لن يتوقف الانبهار الذي صاحبك وأنت تقلِّب صفحات الحضارة الإسلامية لأول مرة.. لأنه لم يكن انبهارًا ناشئًا عن جِدَّة المعلومات وحسْب، حتى إذا ألِفْتَهَا زال عنك الانبهار.. بل إن الإبهار والروعة كليهما يسكنان في كل تفاصيل هذا البناء الفريد (بناء الحضارة الإسلامية).. حتى ليُمكِنُنَا القول باطمئنان: إن عجائب هذه الحضارة لا تنقضي!.. ولا غرابة في ذلك؛ فقد نشأت هذه الحضارة في ظلال القرآن الذي: "لا تنقضي عجائبه!.." كما روى الحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود.
وإذا كنا قد عشنا على مدار شهور سابقة مع روائع حضارة المسلمين في الطب، ثم في الجانب البيئي، ومن بعده جانب الرفق بالحيوان.. فسنحاول – بعون الله – تقليب صفحة جديدة، لا تقِلُّ روعة عما سبق أن عرفناه من كنوز العباقرة المسلمين..
ستطل بنا هذه الصفحة على روعة ما قدَّمه المسلمون في مجال الهندسة، وبالتحديد فرع الهندسة الميكانيكية.. أو ما سمَّاه علماؤنا الأفذاذ "علم الحيل النافعة".. ذلك العلم الذي يُشكِّل مع فروع أخرى مثل: (هندسة الأشكال والمخروطات، وهندسة المساحة، وهندسة البصريَّات...) منظومة عبقريَّة لعلوم الهندسة الإسلامية، التي أحسن فيها علماء المسلمين – كما أحسنوا في غيرها من علوم الحياة – الأخذ عمَّن سبقوهم، ثم الإضافة المبدعة على هذا الذي أخذوه..
ولعل الذي يدفعنا إلى أن نختار علم الهندسة الميكانيكية لكي نبدأ به حديثنا عن علوم الهندسة عند المسلمين أنه يمثِّل بصدْق عناية المسلمين بمفهوم التكنولوجيا (الذي يعني تطبيقات العلوم).. ذلك المفهوم الذي ما إن يُطلق حتى يُظنَّ اقتصاره على عطاء الحضارة الغربية الحديثة، في حين أننا سنجد أثناء رحلتنا مع "الحيل النافعة" عند المسلمين ما لا يُتَخَيَّل وجودُه من المخترعات والآلات في تلك العصور البعيدة.. حتى يصل الأمر – كما سنرى بعد قليل – إلى أن تعرف حضارة المسلمين صورة لما يُمكن أن نسمِّيه (الإنسان الآلي!!).
وحتى يزداد تعرُّفُنا على علم الحيل النافعة (فلا يلتبس بألاعيب الحُواة مثلاً كما قد يُتوهَّم من ظاهر اللفظ!!) لا بد أن نعرف أوَّلاً الغاية من ذلك العلم عند المسلمين.. تلك الغاية التي لخَّصوها في قولهم: "الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير" بمعنى استخدام الحيلة مكان القوة، والعقل مكان العضلات، والآلة مكان البدن..
وهي نزعة حضارية، تتسم بها الأمم التي قطعت أشواطًا في مجالات العلم والحضارة، كما أنها المحور الذي تدور حوله فلسفة أي اختراع تفرزه عقول العلماء يوميًّا؛ سعيًا وراء تحسين حياة الإنسان، ورفع المشقَّة عنه قدر الإمكان.
ولعل من الأبعاد الأخلاقية التي قادت العقل الإسلامي في اتجاه الإبداع والتفرُّد في مجال الحيل النافعة أن الشعوب السابقة على المسلمين كانت تعتمد على العبيد، وتلجأ إلى نظام السُّخرة في إنجاز الأعمال الضخمة التي تحتاج إلى مجهود جسماني كبير، دون النظر إلى طاقة تحمُّل أولئك العبيد..
فلما جاء الإسلام نهى عن السُّخرة، وكرَّم العبيد؛ فمنع إرهاقهم بما لا يُطيقون من العمل، فضلاً عن تحريم إرهاق الحيوانات (كما رأينا في مقالات سابقة)، وتحميلها فوق طاقتها... إذا عرفنا ذلك، وأضفنا إليه ضرورات التعمير والبناء - بكل أشكالها – التي صاحبت اتساع الحضارة الإسلامية.. فسوف ندرك جانبًا هامًّا من دوافع هذا السبق الفريد في مجال التكنولوجيا عند المسلمين، أو قُل: ...الحيل النافعة!
ولعل من أهم إنجازات الهندسة الميكانيكية (أو علم الحيل النافعة) ما ظهر واضحًا في الإمكانيات التي استخدمها المسلمون في رفع الأحجار ومواد البناء لإتمام الأبنية العالية من مساجد ومآذن وقناطر وسدود... فيكفيك أن ترى الارتفاعات الشاهقة لمعالم العمارة الإسلامية في عصور غابت عنها الروافع الآليَّة المعروفة في زماننا.. لتعلم براعة المهندسين المسلمين في التوصل لآلات رفع ساعدت (ولا شك!) على إنجاز تلك الأعمال الخالدة... وإلا فكيف يمكن أن ترتفع مئذنة فوق سطح مسجد سبعين مترًا.. أي ما يزيد على عشرين طابقًا؟!!..
