العلاقة بين الطفل والأم
تبدأ أهميَّة العلاقة بين الأم وطفلها بالظهور منذ اللحظات الأولى من حياة الطفل ، وتتمثَّل هذه الأهمِّيَّة في عوامل تبدو غير مترابطة في الظاهر ، لكن ينبغي في الواقع مراعاتها وفهمها فهماً صحيحاً ، وربَّما سأل سائل عن سبب توقَّف الطفل عن البكاء فوراً عندما تحضنه أمُّه بين ذارعيها ، أو عن سبب قدرة الطفل على تمييز الوجه البشري من بين الوجوه جميعاً ابتداء من لحظة الولادة .
إن هذه العوامل تفسِّر لنا العناية الكبيرة بالمولود الجديد في المستشفى منذ اللحظات الأولى من حياته ، ولعلَّ أسرع وأبسط طريقة لتعزيز العلاقة بين الأم ووليدها تقديم الوليد إليها في غرفة الولادة بالمستشفى ، أو عندما تتمُّ الولادة في المنزل ، والسماح لها بحضنه حتى قبل تغسيله ، هذا إن لم تكن هناك معالجات فوريَّة ينبغي إخضاع الوليد لها .
ويتعرَّف الوليد الجديد بسرعة على خواص أمِّه ، فهو يشم رائحة جسمها ، ويحسُّ بحرارته ، كما يتعرَّف على الخواصِّ الأخرى لسلوكها ، تلك هي بداية علاقة بين الطفل وأمِّه تظهر منذ الشهور الأولى من حياته ، ولقد ثبت فعلاً أن الأطفال الحديثي الولادة الذين تحضنهم أمَّهاتهم إلى صدروهنَّ يقلُّ بكاؤهم ، ويتكيفون بصورة أسرع ، ويتميزون بمزاجٍ هادئ ، ويصبحون أقلُّ عرضةً للإصابة بالأمراض من الأطفال الذين يبقون بعيدين عن أمهاتهم .
ومن العوامل المهمة الأخرى صوت الأم ، فهو يمنح الطفل الدفء والأمن ، ويشرع الطفل بتمييزه فور سماعه عن الأصوات الأخرى جميعاً ، ومن الحقائق المعلومة كذلك أن الفترة الرئيسية في الاتصال الأولي بين الأم وطفلها هي فترة الاثنتي عشرة ساعة الأولى ، والحقُّ أنَّ خمس عشر دقيقة حتى عشرين دقيقة من الاتصال بين الأم وطفلها تُعدُّ كافية لتوطيد علاقة صحيَّة سليمة بينهما .
أما إرضاع الأم لطفلها من ثديها فقد اختلفت فيه وجهات النظر ، ولكن ما ينبغي معرفته هنا أن الرضاعة من ثدي الأم - من الناحية النفسية - أفضل بكثير من الرضاعة بالزجاجة ، ذلك لأنها توجد رابطة لا تنفصم بين الطفل وأمِّه ، فالطفل يشعر بلذّة لا توصف من التغذية بالثدي .
والحقّ أن إرضاع الطفل من الثدي بعد الولادة مباشرة - أي : بعد تنظيفه وإلباسه - ربما كان أفضل طريقة لإيجاد ثقة متبادلة من الناحيتين النفسية والجسميَّة بين الطفل وأمّه ، فهذه الرابطة القائمة على القرب والحنان هي من أقوى الغرائز الاجتماعية ، وهي تبدأ منذ الولادة ، والأم تحقِّق بذلك غرضاً واضحاً يمليه عليها وضع طفلها العاجز الضعيف .
فالطفل يحتاج إلى رعاية وحماية وإلى تغذية كافية ومؤانسة ، وهو يبدي أنواعاً من السلوك تعبِّر عن رغبته في الاتصال والاقتراب من الكبار ، كالبكاء والتعلُّق بهم ، وتتبعهم بعينيه أو بكامل جسمه ، أو مجرَّد الإمساك بذراعهم ، وبهذه الصلة الوثيقة يتحقَّق هدف الطفل ، ويستطيع أن يسدَّ حاجاته .
والحقُّ أنَّ قيام شخص كبير بتوفير الطعام للطفل ، ورعاية حاجاته الخاصَّة الأخرى ، وقضاء قدر كبير من الوقت معه ، كل ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى إيجاد مشاعر المودَّة ، بل يُشيع حتماً جوّاً ملائماً ، وذلك لأن مثل هذه الرابطة العاطفية يمكن أن تنمو نحو أشخاص لا يقومون بإلباس الطفل أو بتغذيته ، بل يتجاوبون وإياه تجاوباً قوياً ، أي أنهم يرغبون في تكييف سلوكهم مع حاجات الطفل الخاصَّة عن طريق اهتمامهم به ، وتعلُّمهم إشاراته الخاصَّة وتمييزها .
وهو الأمر الذي يفسِّر سبب تعلق الطفل بأمه دون المربية ، كما يفسر كذلك سبب العاطفة التي يبديها الطفل نحو أمِّه التي تقوم بمداعبته ، وتوليه اهتماماً بالغاً ، وفي الحقيقة أن التعلُّق بشخص واحد أو أكثر ليس مسألة ثابتة ، فهذا التعلُّق يتغير شكلاً ومضموناً بما يتفق وسِنِّ الطفل ، ومواقفه ، وعلاقاته مع أبويه .
فمع نموِّ الطفل تزداد قدراته الحسِّيَّة الحركيَّة ، ويزداد تبعاً لذلك احتمال مواجهته لأشياء ومواقف جديدة توسع دائرة علاقاته الاجتماعية ، فيصبح وجود الأم غير ضروري ، لتوفير الحوافز للطفل ، بل لأداء وظائف مختلفة ، ومهما يكن من أمر فإن دور الأمِّ يبقى مهماً في توفير التعليم لطفلها ، وتمكينه من ممارسة الأنشطة الثقافية والاجتماعية كافَّة .