عفن المنازل.. يقود ساكنيها إلى الاكتئاب
في اول طرح علمي مثير: الدماغ يتأثر به وبميكروباته ومواده المتحللة
المنازل التي ينتشر فيها العفن تسبب مشاكل صحية (كي آر تي)
الرياض: د. حسن محمد صندقجي
واحدة من القضايا البيئية الطبية، التي لا تزال محل جدل علمي من دون وضوح في الإرشادات حولها من قبل الهيئات المعنية بالبيئة والصحة، هي عفن المنازل. والملاحظة التي تم طرحها اخيرا، في عدد أكتوبر (تشرين الأول) من المجلة الأميركية للصحة العامة، قد تُثير فقط دهشة البعض أو فضول آخرين، باعتبارهم إياها معلومة عامة طريفة. لكنها لدى الباحثين الطبيين قد تزيد، حال ثبوتها، الأمور تعقيداً في جانب الأضرار الصحية المرتبطة بعفن المنازل ورطوبتها، ما يرفع من أهمية النظر الطبي والعام إليها. وكان العلماء من جامعة براون بالولايات المتحدة قد توصلوا إلى نتيجة مفادها أن ثمة تأثيرات سلبية للرطوبة وعفن المنازل في الحالة النفسية لساكنيها. وتحديداً قال الباحثون، في ما يُعتبر أول طرح بحثي علمي لها، ان سُكنى تلك النوعية من البيوت يرفع بشكل لا يُمكن إغفاله نسبة الإصابات بالاكتئاب. و "زيادة التعقيد" بالنتائج هذه عما هي عليه الأمور، تطال كلا من موضوع عفن المنازل وآثاره الصحية، وموضوع الاكتئاب وأسبابه الخفية.
* تأثر الدماغ ويعتبر البعض أن الملاحظة العلمية هذه إمساك ببدايات خيط جديد في جهود البحث عن أسباب نشوء الاكتئاب. وفي حال سكن تلك الدور المتعفنة، قد يتأثر الدماغ إما بالرائحة المنبعثة من الرطوبة والعفن، أو بنفس الميكروبات المتسببة في نشوء بؤر العفن تلك والمنتشرة في هواء تلك المنازل، أو بالمواد الكيميائية التي تنتج عن عمليات التعفن في ما بين الميكروبات والمواد المتحللة، وانتشارها في الهواء. وهو ما يُمكن التعامل معه إيجابياً في تحسين نفسية السكان عبر اتباع أي وسيلة للقضاء على الميكروبات المتسببة بالعفن، وعدم إعطائها فرصة للنمو والتكاثر واستيطان الأجزاء الخفية في المنزل. أي ما قد يتوافق مع تلك النصيحة القديمة بفتح النوافذ وتعريض أجزاء المنزل للتهوية وأشعة الشمس، كي تنشرح نفس الإنسان ويتحسن مزاجه.
بيد أن لب الموضوع ليس في هذا، بل في ما يجب أن تكون عليه النظرة الصحية إلى العفن كأحد الملوثات البيئية لداخل المساكن. والمعلوم أن ثمة اهتماماً علمياً واسعاً ومتواصلاً في السنوات القليلة الماضية حول دور نقاء البيئة المنزلية في الوقاية من الأمراض ودور تلوثها في تلك الأمراض المتشعبة. وذلك ضمن منظومة أوسع من الأبحاث والدراسات، التي تطرق إليها مراراً ملحق الصحة بـ "الشرق الأوسط" ، في محاولة كشف الأسباب البيئية لأمراض كثيرة، قد لا يتصور البعض علاقتها أو ارتباطها بالبيئة المحيطة بنا. لكن تظل إشكالية الاهتمام العلمي الطبي بعفن المنازل أنه لا تُوجد أي إرشادات واضحة حوله، كما سيمر بنا في العرض.
* دراسة موسعة ولمحاولة التعرف على العلاقة المحتملة بين عفن المنازل وأي اضطرابات في الصحة النفسية، راجع الدكتور إدموند شيناسا، المتخصص في صحة المجتمع بكلية الطب التابعة لجامعة براون، وزملاؤه الباحثون ملفات منظمة الصحة العالمية التي تم تجميعها بين عامي 2002 و2003، والمتعلقة بسكان منازل في ثماني مدن أوروبية. وهي أنجيه بفرنسا، وبون بألمانيا، وبراتسلافا بسلوفيكيا، وبودابست بهنغاريا، وفيرايرا دو ألينثيو بالبرتغال، وفورلي بإيطاليا، وجنيف بسويسرا، وفيلنيس بلتوانيا. وكان قد تم في تلك المعلومات سؤال حوالي 6 آلاف رجل وامرأة يسكنون في منازل تلك المدن، وينتمون إلى أكثر من 3 آلاف أسرة حول أحوالهم الصحية. وتراوحت أعمار المشمولين في الدراسة بين 18 و 104 سنوات، وتم اختيارهم عشوائياً، لكن ليكون عدد الرجال مساوياً للنساء. وعلى وجه الخصوص في ما لو سبق تشخيص إصاباتهم بالاكتئاب من قبل الأطباء خلال السنة الماضية. كما أن من ضمن ما سُئلوا عنه شعورهم بأي من أربعة أعراض للاكتئاب، خلال الأسبوعين الماضيين، وهي مواجهة صعوبات في النوم، وضعف شهية الأكل، ومدى احترام الذات والرضا عنها Self-Esteem ، وتدني الاهتمام بأنشطة الحياة اليومية. واعتبر الباحثون أن معاناة أي منهم بثلاثة أو أكثر من هذه الأعراض تدل على وجود حالة اكتئاب لدى الشخص.
وسُئل كل منهم عما إذا كان يشعر بأن له قدرة وسيطرة على التحكم في ظروف البيئة المنزلية وتغييرها إن أراد، ومدى معاناته من أي واحد من الأعراض الستة المرتبطة بالإقامة في منازل رطبة والتعرض للعفن فيها. وتحديداً مشاكل الحلق ونزلات البرد، أو صفير الصدر، أو نوبات الربو أو غيرها من الاضطرابات التنفسية، أو التعب والخمول، أو الصداع، كذلك رصد المعلومات المتعلقة بالصحة العامة لهم والأمراض التي قد يُعانون منها.
كما تم سؤال قاطني هذه المساكن عن مدى تقييمهم للحالة المنزلية وظروفها. وقام الباحثون بتفقد مساكنهم، وأجروا تقييماً بصرياً، فقط، عبر معاينة كل منزل على حدة، وحساب مستوى الرطوبة ومواضع بُؤر أي عفن في أرجائها. وتمت أيضاً ملاحظة ورصد خصائص المنزل من نواحي الإضاءة، والتهوية، والحجم والسعة، ومدى الازدحام بأفراد الأسرة، ومستوى حالة التدفئة، إضافة إلى المعلومات الأخرى كالحالة الوظيفية والدخل المادي وغيرها من جوانب معلومات الديموغرافيا المتعلقة بالاحصاءات السكانية. وكانت فكرة الباحثين، كما صرحوا، أن الالتفات لهذه المعلومات والاهتمام برصدها يُسهمان في معرفة مدى تسببهما في نشوء حالة الاكتئاب. وهو ما يلزم ضرورة للتفريق بين تسبب عفن المنازل وزيادة رطوبتها، في الاكتئاب مقارنة مع الأسباب الأخرى المحتملة لذلك.
* الدجاجة أم البيضة؟