظفت فيه. وفي المسرح تضطلع الموسيقى بوظائف مهمة تثري مقصدية العرض. الشيء نفسه يقال عن اللوحة المسرحية البحرية؛ إذ كثيرا ما تفتن المتحلقين حول الرمال موسيقى أسراب الطيور المحلقة حول البحر، العابرة أو المهاجرة، التي لا تضاهي شدوها وعزفها أي سيمفونية مهما بلغت من الروعة والجمال. وفي عزف الطيور تفعيل لفعل الأمواج وشحن للحدث البحري بالحمولة الدلالية.
¨ الإنـــارة :
لا أبلغ تعبيرا عن الإنارة من السماء المخيمة على البحر. فكأن السماء هي مسلط الضوء، أو هي الجهاز التقني المتحكم في توزيع الضوء على الخشبة. إن السماء وحدها تضفي على البحر ضوءا وظلا، وتكسبه لونها المميز الذي يساير الجو الدرامي. فهي حينا تسلط عليه إنارة زرقاء تلائم صفاء سريرة الممثل (الموج) وعمق الحدث البحري.. وحينا آخر تسلط عليه إنارة رمادية توحي بفوضى الأحداث واضطراب الشخصيات.. وقد تسلط عليه إنارة حمراء معلنة حالة الخطر التي تتهدد مصير المتفرجين الذين يشغلون فراغ المساحة الرملية.. بل إن السماء قد تعفي البحر من الإنارة نهائيا، مفسحة المجال لإظلام شامل، وهي الحالة التي يتحول فيها لون البحر إلى أسود داكن انعكاسا للون السماء الملبدة بالغيوم المنذرة باشتعال الحس التراجيدي.. وتسهم الانعراجات البرقية في تعزيز الإيحاءات التراجيدية، كأن السماء تدق ناقوس الخطر بإرسالها لخيوط البرق المتناوبة على الإشعاع.
¨ الصراع الدرامي :
يحدث أن يبلغ الصراع الدرامي ذروته حين تهرول موجة لمعانقة غواص مبتدئ - حق الخنق -.. أو تهم بقلب زورق صغير، قبل أن يبارح الشاطئ.. زورق مثقل بقطاع البحر (المهاجرين السريين) تحت تأثير مؤثرات صوتية صارخة كالريح والرعد.. وكلاهما (الزورق والمهاجرون) ما هم في حقيقة الأمر سوى بديل لقطع الديكور أو عينات الأكسسوار (الملحقات).
¨ الكوميديا والتراجيديا :
يسمح البحر بعرض تراجيديات تعتصر القلب وتفجر الدموع، تعكس قساوة قلب البحر المتحجر، إذ يلتهم روحا واثنتين وألفا.. بلا رحمة ولا شفقة، بعد صراع مرير مع الموت، ولو للحظات.. إنه حديث البحر: حديث ذو شجون.
وفي المقابل، يتسع صدر البحر لعرض كوميديات ترش القلب بماء الحياة وترسم البسمة على الشفاه، حين يمعن الممثلون (الأمواج) في مداعبة صدور الجمهور ومراوغة ألعابه المائية والحيلولة دون أداء رياضاته المفضلة على أكمل وجه.. أو حين تتعمد الأمواج مداعبة المتفرج الصغير ومشاكسته بتعريض ما شيده من قصور من رمال لطوفان ناسف.
بعد هذا، أليس البحر مسرحا
بكل المقاييس؟..