من الدموع التي سفحتها أشواقه إليها.. سالت أنهار دموع العاشقين الذين أحرقتهم نيرانها ..
ومن الضلوع التي مزقها خوفه عليها.. تحطمت أضلع المحبين على صخور غدرها ..
ذهب .. ولكنه قبل أن يتوارى سكب قصيدته في بحار العشق ليستحيل ماؤها دموعاً تبكيه .. وأمواجاً ترثيه ..
سحب الجمال جميع أرصدته من وجهه وهيئته.. ليفتح له حساباً متدفقاً جارياً في قلبه ووجدانه ..
كان دميماً بديناً ولكنه كان يمتلك قلباً يعشق السحرُ أن يسكن أحد مقاصيره ..
بينما يشغل الإبداع أحد قصوره في حين يشعل الحب أجواءه بعبق الخيال ..
كان شاعراً يعيش في حالة حب دائم.. ولكنه حب من نوع خاص ..
ذلك الحب الذي يُستخلَص من لذة الألم .. ولوعة الفكر ..وقسوة الهجر.. ونار الغدر ..
كان دائما ً– وباختياره وارادته- ما يقع في هوى الجميلات .. الغانيات .. الفاتنات.. الخائنات .. الغادرات ..
فيسلبه الجمال ..ويطوحه الهوى ..وتسحره الفتنة.. وتسحقه الخيانة ..ويقتله الغدر.. فيسقط صريع الوجد والهيام ليذوب قلبه قطرات.. أو قصائد ..أو كلمات لا تجد في أدبيات العشق والحب أعذب ولا أشهى ولا أجمل منها ..
إنه .. كامل الشناوي .. الشاعر والأديب والصحفي الأريب ..
كان شعلة متقدة من الحب بلا حدود .. كان نفساً رقيقة رقة نسائم الوجود .. ولكنه أيضاً كان متمرداً .. متقلباً .. ساخراً من كل شيء .. صاحب مزاج خاص .. كانت مجالسه الليلية متعته التي يبث فيها أوجاعه وينثر فيها إبداعه ..
وقد أقترح عليه ندماؤه أن يجعل من ابداعاته تلك كتباً منشورة كوسيلة للكسب والعيش فكان يتبسم ساخراً قائلاً :
(أفضل أن أكون لحناً في الحياة .. ولا يشغلني بعد ذلك أن يسجل اللحن في نوته يعاد عزفها .. أم يتلاشى أدراج الرياح والنسيان) !!
عاش الشناوي يقود دفة حياته .. ويذيق حسناواته وحبيباته أكؤس الهجران ..ولوعة الأحزان..
ويقلبهن على لهيب الوجد ويحرق نفسه – بإرادته- بنيران السهد ..
إلى أن ساقه القدر – رغما عنه – هذه المرة إلى الحب الأوحد في حياته ..
ذلك الحب الذي صلى صلاة التوبة في هيكله عما اقترفه طوال حياته من ذنوب في حق ضحاياه ..
ذلك الحب الذي تعمد في مذبحه.. وغاص في مسبحه .. وتعبد في محرابه .. وتمرغ في ترابه ..
أحبها كما لم يحب من قبل .. أخلص لها كما لم يخلص من قبل .. وهبها حياته وعمره وجوارحه .. بينما تلاعبت هي به ..
منحها فسلبته .. وأحبها فخدعته .. وأخلص لها فخانته .. توجها ملكة على عرش قلبه فوضعته خاتماً في اصبعها ..
كانت فنانة رقيقة الصوت دقيقة الجسم وكان هو شاعرا رخيم الصوت بدين الجسم .. هام بها عشقا ووجداً وكان يجد متعته في الوفاء إليها والإخلاص لها ..بينما وجدت متعتها في إثارة غيرته باهتمامها بغيره .. تحادثه بالصباح وتنكر نفسها منه بالمساء ..
تضحك له بالنهار وكأن الدنيا ساعتها قد ملكتها يمينه .. وتعيره تجاهلها في الليل وكأن الحياة تغادر أنفاسه ..
ظلت هي على ذلك لم ترحمه ولم يشفع له عندها هيامه بها ..
إلى أن جاءت القاصمة .. تلك اللحظة التي يخشاها ويرتاع منها كل عاشق تناهبته الظنون وتلاعبت به الريب ..
إنها اللحظة التي يتضاءل مذاق الموت إلى جانب مرارتها وقسوتها .. لحظة أن يقف وجها لوجه أمام اليقين بخيانتها له..
تللك الحظة التي طالما فر منها وواجهته .. تلك اللحظة التي طالما هرب منها وطاردته .. في أحلامه ويقظته ..
عاش كامل الشناوي هذه اللحظة الحارقة القاتلة ..
عاشها هذه المرة بحقيقتها وليس باصطناعه إياها كما كان يفعل من قبل ليسيل مشاعره غناء ..
ولكنه هذه المرة ليريق أحاسيسه دماء على ثياب القصيد ..
انزوى كامل الشناوي في أحد أركان قلبه المحطم .. وتناول قلمه الذي غمسه في مداد لوعته وعذابه .. وخط قصيدته الرهيبة ..
لا تكذبي ....
إني رأيتكما معا
ودعي البكاء
فقد كرهتُ الأدمعا
ما أهونَ الدمعَ الجَسورَ إذا جرىَ
من عينِ كاذبةٍ
فأنكرَ و ادعى
إني رأيتُكمَا
إني سمعتُكمَا
عيناكِ في عينيهِ
في شفتيهِ
في كفيهِ
في قدميهِ
ويداكِ ضارعتانِ
ترتعشانِ من لهَفٍ عليه
تتحديانِ الشوقَ بالقبلاتِ
تلذعني بسوطِ من لهيبٍ
بالهمسِ .. بالآهاتِ .. بالنظراتِ
باللفتاتِ .. بالصمتِ الرهيبِ
ويَشبُ في قلبي حريقْ
ويضيعُ من قدمي الطريقْ
وتُطِلُ من رأسي الظنونُ تلومُني
وتَشد أذني
فلطالما باركتُ كِذبَك ِكلّهُ
ولعنتُ ظني
ماذا أقولُ لأدمُعٍ سفحَتها أشواقي إليك ؟
ماذا أقولُ لأضلعٍ مزقتُها خوفاً عليكِ ؟
أأقول هانتْ ؟
أأقول خانتْ؟
أأقولها؟
لو قلتها أشفي غليلي
يا ويلتي .. لا لن أقول .. أنا .. فقولي ....
لا تخجلي
لا تفزعي مني
فلستُ بثائر ..
أنقذتِني
من زيفِ أحلامي وغدر مشاعري....
فرأيت انك كنت لي قيدا ....
حرصتُ العمر ألا اكسَره
فكسرتِهِ
ورأيتُ انك كنتِ لي ذنباً
سألتُ الله ألا يغفره
فغفرتِهِ
كوني كما تبغين
لكن لن تكوني ....
فأنا صنَعتُكِ من هوايَ .. ومن جنوني ...
ولقد برِئتُ من الهوى ومن الجنون....[/size].