ولا ننسى في هذا السياق "سور مجرى العيون" في القاهرة أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.. والذي كان ينقل الماء من فم الخليج على النيل إلى القلعة فوق جبل المقطَّم، وكانت هناك ساقية تُدار بالحيوانات لترفع المياه لعشرة أمتار؛ فتتدفق في القناة فوق السور، وتسير المياه بطريقة الأواني المستطرقة حتى تصل إلى القلعة!
والحق أن جهود علماء المسلمين في الهندسة الميكانيكية أو "الحيل النافعة" بلغت مستوىً أذهل كل من جاء بعدهم.. وامتلأت مؤلفات المهندسين المسلمين الأفذاذ بشروح مصوَّرة لمئات المخترعات والآلات التي وصلوا إليها لتحسين الحياة من حولهم وتيسيرها بصورة تعكس مدى التمدُّن والرقي الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية ونقلت العالم إليه..
من أعلام المسلمين في الهندسة الميكانيكية "بنو موسى بن شاكر" الذين برزوا – إلى جانب الهندسة الميكانيكية – في مجالات أخرى كالفلك وغيره من العلوم التطبيقية والتقنية.. وهم ثلاثة إخوة: محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر.. عاشوا في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وشكَّلوا منذ ذلك العهد البعيد نموذجًا إسلاميًّا سابقًا لفريق البحث العلمي، وما يمكن أن يتولَّد من ابتكارات وإنجازات بتجميع جهود العلماء وتضافرها.. هذا التجميع والتضافر الذي يشكِّل اليوم سببًا واضحًا من أسباب سبق الحضارة الغربية الحديثة.
واشتهر بنو موسى في مجال الحيل النافعة – الذي نحن بصدده - بكتابهم القيم المعروف باسم: "حيل بني موسى".. الذي يحكي عنه المؤرخ المعروف ابن خلّكان قائلاً: "ولهم – أي: بني موسى - في الحيل كتابٌ عجيبٌ نادرٌ، يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفتُ عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها، وهو مجلَّد واحد..".
ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي، مع شروح تفصيلية، ورسوم توضيحية لطرائق التركيب والتشغيل، وكان استخدام بني موسى للصمامات التي تعمل تلقائيًا، وللأنظمة التي تعمل بعد زمن معين، وغير ذلك من مبادئ وأفكار التحكم الآلي، من أهم الإنجازات في تاريخ العلم والتقنية بشكل عام.
ومن أمثلة التركيبات التي توصَّل إليها بنو موسى: عمل سراج لا ينطفئ إذا وُضع في الريح العاصف! وعمل سراج يُخرج الفتيلة لنفسه، ويصبُّ الزيت لنفسه، وكل من يراه يظن أن النار لا تأكل من الزيت ولا من الفتيلة شيئًا ألبتَّة!! ومن إنجازاتهم أيضًا تنفيذ نافورة يفور منها الماء مدة من الزمان كهيئة الترس، ومدة متماثلة كهيئة القناة... وتظل هكذا تتراوح بين الطريقتين!!
كما استحدثوا كذلك آلات لخدمة الزراعة والفلاحة، مثل المعالف الخاصة لحيوانات ذات أحجام معينة لتتمكن من أن تصيب مأكلها ومشربها؛ فلا ينازعها غيرها الطعام والشراب.. وقاموا أيضًا بعمل خزانات للحمامات، وآلات لتعيين كثافة السوائل، وآلات تُثَبَّتُ في الحقول لكيلا تضيع كميات الماء هدرًا، ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية ري المزروعات.
لقد كان لكل هذه الأفكار الإبداعية أثر كبير في دفع مسيرة تقنية "الحيل النافعة" أو الهندسة الميكانيكية قُدُمًا، حيث تميزت تصاميمها بالخيال الخصب والتوصيف الدقيق والمنهجية التجريبية الرائدة.
ومن بعد "بني موسى" أتى علماء أفذاذ مثل "ابن خلف المرادي" الذي عاش فى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وألَّف كتابًا قيِّمًا في الحيل النافعة بعنوان "الأسرار فى نتائج الأفكار".. وقد اكتُشِفَت مخطوطة هذا الكتاب حديثًا (عام 1975م) في مكتبة لورنيين بفرنسا.. ويحوي الكتاب أجزاءً هامة حول الطواحين والمكابس المائية، كما يشرح أكثر من ثلاثين نوعًا من الآلات الميكانيكية، ويصف ساعةً شمسيةً متطورةً جدًا.
ومن أمثلة التقنيات المتقدمة التي صوَّرها كتاب المرادي: (حامل المصحف) الموجود فى جامع قرطبة، والذي يُتيح تناولَ نُسخة نادرة من القرآن الكريم، وقراءتها دون أن تمسَّها الأيدي، وينفتح الحامل بطريقة آلية ليخرج منه المصحف..
