قلت لأبنائي ذات يوم وقد اتخذت اسلوب الحوار معهم منهجاً والإقناع شعاراً والود طريقة قلت لهم: سأقوم بزيارة بإذن الله إلى الفيصلية وستكونون معي ضمن هذه الزيارة قالوا :
سنزور من يا أبي وهل نحن نعرفهم ؟ قلت لهم :
إطلاقاً أنا لا أعرفهم ولا حتى أنتم وهذا هو الأرجح فنظر بعضهم إلى بعض نظرة استغراب وقال لي المتحدث الرسمي عنهم وهو أكبرهم قائلاً : إذا كنت أنت ذاتك ( لهجة سودانية ) إذا كنت أنت لا تعرفهم ولا نحن نعرفهم فلم نزورهم فنحن يا أبي مقصرون في زيارة أقاربنا ومن تربطنا بهم صلة رحم ( منتشرة بيننا ) فكيف نحرص على زيارة من لا نعرفهم ؟ قلت له : قصدك فكيف أحرص أنا ، على كل حال هؤلاء القوم الذين أنوي زيارتهم أناس لا يتحدثون إلا الصدق ، ستسفيدون منهم فائدة لا تقدر بثمن ، سيحدثونكم بدون صوت وستسمعونهم بدون وسيلة مادية فنظر بعضهم إلى بعض ولسان حالهم يقول : لقد خرف أبونا ولم يعد يركز ثم تحدث أوسطهم قائلاً : لا بأس يا أبي سنرافقك في هذه الزيارة فمتى ما أردت ذلك فنحن جاهزون قلت لهم : الجمعة القادمة بعد صلاة العصر بإذن الله فقال لي أصغرهم : هذا الزمن تتم الزيارات بعد المغرب أو بعد العشاء ، ذهبت موضة زيارة العصر فقلت له : إن من سنزورهم لن يتذمروا من وقت الزيارة فهم على استعداد لاستقبال أي زائر وفي أي وقت شاء ذلك الزائر 0
جاء الموعد وانطلقنا إلى الفيصلية وكانت المفاجأة التي لم يتوقعوها فعندما وصلنا إلى باب الفيصلية قالوا لي جميعاً بلسان رجل واحد : هذه مقبرة يا أبي ولعلك قد أخطأت العنوان فقلت لهم : بل هو العنوان الصحيح وبالداخل من سنزورهم وهم في الانتظار 0
نزلنا واستأذنا الحارس وبدأنا بالتجوال بين القبور التي امتدت أمامنا والخطا متثاقلة والمشي على مهل ثم سحبت نفساً طويلاً بآهة عميقة وبدأت أتحدث إليهم قائلاً :
أنظروا أبنائي إلى عشرات الألوف من الأجداث وفيها يرقد الملايين فكل قبر قد اشتكى مما فيه من عظام لأموات كثر دفنوا في هذا القبر وكأني أنظر إلى شاعر الفلاسفة أبي العلاء المعرّي عندما قال :
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب 000فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجســـــــــــاد
رب لحد قد صار لحداً مراراً 000ضاحكاً من تزاحم الأضداد
إيه أيها الأبناء : أنظروا إلى هؤلاء ، كم منهم كان قائداً يلفت الإنتباه ؟ كم من هؤلاء كان تاجراً وثرياً كبيراً ، يملك العمائر والقصور والمؤسسات ، إن من هؤلاء أيها الأبناء من كان زبالاً أو بائع أحذية ، من هؤلاء من كان أديباً لامعاً أو شاعراً محلقاً أو أميراً مشهورا ، ابنائي ، لقد تساوى كل هؤلاء في المسكن ، فهم في باطن التراب لكن أعمالهم تجعل من قبورهم رياضا من الجنة جعلنا الله منهم أو حفرا من حفر النار أعاذنا الله منها ، إنّ قصورهم سكنت من بعدهم ، أموالهم قسمت ، حتى زوجاتهم قد تزوجت ، لم يعد لهم ذكر ، هذا واقع حالهم ، هم يقولون هذا والقرآن الكريم يقوله أيضاً :
( كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوماً آخرين )
أرأيتم أبنائي كم في هذه الزيارة من العبر ، لقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : (زورا القبور فإنها تذكركم بالآخرة ) 0
أي أبنائي هذه نهايتنا لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم لا يستطيعون أن يعملوا فقد انتهى تكليفهم أما أنتم فلا زلتم على رأس العمل ، ترى ماذا أنتم فاعلون لمثل ذلك اليوم الذي لا نعلم متى هو!
دعوا الكبر ، دعوا التفاخر ، تجنبوا الحسد ، أدوا حقوق الله ، أحسنوا ، اجعلوا أعمالكم بعيدة عن الرياء والسمعة ، نزهوا ألسنتكم عن الغيبة والنميمة وقول الزور ، نزهوا أسماعكم عن كل ذلك : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا ) ، إنه ليوشك أحدنا أن يقدم عليهم ساكناً وليس زائرا 0
أبنائي حان وقت الإنصراف لكنني أسألكم : هل ترغبون في تكرار الزيارة مرة أخرى ؟
لم يجبني أحد