فن كاريكاتور

يحتل فن الكاريكاتور مكانة مرموقة ومهمة ضمن باقي الأجناس التعبيرية التشكيلية الأخرى.. لذلك فهو يحظى باهتمام وتقدير الجميع.. لأنه أداة تعبيرية تتجاوز الإرسالية الإبداعية "لتزعزع" الخطاب السياسي الملفوف بكل أنواع الرقابة الخارجية (وحتى الداخلية).. الكاريكاتور وفق هذه الازدواجية وسيلة للإفصاح عن السكوت عنه.. وتعرية الطابوات التي تبتكرها السلطة والمخزن.. بل هو خطاب ساخر في شكله وفاعل في محتواه.. وقادر على توعية الشعب وتقريب المشكلات من فكره.. لهواة هذا الفن الساخر / الجاد نقدم المقال التالي: الكاركاتور كما عرفه اللغويون هو: "فن الإضحاك بالتضخيم، أو المسخ، لصورة شخص ما، أو قضية ما، يهدف الانتقاد والسخرية ". ويعرفه آخرون كونه: "فن مضحك في ظاهرة.. ناقد مدلوله "أما التعاريف التي حددها رسامو الكاريكاتور فإنها لاتوجد على شاكلة واحدة وإن كان معظمها يلتقي في بؤرة المعنى بسبب تعدد الرؤى والاتجاهات التعبيرية المتبعة. فالرسام السوري الساخر علي فرازات يعرف الكاريكاتور بأنه: "أكثر الفنون ملاءمة للتعبير عما نحن فيه من واقع سياسي واقتصادي واجتماعي، كما أنه فن قائم بذاته.. فهو لايستعير من الفنون الأخرى أدواتها، بل يعتمد على أدواته الخاصة به". بينما اعتبره الفنان الراحل ناجي العلي الذي عانق الرسم لأول مرة بمخيم عين الحلوة في جنوب لبنان مرورا بتجربة بيروت حيث عمل كرسام للكاريكاتور في مجلة "الحرية" اللبنانية، وتجربة الكويت التي تميزت باحترافه فن الكاريكاتور بمجلة "الطليعة" قبل أن يراوده الحنين - بعد حرب اكتوبر 1973 - بالعودة إلى بيروت حيث اشتغل بصحيفة "السفير اللبنانية" أعتبره بمثابة رسالة يتخاطب بها الفنان مع الناس.. فهو رأي الفن التشكيلي كون هذا الأخير لم يثبت على أنه فن موصول بالناس.. فهو رأي الفن التشكيلي كون هذا الأخير لم يثبت على أنه فن موصول بالناس.. فهو رأي الفن التشكيلي يضيف "ناجي العلي" ليس فنا شعبيا.. مرددا ذلك بصعوبة الظروف التي كانت تلزم على الفنان القيام بدور فاعل ومؤثر.. وهو ما ليس في قدرة الفنان التشكيلي وذلك فقط بالنظر لطبيعة فنه.. على عكس فنان الكاريكاتور الذي هو فنان شعبي أولا وأخيرا... ولا أعتقد بأن الرسام الكاريكاتوري ناجي العلي كان يرمي، من قولته هذه، إلى الإساءة إلى الفنان التشكيلي وما يقوم به من أعمال إبداعية بقدر ما يمكن اعتبار ذلك عصارة مخاض ظروف خاصة (نعرفها ونقدرها) عاشها ناجي العلي الإنسان والرسام، مليئة بكل أشكال المعاناة والتضييق والحصار انتهت بفراقه للحياة يوم 29 غشت 1987 على اثر عملية الاغتيال الغادر الذي نعرض له يوم 22 يوليوز من نفس السنة بأحد شوارع العاصمة البريطانية لندن وهو منهمك في فرز رسم كاريكاتوري من رسوماته الساخرة. قال عنه الصحافي والكاتب التونسي الصافي سعيد (انظر كتابه "الحمى 42). لا أنبياء ولاشياطين" الذي نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي في حلقات خلال الصيف الماضي". "فطوال حياته لم يرسم ناجي إلا نفسه، تلك مأساته مع اللون.. قبله اخترع الرسامون كل شيء من أجل أن يخترعوا لهم جمهورا. أما ناجي فقد اخترع لنفسه شخصا آخر.. ليس هو القناع، ليس هو الظل.. إنما هو التفتت في جميع المساحات.. لا