حذر الاختصاصيون النفسيون والاجتماعيون من مشاهد الحرب وصور القتلى والجرحى المؤلمة ، التي طغت على الإعلام العربي إثر القصف الإسرائيلي المتواصل على لبنان.
وأوضحت استشارية الطب النفسي رئيسة وحدة الأمراض في مستشفى الملك فهد بجدة الدكتورة منى الصواف أن الأضرار النفسية نتيجة مشاهدة صور العنف والمجازر ، التي يتعرض لها الأطفال بالذات قد تتسبب في ظهور أمراض نفسية لمن لديهم الاستعداد النفسي لذلك ، وتخرج جيلاً عنيفاً من الأطفال المتأثرين بهذه المشاهد. . وقالت : يتعرض المشاهد البالغ في بداية الأمر لصدمة عاطفية شديدة ، تبدأ بعدم التصديق في أن هذا حدث واقعي ، وبعدها يأتي دور الغضب الذي يقود لعدة تساؤلات لماذا يحدث ذلك؟ ومحاسبة النفس ، وإلقاء اللوم على الآخرين وبالذات المسؤولين في الدول ، كما أن من لديه استعداد للأمراض النفسية ستكون هناك فرصة مهيأة لظهورها من أهمها اضطرابات الكرب ، اضطرابات النوم ، القلق والاكتئاب ، وقالت إن تأثير هذه المشاهد على الأطفال أشد ، فللأسف بعض الأسر لا تبالي بذلك ، وتبقى متتبعة الأخبار 24 ساعة مما يربي لدى الأطفال الشعور بالخوف بأن هذا سيحدث لهم ؛ لأن الطفل يعيش في عالم الخيال بشكل أوسع من الكبير ، والنتيجة تحدث له اضطرابات على هيئة اضطرابات عصبية مثل : الكوابيس والتبول الليلي اللاإرادي والخوف كما أنها ستعلم الطفل العنف كلغة مقبولة ، وهذا يشكل خطراً لأنه سيكتسب العنف ، ويظهر لديه على شكل نوبات عنف إضافة إلى أنها ستصبح جزءاً من سلوكه اليومي.
وأشارت إلى أن التأثير قد يخف في حال وجد الكبار حوله ، وشرحوا الأحداث له ، ولماذا يحدث ذلك ؟ فمفهوم الحق والباطل والعدل أو الحرية لدى الكبار ولا يفهمه الأطفال من هم أقل من 11 عاماً ؛ لذلك من المهم جدا أن توضح الصورة بتبسيطها لهم.
وأضافت صواف أن هذه الكوارث لها جانبان
الأول : المشاهد البشعة ، والتي تكون فوق قدرة البشر على التحمل ، والجانب الثاني : هو الشعور بالظلم من الأشياء القاتلة التي تجعل الإنسان معرضاً للاضطرابات النفسية .. مشيرة إلى أنها قد تؤدي لظهور جيل قوي جدا من المحاربين لأن الدافع الموجود في ذاكرة الطفولة قوي جدا ويعتبر نوعاً من المحرك في السلوك والصلابة في الحرب.
وعن كيفية التخفيف من هذا التأثير؟ قالت : شئنا أم أبينا التأثير سوف سيحدث لهم ولكن كيف يتم التخفيف من وطأة هذا التأثير ؟ بالنظر إلى الأطفال المحتاجين للدعم النفسي من أسرهم ، والأطفال الذين يحتاجون للعلاج النفسي.. على الكبير أن يشرح للطفل بطريقة واعية مبتعداً عن المبررات السخيفة ، مثل أن هذا الطفل شقي ولا يسمع كلام والديه ؛ فهذا سيولد لديه شعوراً بالذنب ، ولكن يتم توضيحها له بصورة بسيطة بقول إن هناك أناساً أشراراً في العالم ، معتدين يسرقون الأرض من أصحابها ويقتلون الأطفال .. علينا أن نكلم الطفل باللغة التي يفهمها ، مثل عندما يسرق منك طفل آخر لعبتك فأنت تدافع عن نفسك.
كما أشارت إلى أهمية تنمية جانب العطاء .. كيف يمكن أن يساعد هؤلاء الأطفال ؟ بالتبرع بالمصروف أو الملابس وألا ننساهم في الدعاء .. وبذلك يشعر الطفل بأنه جزء من ما يحدث وليس فرضاً عليه يستمع ويشاهد فقط ، وشددت على أهمية عدم تعريض الأطفال لرؤية مشاهد العنف ، فبعض الأسر تشاهد الأخبار على مدار الساعة ؛ لذلك يجب عليها تعويض الأطفال بألعاب في أجهزة الحاسب الآلي لدى الأطفال ، لصرف انتباه الطفل عن التعبيرات التي يتلفظ بها أفراد أسرتهم عند مشاهدة الأخبار ومشاهد المجازر ، خاصة الآباء وبين فترة وأخرى محاولة شرح ما يحدث لهم بطريقة مبسطة وغير مؤذية.
