أمـل فتاةٌ تُحِبُّ العمل .. وتُبغِضُ التواني والكَسَل .
ذات مَرَّةٍ سارت بين الحُقولِ تبحثُ عن أمـلٍ فَقَدَته مُنذُ زَمَن .
وأمامَ إحـدى الحدائق توقَّفَت .. أَحَسَّت بجمالِها .. فقرَّرت أن تدخلَها .
وبعـد دخولِها بـدأت تنظرُ لثِمارِها وأزهارِها وأشجارِها ،
وتستنشِقُ طِيبَ هواءِها ، وتشربُ مِن عَذْبِ ماءِها .
تجوَّلَت فيها كثيرًا .. ورأت أن تُقيمَ فيها .
وبينما أمـل تتجوَّلُ في تِلكَ الحديقةِ ذاتَ يومٍ ، إذ قابلَت رَيحانـة .
أَحَسَّت بشئٍ يَجذِبُها نحوها ، وكأنَّها تعرِفُها ، فأَحَبَّتها ، وكلَّمتها كلماتٍ قليلةً .
وأثناءَ حديثِها معها ، أَحَسَّت ببعضِ الحُزنِ في كلامِها .
فبدأت تنصحُها ، وتُحاوِلُ التَّخفيفَ عنها ، رغم أنَّ رَيحانـةَ لم تُخبرُها بسببِ حُزنِها ، وكانت تُعامِلُها مُعاملَةً جافةً رُبَّما كانت خاليةً مِن أىِّ عاطِفة .
لكنَّ أمـل _ رغم إحساسِها بذلك _ إلاّ أنَّها كانت تُعامِلُها كأُختٍ لها في الله ؛ تُحِبُّ لها ما تُحِبُّ لنفسِها .
مَرَّت الأيَّام ، وبدأت رَيحانـةُ تُحِبُّ أمـل وتقتربُ مِنها أكثر ، لكنَّها كانت وكأنَّها تقتربُ مِنها بحَذَر .
أمـل أَحَبَّت رَيحانـة ، واعتبرتها صديقةً لها ، وأُختًا لها في الله ، فبدأت تُفَضفِضُ إليها ببعضِ مُشكلاتِها ، وتُعِبِّرُ لها عن بعض أحاسيسِها نحوها ، لكنْ لَعلَّ رَيحانـةُ لم تكن تُحِبُّ أمـل بنفسِ درجةِ حُبِّ أمـل لها ، لكنَّها كانت تتقبَّلُ كلامَها ، ورُبَّما كانت تستمِعُ لها وهى لا تدري ما تقول ، فأفعالُها وطريقةُ تعامُلِها مع أمـل لا تدُلُّ على أنَّها تعتبرُها صديقةً لها ، وكأنَّها مُجرَّدَ فتاةٍ قابلَتها في الحديقة ، فعاملَتها بالمعروف ، وخشيَت أن تبوحَ لها بما داخلها مِن عـدم تقبُّلٍ لها فتجرحُها .
ومع مـرورِ الأيَّام ، أَحَسَّت أمـل بهذا دُونَ أنْ تُخبِرَها رَيحانـة .
شعرت أمـل وكأنَّها تُثقِلُ على رَيحانـة حين تُحدِّثُها عن مُشكلاتِها ، خاصةً وأنَّها لن تستطيعَ حلَّها .
أَحَسَّت بأنَّها مصدرُ إزعاجٍ لـ رَيحانـة .. فبـدأت تُقلِّلُ حديثَها معها ، وتوقَّفَت عن بَثِّ هُمومِها لها ، لأنَّها تُحِبُّها ، ولم تُرِد إزعاجَها ، ولم تُحاوِل إجبارَها على حُبِّها أو قبولِ صداقتِها ، وفي نفسِ الوقت ما زالت تُحِبُّها .
وأثناءَ ذلك ، لاحَظَت أمـل أنَّ نسمـةَ تُحاوِلُ الاقترابَ مِنها ، وتُبدي إعجابَها بها ، وحُبَّها لها ، ولم تكن تُخفي مشاعرَها عنها .
أخَـذَت نسمـةُ تقتربُ من أمـل شيئًا فشيئًا ، حتَّى وَصلَت إليها ، واستطاعت الدخولَ لقلبِها ، لأنَّها أَحَبَّتها بصِدقٍ في الله .