بل هو التوحد..." "رسام نحرسه لوحاته... وآخر يحرس لوحاته.. لكن ما بال الموت لايأتي.. وقد أتى الضريح.. ذلك الضريح الأكثر سحرا في الشرق.. فهل يتسع الضريح للفنان أم للوحات؟". وعن وجود حنظلة (الطفل الرمزي الذي أحيطت به مجموعة من التفسيرات والتأويلات أغلبها انطباعية) في جل رسوماته، فقد سبق لناجي العلي أن رد على التساؤل قائلا: "سئلت كثيرا عن موضوع الصبي.. وكل ما قيل بشأنه (ضمير، شاهد، مراقب خصوصي..) يمكن أن يكون صحيحا... غير إنني أضيف فالقول أن هذا الصبي هو رمز.. رمز ذاتي في العمق لناجي العلي، وعندما وسمته كنت أحاول أن أعكس ذاتي الشريدة المراقبة من خلاله. في مثل سن هذا الصبي خرجت من فلسطين وعشت تجربة المخيم وبدأ وعيي السياسي والحياتي ينفتح على القهر والفقر والتوق إلى الحرية والعودة إلى معاناة الوطن.." (أنظر نص الحوار الذي أجراه الأستاذ أحمد فرحات مع الفنان الراحل ناجي العلي سنة 1982 والذي لم تنشره مجلة الكفاح العربي سوى في عددها 487 عام 1987). أما الرسام الكاريكاتوري المغربي (العربي الصبان ) فيعرف فن الكاريكاتور كونه وجها آخر لحرية التعبير.. بل يمكن الذهاب إلى أبعد والقول أن المقياس الحقيقي لوجود حرية تعبير حقيقية وفعلية هو وجود الكاريكاتور الحر.. والكاريكاتور العربي (يضيف الرسام العربي الصبان) مازال مقيدا ولايتنفس إلا بالقدر الذي يتيحه المناخ السياسي السائد. فالكاريكاتور متهم بصورة مكشوفة حتى للأطفال.. فما بالك أن كان هذا الكاريكاتور في مواجهة عقد الأنا السياسية المتضخمة التي لا يتسع صدرها للنقد الساخر، وترفض الكاريكاتور الساخر... ويقول الرسام على فرازات (المولود بسوريا عام 1946 والحاصل على عدة جوائز تقديرية أبرزها الجائزة العالمية للكاريكاتور المخصصة للمحترفين في مهرجان صوفيا (بلغاريا) سنة 1987 - يرسم في صحيفة الوطن الكويتية اليومية ملخصا تجربته وفلسفته الإبداعية على أفكار أو منطلقات فلسفية وببساطة فلسفتي كرسام أن أبقى إيجابيان أساهم في بناء الإنسان الجديد، والنهضة الاجتماعية وهذا يقتضي أن تكون رسومي تحريضية لاتنفيسية، كما هو الحال عند دريد لحام الذي يمارس النقد التنفيسي في مسرحياته الساخرة..." واستنادا إلى نظرية هذه، فإن علي فرزات يستمد مواضيعه ببساطة كبيرة من البيئة المحيطة فتاتي رسوماته متضمنة قضايا أساسية إنسانية وقومية واجتماعية.. في جوهرها وليس في ظاهرها. قال عنه الناقد فايز محللا جوان من تجربته الإبداعية: "إن الإشارة إلى بعض تقنيات الإبداع عند فرزات، على نحو ما تقدم منها، تستوجب أكثر من قراءة.. فاللوحة عنده "خشبة مسرح" ينبغي ترتيب الأشياء والأشخاص فيها بما يتناسب ويتناغم مع وظيفتها في إيصال الفكرة إلى الجمهور أولا، ذلك أن هناك ارتباط عميق بين الشكل والمضمون، حيث أن الأخير، ومهما بلغ من الأهمية، إنما يحتاج إلى وعاء يحتويه، مقدما إياه لجمهور النظارة، محركا مشاعرهم، وأحاسيسهم. وأهمية إبراز الخط الأسود في رسومات فرزات، إنما تأتي كجزء موضح ومصور لنمطية الحياة التي يعيشها الناس موضوع أعمال فرزات، أو هي إبراز لحقيقة الظواهر التي تتناولها الرسوم، ثم هي تمييز للوحة الكاريكاتير المنشورة في صفحة من جريدة غالبا ما يكون الأسود والأبيض. مساحتها الكلية، ولذا تحتاج اللوحة إلى ما يميزها عن محيطها. وخطوط الشخصيات لها طابع مميز، إذ هي غالبا ما تساهم في تقديم الشخصية المرسومة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية الثقافية، إذ أن لكل شخصية خطوط مميزة تقدمها بشكل مقنع للقراءة: فرجل السلطة والثروة متميز في لباسه وموقعه في المكان، وله خطوط أكثر بساطة، تنم عن حياته المرهفة والمريحة، وغالبا ما تضاف تمنات؟؟؟؟؟ لهذه الشخصية مثل الخواتم والأزرار والسلاسل الذهبية. والشخصيات العادية، تتجه خطوطها نحو البساطة، فيما تكون شخصية الفقير ذات خطوط متعرجة، ليناسب الرسم، تعابيرها غير المرتاحة نفسانيا واجتماعيا، وكذلك ماديا.. وباختصار - كما يقول فرزات - ينبغي تطويع خلفية اللوحة ومحتوياتها، وخطوط الرسم - وكلها تقع في إطار الشكل - من أجل خدمة المضمون الذي يشكل الفكرة، وبهذا فقط يكتمل العمل الإبداعي عند أي فنان". ويمكن أن نسرد، في هذا المضمار - على سبيل المثال لا الحصر - أسماء عربية مبدعة استطاعت بدهاء كاريكاتوري خاص أن تجسر المسافة بينها وبين القراء عبر الجرائد والصحف والمجلات التي تشتغل فيها كمحمود كحيل ورشيد قاسي (مجلة الشاهد) وبيار صادق من لبنان (مؤسس أول تجربة تلفزيونية عربية وعالمية لفن الكاريكاتور) وبهاء الدين البخاري (من مواليد القدس وصاحب تجربة كاريكاتورية متنوعة بالكويت وتونس وليبيا). وعلى عبيد التونسي (مولود عام 1938 بتونس وعضو اتحاد الفنانين التشكيليين التونسين). إضافة إلى مواطنه توفيق الكوكي (ولد عام 1956 وبدأ حياته الفنية منذ سنة 1978، يعمل حاليا كمسؤول عن المعارض الفنية التي تشرف عليها وزارة الشؤون الثقافية في قاعة الأخبار بتونس) فضلا عن محمد عليوة (حمودة) صانع الرسوم التوضيحية بجريدة الاتحاد الاشتراكي الذي ودعنا مؤخرا والتحق بالرفيق الأعلى، ونور الدين حيال (مولود عام 1966 وأحد أبرز المشاركين في مهرجان مراكش لفن الكاريكاتور)، ومحمد حسني (أستاذ التربية التشكيلية من الحسيمة)، والدرقاوي... وغيرهم كثير... بين بهجوري.. وسكارف.. تختلف، كما هو الحال في باقي الأجناس الإبداعية التشكيلية الأخرى (رسم، نحتن غرافيك...) أساليب التعبير من رسام كاريكاتور إلى آخر.. ونقدم (اختزالا ) في هذا الجزء تجربتين كاريكاتوريتين مختلفتين: الأول يمثلها المصري جورج بهجوري والثانية للبريطاني جيرالد سكارف. فبهجوري (الذي بدأ حياته الفنية كرسام في مؤسسة "روزاليوسف"، ثم رسخ موقفه داخل خريطة الحركة التشكيلية المصرية إلى جانب بعض روادها كعبد الهادي الجزار، وحامد ندا، وادام حسين، والنحات جمال السجينين وسمير رافع.. وغيرهم ) يعتبر واحد من أبرز رسامي الكاريكاتور بالوطن العربي حيث نال العديد من الجوائز العالمية في هذه الأضرب من الفنون أبرزها بإيطاليا وإسبانيا ويوغوسلافيا (سابقا). إن المتأمل في الإبداعات الكاريكاتورية لجورج بهجوري - صاحب الرحلة الإبداعية الطويلة بفرنسا التي دامت زهاء 27 سنة وانطلقت عام 1969 - سيجد نفسه أمام حالات كثيرة من الاغتراب عاشها بهجوري بالديار الفرنسية وجسدها في جل رسوماته بخطوط ظلاله المعروفة، وبتقنيات خاصة كالحبر الصيني والصباغة المائية (اللونمائية) أغلبها يمثل وجوه وبورتريهات