بقلم الأستاذ الأديب الشاعر: فاروق شوشة أدركت منذ الصغر أن الخط الجميل والأدب جمعهما الأحساس بالجمال والحياة وكلاهما يتطلب المداومة في طلب الاتقان عن طريق الثقافة والدراسة، بجانب الموهبة والخط يكتب بالنظر واليد فالنظر لتثبيت الصورة الجميلة في الذهن واليد تتمرن علي اخراج هذه الصورة وكذلك الشعر فإن المعاني تتولد في الذهن أولا ويعمل اللسان علي اخراج هذه الصورة الجميلة وكما يقول الشاعر: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما.. جعل اللسان علي الفؤاد دليلاً. بهذا الوعي برسالة الخط العربي، وعلاقته بالابداع والجمال والحياة عاش أمير الخط العربي وشاعره في القرن العشرين سيد ابراهيم (اغسطس 1897- يناير 1994) يبشر بأجل تجلياته ويقدم أروع لوحاته ونماذجه، ويسطر علي أغلفة مئات الآلاف من الكتب ومئات الآلاف من اللوحات من الرخام تزين صدور المساجد في مصر وفي عديد من البلدان العربية- الإسلامية- وصولا إلي الهند- ويقيم حوارا خلاقا بين ابداعه الشعري باعتباره شاعرا ينتمي إلي تيار المتأملين أبوالعلا المعري الذي عشقه شاعرنا وأغرم به غراما ملك عليه لبه ووجدانه وجعله يحفظ ديوانه «اللزوميات» ويستشهد به في كل مناسبة وموقف أقول: حوارا خلاقا بين ابداعه الشعري من ناحية وابداعه في تأصيل وتطوير فن الخط العربي في كل مجالاته: الثلث والنسخ والفارسي والرقعة والديواني وجلي الديواني والأجازة. يقول سيد ابراهيم عن حياته في ابداع فن الخط العربي: قضيت زهرة عمري ما بين خط وشعر هذا يفــــــرج هــمي وذاك يسر أمري ولقد اتيح لي أن أعرف شاعر الخط العربي وأميره سيد ابراهيم عندما كان يدرس لنا فن الخط في السنة الأولي بكلية دار العلوم سنة 1953ورأيت فيه عاشقا كبيرا للشعر نماذجه وأمثلته كلها التي يكتبها علي السبورة ثم يطلب منا-نحن تلاميذه- أن نحاكيها نقلدها واحدا واحدا كانت من عيون الشعر العربي وخاصة شعر المعري. كان يعلمنا فن الخط العربي ويأخذ بأيدينا وأذواقنا لاكتشاف جماليات هذا الخط وأسراره الدقيقة والفروق التي لا يراها إلا العارفون بهذه الأسرار بين شتي الأشكال والخطوط المختلفة. كان دائما شباب العقل والقلب والرائد الذي لا يبخل بالجهد والعطاء والحافظ للأخبار والمواقف والنماذج البديعة من عيون الشعر العربي والأدب العربي. ثم التقيت به مرة ثانية في ختام السبعينيات عندما أصبح استاذا للخط العربي في الجامعة الأمريكية بعد أن نجح الصديق العزيز الدكتور السعيد بدوي، العالم اللغوي ، والمشروف علي قسم تعليم اللغة العربية لغير ابنائها من الأجانب في ذلك الوقت نجح في إقناع سيد ابراهيم بتعليم هؤلاء الطلبة الأجانب فنون الخط العربي وأنواعه وطرائق كتابته. وسحرهم سيد ابراهيم بفنه ونبوغه وعبقريته وثقافته وتجليات ابداعه الجميل، وتحولت دروسه إلي معرض للفن الجميل، والابداع الجميل، يحرص طلابه علي أن ينهلوا منه باستمرار، وكنت في ذلك الحين أتهيأ لتقديم الحلقات الأولي من البرنامج التليفزيوني «الأمسية الثقافية» فاستضافت سيد ابراهيم في الحلقة الثانية من البرنامج (فبراير 1977) ونجحت كاميرا البرنامج في نقل بعض روائعه إلي المشاهدين وهو يتحدث عنها شارحا ومفسرا، بأسلوبه البليغ المركز وشخصيته الشديدة البساطة والتواضع، وثقافته الواسعة المكاملة، وروحه المرحة الساخرة،المفعمة بالدعابة الذكية والتعليق الطريف والاستشهاد الذي لا يخطر علي بال، وما تزال أحداث هذه الحلقة من برنامج «الأمسية الثقافية» في وجدان كثير ممن اتيح لهم مشاهدتها ورؤية عميد الخط العربي عن قرب وهو يكتب ويعرض لوحاته الجميلة وينشد الأشعار، ونجح البرنامج في التعبير عن المشكلة الكبري التي تواجه فن الخط العربي وتطوره وازدهار جمالياته بعد أن أصبح الكمبيوتر والكتابة بواسطته مهددا لعمل الفن، وتلقائيته وانطلاقه اللامحدود وراء صور لا تنتهي للحرف العربي وتشكيل الكلمة العربية.