أَحَسَّت أمـل أنَّ حُبَّ نسمـة لها يُشبهُ حُبَّها لـ رَيحانـة ، ورُبَّما أكثـر .
كانت نسمـةُ تتوَّدَّدُ إليها ، وتسألُ دائمًا عنها ، وتتمنَّى أن يجمعَها اللهُ بـ أمـل في جَنَّتِه .. وكانت أمـل تُبادِلُها نفسَ المشاعِر .
ومَـرَّت الأيَّامُ تِلْوَ الأيَّام ، وما زالت أمـل داخلَ الحديقةِ ، تتنقَّلُ بين زُهورِها ، وتَشُمُّ أجملَ عُطورِها ، حتَّى أتَى يـومٌ أَحَسَّت فيه أمـل بأنَّ الحديقةَ بِكُلِّ مَن فيها بـدأت تَمَلُّها ، وتشعرُ بِثِقَلِها ، وكأنَّها دخيلةٌ على الحديقة ، وكأنَّ الجميعَ يقولُ لها : ارحلي عَنَّا ، فلا نُريدكِ بيننا ، نحنُ أَحِبَّةٌ مُتآلِفُونَ ، وأنتِ بيننا غريبة ، اتركينا وابحثي عن حديقةٍ أخرى غير حديقتنا .
حاولَت أمـل أنْ تكسِبَ حُبَّهم ، وأن تستقِرَّ بينهم ، لكنَّهم لم يكونوا ليقبلوها رغم أنَّها تُحِبُّهم .
قرَّرَت أمـل بعد تفكيرٍ عميقٍ أنْ تتركَ الحديقةَ ، فهى لا تُريدُ إزعاجَ أَحِبَّتِها ، ولا تُحِبُّ البقاءَ بينهم وهم لا يَرضونَ بذلك .
بـدأَت أمـل تتنقَّلُ بين الحدائق ، وتستقِرُّ في كُلِّ واحدةٍ أيَّامًا أو شُهورًا ، تبحثُ عن أمـلٍ تفتقده ، وتبحثُ عن حُبٍّ فلا تجده .
شعرت أمـل بشئٍ مِن اليأسِ يَدُبُّ في نفْسِها ، ويُعكِّرُ صفوَ حياتِها ، فبدأَت تُساءِلُ نفسَها :
وَلِمَ الحُزنُ يا نفْس ..؟! وَلِمَ الهُمومُ واليأس ..؟! أنسيتِ أنَّ لكِ رَبَّاً خالِقًا عالِمًا بكِ وبحالكِ ..؟! أنسيتِ أنَّه سُبحانه يُقسِّمُ الأرزاقَ بين العِباد ، وأنَّ حُبَّ العبدِ رِزقٌ يَهبه لِمَن يشاء ..؟! أنسيتِ يا نفسُ أنَّ حُبَّ اللهِ جَلَّ وعَلا أعظمُ مِن أىِّ حُبّ ..؟! فهلاّ ملأتِ به القلب ..!! هلاَّ سعيتِ يا نفسُ لتحصيلِ مَحبَّةِ اللهِ جَلَّ وعَلا بفِعلِ الطاعاتِ واجتنابِ المُحرَّمات ..؟!
لَعلَّ الناسَ لم يقبلوكِ ، ولَعلَّ الحدائِقَ لم تتَّسِعُ لكِ ، ولَعلَّ مَن عرفوكِ لم يُحِبُّوكِ .. ولَعلَّ في هـذا خيـرًا لكِ مِن حيثُ لا تشعرين .. ولَعلَّه بذنوبكِ وتقصيركِ .. فلا عليكِ مِن الناس ، دعيهم وشأنَهم ، ولا تُفسـدي عليهم حياتَهم ، وارحلي مِن حديقتِهم .. لكنْ لا تنسي نسمـة ، تلك الفتاة التي أَحَبَّتكِ بصِدق ، تلك التي جعلت تعامُلَها مع مَن حولَها بلِينٍ ورِفق .. كوني بالقُربِ مِنها ، فقد أنارت جانِبًا مُظلِمًا مِن حياتِك .. ولا تنسي أن تطمئنِّي على رَيحانـة ولو مِن بعيد .. ولَعلَّ اللهَ تعالى أن يرزقكِ قلوبًا صادِقةً ، تقترِبُ مِنكِ وتُحِبُّكِ ، فيُظِلُّكم اللهُ تعالى في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّه .
بقلـم / الساعية إلى الجنة