مشوهة.. معطوبة ومتلاشية الملامح...). لبهجورين الذي يعتز بمولده مرتين على حد قوله: "المرة الأولى في بهجورى بصعيد مصر عام 1932، والمرة الثانية في باريس عام à 1969 ، ثلاثة كتب متميزة في فن الكاريكاتور هي: (بورسعيد - 1959)، (السادات - 1980) و(الباريسي - 1990). إضافة إلى مجموعة من المذكرات الباريسية الضاحكة التي صدرت في كتاب بعنوان ساخر: "بهجر في المهجر". أما جيرالد سكارف (الذي ظهرت رسومه كثيرا في الأسبوعية "الصانداي تايمز" فيعتبر أكثر رسامي الكاريكاتور البريطانيين حدة ولذعة.. فالوجوه التي يرسمها، وجلها لشخصيات سياسية عالمية معروفة يقدمها على شكل حيوانات مفترسة وسحرة وعفاريت : فقد رسم نورمان تيبت في هيئة ذئب مفترس ومارغريت تاتشر على شكل كلبة من نوع خاص. وقدم نيل كينوك على شاكلة حمار ذلول!.. رجال السياسة (موضوع سكارف الرئيسي، في رسومه مسوخ ممطوطة ومجرورة ومبعجة. ومخلوقات مشوهة. ميثولوجية.. رسم مرة الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في هيئة الفأر ميكي ماوس، ومرة أخرى على شكل مسدس مكتوب عليه REAGUN made in USA))... مسدس شاغر الفم يقول: اللعنة، إذا لم يملك الناس الحقد في أن يقتل بعضهم فأي عالم هذا!. سبق أن صدر لجيرالد سكارف كتاب بعنوان: (سكارف حول سكارف) يعكس أسرار سخريته المستفزة في رسومهن ويحكي من خلاله عن طفولته وجوانب من ظروف تمدرسه فضلا عن علاقته بجده صاحب الفضل في بروز نجمه. يقول سكارف: "بالرغم من أن والت ديزني كان بطلي الكبير في صغري.. وكنت انتظر باستثارة أفلامهن إلا أن أول تأثير فني على كان جدي لأبي. وكنت أثناء العطل أذهب لأبقى معه ومع جدتي.. لقد كان ساحرا في أعمال الخشب. يستطيع أن يحوله إلى أي شيء يرغب فيه. وكان مشغلة في مرأب البيت بهجة الطفولة كصفوف من الأزاميل والمخارز والمساحج والمناشير. رفوف من أوعية الأصباغ الملونة البراقة، لعب نصف منجزة، والأرض مغطاة بنشارة الخشب حتى كاحل القدم...". وتحضرنا أخيرا صورة كاريكاتورية تعكس في عمقها نظرة البريطانيين التاريخية الحاقدة للألمان والتي لم تتغير مند الحرب العالمية الثانية: "فعندما قرر اتحاد الكرة الألمانية في برلين، توافق موعد المباراة بمحض الصدفة مع يوم مولد هتلر في 20 أبريل.. وقد كان من السهل على رسامي الكاريكاتور استنساخ رسوم كاريكاتورية نشر بعضها في صحيفة ديلي ستار عام 1990. فقبل لقاء الفريقين في مباراة الدور الأول قبل النهائي في كأس العالم نشرت الصحيفة رسما صورت فيه المباراة على أنها إعادة للمواجهة التي حدثت بين بريطانيا وألمانيا في العرب العالمية الثانية، يظهر هتلر وقد خط الشيب رأسه وهو جالس في منفى وهمي في أمريكا الجنوبية يتابع المباراة على شاشات التلفزيون بكل جدية، وإلى جواره يقف مرافقوه يحثونه على ضبط أعصابه قائلين: "أرجوك تمالك أعصابك ياسيدي الفوهرر، إنها مجرد مباراة كرة القدم" (رويتركيفين ليفي). لم أجد أخيرا - ما أهديه إلى روح فقيد الكاريكاتور المغربي والعربي محمد عليوات (حمودة) - تغمده الله برحمته الواسعة - سوى هذا المقال المتواضع كعربون صداقة ومحبة. تعازينا الحارة لأسرة المرحوم الصغيرة والكبيرة وإنا لله وانا إليه راجعون.

مقال رائع وجميل ورجمة الله على ناجي العلي