[center]شعر ابوالعتاهية [/center]
صحيح أن حروف هذا الكمبيوتر مأخوذة من كتابات خطاطين مبدعين، لكنها في صورتها الآلية- تصبح جامدة ثابتة غير قابلة للتطور، وبالتالي فإن الخطوط التي يمنحها لنا الكمبيوتر- مهما كانت جمالياتها- لا يمكن أن تكون بديلا عن إبداع الفنان الموهوب وتجليات قلمه. وكان سيد ابراهيم علي وعي بما يحدث الآن لفن الخط العربي.. ولا يمل الإشارة إلي أول زلزال واجه هذا الخط بعد الانقلاب التركي الذي كان من آثاره ترك الحروف العربية وبداية الضعف والتردي في تاريخ هذا الفن. من أجمل آثاره الشعرية، قصيدة يعارض بها قصيدة للشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي، الذي كان يوافقه في مذهب التأمل والتفلسف والحوار مع النفس ومع الآخرين ، يقول سيد ابراهيم قالت: سئمت من الحيا ة ومفرقي كالليل حالك. فأجبتها: إني كذلك قالت: وأملت السعاد ة، فأنثنيت بغير ذلك فأجبتها: إني كذلك قالت: فقلبي زاهد في هذه اللذات تارك فأجبتها: إني كذلك قالت: وتدهشني الحيا ة، قوامها حي وهالك فأجبتها: إني كذلك قالت: وتذعجني بنا ت الدهر وهي بنا فواتك فأجبتها: إني كذلك قالت:ويرهبني الفنا ء يؤمه باك وضاحك فأجبتها: إني كذلك قالت: وأجزع حين أذ كر أنني إحدي الهوالك فأجبتها: إني كذلك قالت:وأجهل بعد هذا الـ موت ما يجري هنالك فأجبتها: إني كذلك قالت:ولست أري لهـ ذا الستر طول الدهر هاتك فأجبتها: إني كذلك واني كذلك مثل غيـ ري- حائر، أني كذلك! ومن شعره أيضاً: لهفة أسفي وقد شاب الغرا م ولم يطل بك عهدنا يا مأمل طاحت به الـ أيـام لما أن دنـــــــا! يالهف نفسي حين أنـ ــظر لا أراهــا بيننا! يا نعمتي لو شاء دهـ ـري أن يــرد الزمنا! سيد ابراهيم من مجلة أبولو1933 وأخيرا استأذن في تقديم هذه الصورة الشعرية الجميلة التي يصور فيها ابن المعتز-الخليفة الشاعر- قلم القاسم بن عبيد الله، وكأنه كان يستشرف الغيب مصوراً قلم سيد ابراهيم: قلم ما أراه فــــلك يجري بما شاء قاســــــم ويــسير خاشع في يديــه يلثم قرطاسا كما قبل البساط شكور ولطيف المعني جليل نحيف وكبير الأفعال وهو صغير كم منايا وكم عطايا وكم حتف وعيش بضم تلك السطور نقشت بالدجي نهارا فما أد ري أخط فيهن أم تصوير. فاروق شوشة
|