وفى موضع آخر من الكتاب يُقدم المرادي شرحًا وافيًا لتقنية أخرى متقدمة فى قصر جبل طارق، يتم فيها تحريك جُدران مقصورة الخليفة آليًّا عن طريق تجهيز قاعة محركات إلى جانبها!!
وقبل مرور قرن على ما أبدعه "ابن خلف المرادي" ظهر عالم جديد هو: بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل الجزري، الذي عاش بين القرنين السادس والسابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين)، وله كتابان رائدان في مجال الحيل الهندسية: أحدهما بعنوان "كتاب في معرفة الحيل الهندسية"، والآخر بعنوان: "الحيل الجامع بين العلم والعمل" (وقد تُرجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية عام 1974، ووصفه مؤرخ العلم المعاصر "جورج سارتون" بأنه أكثر الكتب من نوعه وضوحًا، ويمكن اعتباره الذروة في هذا النوع من الإنجازات التقنية للمسلمين)..
وقد تضمن هذا الكتاب الأخير ابتكارات وتصميمات متنوعة لساعات وروافع آلية، يتم فيها نقل الحركة الخطية إلى حركة دائرية بواسطة نظام يعتمد على التروس المسننة، وهو الأساس الذي تقوم عليه جميع المحركات العصرية.. كما يضم الكتاب عدة أقسام: أطولها قسم الساعات المائية.. إلى جانب قسم آخر يعالج موضوع آلات رفع الماء.
وكانت ساعات الجزري تستعمل دُمًى ذاتية الحركة لتشير إلى مرور الوقت، مثل طيور تقذف من مناقيرها كرات صغيرة فوق صنوج، أو أبواب تفتح ليخرج منها أشخاص، أو دوائر بروج تدور، أو موسيقيين يقرعون الطبول وينفخون الأبواق، وفي معظم هذه الساعات كان المحرك الأول ينقل الطاقة إلى الدمى بواسطة أنظمة بكرات بالغة الدقة
أما قسم آلات رفع الماء ففيه وصف لتصميم مضخة يعتبرها المؤرخون الجَدَّ الأقرب للآلة البخارية، وتتكون هذه المضخة من (ماسورتين) متقابلتين في كل منهما ذراع يحمل مكبسًا أسطوانيًا، فإذا كانت إحدى الماسورتين في حالة ضغط أو كبس فإن الثانية تكون في حالة سحب أو (شفط).. ولتأمين هذه الحركة المتقابلة المتضادة يوجد قرص دائري مسنن قد ثبت فيه كل من الذراعين بعيدًا عن المركز، ويُدار هذا القرص بواسطة تروس متصلة بعامود الحركة المركزي، وهناك ثلاثة صمامات على كل مضخة تسمح بحركة المياه في اتجاه واحد من أسفل إلى أعلى، ولا تسمح بعودتها في الاتجاه العكسي.
ومن عجيب ما يُنسب للجزري أنه أول من اخترع (الإنسان الآلي المتحرك للخدمة في المنزل!!).. حيث طلب منه أحد الخلفاء أن يصنع له آلة تُغنيه عن الخدم كلما رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له آلة على هيئة غُلام مُنتصب القامة، وفي إحدى يديه إبريق ماء، وفي اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر.. فإذا حان وقت الصلاة يُصَفِّرُ الطائر، ثم يتقدم الخادم نحو سيده، ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين، فإذا انتهى الخليفة من وضوئه يقدِّم له الغلام المنشفة ثم يعود إلى مكانه، والعصفور يغرد!!
وهكذا نرى أن علم الحيل النافعة (أو ما يمكن أن يُطلق عليه اليوم: الهندسة الميكانيكية) قد اتَّخذ – على يد روَّاد الحضارة الإسلامية – اتجاهًا نافعًا للإنسان في حياته اليومية، تحِلُّ فيه الآلة محل الجهد العضلي قدر الإمكان.. بعد أن كانت غاية السابقين من علم "الحيل" لا تتعدى استعماله في التأثير الديني والروحي على أتباع مذاهبهم: مثل استعمال التماثيل المتحركة أو الناطقة بواسطة الكُهَّان، أو استعمال الآلات الموسيقية والمصَوِّتة في المعابد... حتى جاء الإسلام فجعل الصلة بين العبد وربه بغير حاجة إلى وسائل وسيطة أو خداع بصري.. وأصبح توفير جهد ووقت الإنسان باستعمال آلات متحركة (ميكانيكية) هو الهدف الجديد لتقنيات "الحيل النافعة" في ظلال الحضارة الإسلامية.. الأمر الذي يؤكد – من جهة أخرى – أن ذلك المجال عند المسلمين لم يكن مقتصرًا - كما زعم البعض - على صُنع ألعابٍ من أجل التسلية وحَسْب!!.
ونسأل الله تعالى أن يُعيد لأمَّة الإسلام سالف أمجادها، وأن تتيقَّظ همم المسلمين وعقولهم للنسج على منوال أجدادهم العظام.