وركزت على أهمية إثارة العاطفة الدينية لدى الأطفال بتعليمهم الصلاة ، والدعاء للمنكوبين بأن يرحمهم الله ، ويغفر لمن مات ، ويدخلهم الجنة .. وتحريك في الطفل مشاعر بعيدة عن الخوف ، وعدم استغلال الآباء والأمهات هذا الوضع بشكل سلبي ، وترديد عبارة إذا ما سمعت الكلام سيفعل بك الله مثلهم ، وعندما يبكي الطفل ليلا يجب احتواؤه ، والبقاء معه حتى ينام ، ومساعدته على الاسترخاء إما بالقرآن أو بقراءة قصة بحسب ما اعتاد عليه الطفل ، أيضا تعليم الأطفال الحقائق والاستعانة بالتاريخ في سرد القصص بأن الناس تعمر الأرض ، والحياة ليس كلها دمار وعنف ، وإعطاء الطفل معلومات تتوافق مع عمره وحقائق بدون كذب..
وألقت الصواف باللوم على الإعلام العربي حول ما يحدث من آثار نفسية سلبية على المشاهد وقالت : "أصبحنا مثل الإسفنجة التي امتصت آخر قطرة ، الإعلام العربي مسؤول عن العنف المعروض ؛ لذلك يجب تقنين كمية هذا العنف ! ولا أدري ما هي الرسالة التي يعملون على توصيلها لنا ؟ نحن مسلمون وعرب ونعرف أن هذا ظلم واقع علينا ، كان من المفترض أن توجه هذه المشاهد للعالم الغربي ، وتوضيح الصورة للغرب لا أن يثيروا الأذى النفسي للمشاهد العربي المسلم بدون متنفس .. مضيفة أنه عند تكرار رؤية هذه الصور فذلك يؤدي إلى نوع من التبلد في الشعور بحيث لا يتأثر بها نفس التأثير الأول ، ولذلك فالإعلام مخطئ إذا كرر مشاهد المجازر على المشاهد العربي بصورة مكثفة جدا ، فبعد فترة يكون هناك نوع من التبلد !
وذكرت أن عدد الحالات المرضية بين الأطفال تزايد بعد الحرب على لبنان فقد أصبح لديهم خوف شديد وقلق ، والكل يخاف هل سيحدث لنا مثلهم ؟ هل سيأتون لنا ؟ لدرجة أن طفلاً في السادسة من عمره بمجرد سماعه لمقدمة أخبار إحدى القنوات الأخبارية تأتيه نوبة من الهلع والصراخ والبكاء ، ويتمسك بوالدته لأنه رأى مشهداً لطفل قتل في القصف الإسرائيلي على لبنان ، وكان مشوهاً بشكل بشع ، ويقول لوالدته : لا تتركيني عشان ما يصير في كذا ! .. ويتساءل : هل سيأتون إلى جدة؟
وأوصتالصواف بجلوس أفراد الأسرة مع بعضها ليجدوا طريقة يعبرون بها عن انفعالاتهم ؛ حتى لا يعاني كل فرد بصمت لمداواة الأثر النفسي الذي حصل من مشاهد هذه الحرب ، والتخفيف من الإحساس بالظلم ومشاعر القهر ، والمساهمة في مساعدة المتضررين بالتبرع أو بالدعاء ، فذلك يساعد على التخفيف النفسي لنا ولهم.
من جهته حذر أستاذ الخدمة الاجتماعية المساعد بجامعة الإمام عضو اللجنة التنفيذية بالاتحاد العالمي للصحة النفسية الدكتور ناصر العود من المشكلات النفسية والاجتماعية التي قد تحدث لدى الأسرة من مشاهد العنف والمجازر ، وقال : إن هناك أبحاثاً ودراسات في مجال الصحة النفسية والاجتماعية تشير إلى وجود علاقة بين كثرة التعرض للمواقف الضاغطة لمشاهد القتل وأشلاء الموتى - وبالأخص لدى الأطفال - وبين التعرض للمشكلات والصعوبات النفسية في المراحل العمرية المختلفة ، وبالذات الإصابة باضطراب ما بعد المواقف الضاغطة.
وأوصى العود الآباء والأمهات بأهمية تقنين مشاهدة الأخبار وصور القتلى والجرحى ، وعدم تعريض الأطفال لتلك المناظر لما تسببه من آثار سلبية على نفسياتهم وأفكارهم ، خاصة لمن هم تحت سن السادسة نتيجة عدم نضج القدرات المعرفية العليا لديهم مثل عدم فهم لماذا يقتل أو يموت البشر ؟.
مضيفا أهمية مناقشة الأطفال ومحاولة تفسير الأحداث لهم بالحديث عن النواحي الإيجابية ، مثل : قيمة التكاتف وأهمية الوقوف مع الإخوة في محنتهم ، وتجنب التركيز على النقاط السلبية كتعزيز الكره للغير والانتقام ، مشيرا إلى ضرورة البعد عن المتابعة المستمرة لوسائل الإعلام المقروءة أو المرئية في هذه الفترة ، خصوصا للأفراد العاطفيين الذين يتأثرون بشكل سريع ، ويعانون من تغيرات مزاجيه حادة.
وطالب العود بتبني المؤسسات الإعلامية والصحفية سياسة متوازنة ومقننة في عرض المشاهد والصور أثناء الحروب والكوارث ، وتجنب نشر صور القتلى والمصابين في الصفحات الأولى من وسائل الإعلام ، والتنبيه على عدم تضمن التقارير لصور قتل في وسائل الإعلام المرئي عند عرضها ؛ لأخذ الاحتياطات اللازمة لإبعاد الأطفال عن ما يؤثر على شخصياتهم وتوافقهم النفسي والاجتماعي.