الهندسة والفنون
مع باقة ورد عطرة منتدى الهندسة والفنون يرحب بكم ويدعوكم للإنضمام الينا

د.م. أنوار صفار

طوق الحمام , لأبن حزم  %D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%A9+%D8%AC%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A9+%D8%B5%D8%BA%D9%8A%D8%B1%D8%A9



الهندسة والفنون
مع باقة ورد عطرة منتدى الهندسة والفنون يرحب بكم ويدعوكم للإنضمام الينا

د.م. أنوار صفار

طوق الحمام , لأبن حزم  %D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%A9+%D8%AC%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A9+%D8%B5%D8%BA%D9%8A%D8%B1%D8%A9



الهندسة والفنون
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الهندسة والفنون

 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل    دخولدخول        طوق الحمام , لأبن حزم  I_icon_mini_login  

 

 طوق الحمام , لأبن حزم

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
عثمان محمد
نائب المديرة
نائب المديرة
عثمان محمد


الجدي
تاريخ التسجيل : 22/12/2011
العمر : 42
البلد /المدينة : فلسطين

بطاقة الشخصية
المجلة: 0

طوق الحمام , لأبن حزم  Empty
مُساهمةموضوع: طوق الحمام , لأبن حزم    طوق الحمام , لأبن حزم  Empty4/2/2012, 17:20

للشعر في طوق الحمامة حديث طريف يثيركثيراً من التأمل ويفتح القول في أبواب من النقد.(1)
وليس ذلك بالغريب، فطوق الحمامة كتاب في الحب، وهل يكتمل الحديث عن الحب الاّ بالشعر؟ ومن هنا يلاحظ أنّ الغزل والعاطفة او الحديث عن المرأة على وجه الاجمال كان وثيق العلاقة بالشعر منذ نشأته الأولى.

ولعلّ السبب في ذلك أنّ الشعر صورة من صور النفس الذاتية، التي ترتبط بخلجات النفس وخطرات العاطفة، فكان لابد له - وهو الصادر عن الوجدان الشاعري - أنْ ينصبّ في جانب كبير منه، منذ نشأته، على المرأة، التي هي محور كلّ عاطفة ومناط كل شعور ذاتي.

ولكن ابن حزم في طوق الحمامة يقتصر من الشعر على نتاجه هو، ويجعل من شعره وسيلة يستدلّ بها على ما يريد ويصوّر ما يروق له، وهي ظاهرة تسترعي النظر وتتطلب - بداية - البحث عن أسبابها ودلالاتها.(2)
فما الذي دعا ابن حزم الى ذلك؟

أهو إعجابه بنفسه وفتنته، بمقدرته الشعرية، ورغبته في أن يُذيع شعره ويشتهر؟

أم هو قصر باعه في رواية الشعر وعجزه عن اختيار ما يصلح لرسالته هذه من أشعار السابقين؟

أم هو منهجه المتحرّر الضائق بالتجارب السابقة، الحريص على الاعتماد على النفس والنظر الى الحقائق من خلال منظاره الخاص حتى يفي بما شرط على نفسه في هذا الكتاب من عدم إنضاء راحلة سواه والتحلّي بحلى مستعار؟ يقول:

«والتزمتُ في كتابي هذا الوقوف عند حدّك، والإقتصار على ما رأيتُ أو صحّ عندي بنقل النقاب، ودعني من أخبار الأعراب والمتقدّمين، فسبيلهم غيرُ سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أنْ أنضِيَ مطيّة سواي ولا أتحلى بحلي مستعار، واللّه‏ المستغفر والمستعان لاربّ غيره».(3)
هذه هي الأسئلة التي ترد على الخاطر عند التأمّل في خطة إبن حزم في إيراد الشعر في كتابه «طوق الحمامة».

فأيّ خاطر منها نستطيع قبوله، وأيّ خاطر منها يستحقّ الرّفض ولا يثبت أمام النظر؟

لا نستطيع أن نرفض منها إلا الخاطر الثاني وهو أن يكون الباعث لإبن حزم على ايراد اشعاره قصر باعه في رواية الشعر أو عجزه عن الاختيار من أشعار السابقين، ويدلّنا على ذلك :

1 - أنّ منهج التعليم في تلك العصور، كان يقوم أساساً على حفظ كتاب اللّه‏ الكريم، ثمّ رواية الشعر، وابن حزم نفسه يخبرنا في رسالته هذه أنّ منهج تعليمه في صغره كان يشمل رواية الشعر في قوله: وهنّ عَلمنِنَي القرآن، وروَّينني كثيراً من الأشعار.(4)
2 - أنّ الكتب السابقة التي عالجت موضوع العشق - وكانت أمامه يمكنه أنْ يأخذ منها ويختارَ - قد اشتملت على تراث ضخم من الأشعار الجاهلية والاسلامية في أمر العزام والغزل، ويكفينا في ذلك كتاب الزهرة لمحمّد بن داود الظاهري، وقد قرأ إبن حزم كتابه ونقل عنه قليلاً وتأثر ببعض آرائه ورفض بعضها، كما أنّ هذا الكتاب يشتمل على خمسة آلاف بيت من الشعر كلها في موضوع العشق وأحواله وما يعرض فيه لشعراء من شتى العصور.

إذن لا يبقى أمامنا إلاّ الخاطران الآخران، فهما اللذان يصلحان في تعليل منهج ابن حزم في إيراد أشعاره في هذا الكتاب.

أمّا جانب الإعجاب بالنفس والإفتنان بالقدرة الفنّية في الشعر، والرغبة في الإشتهار بقول الشعر وذيوعه، فإنه يبدو واضحاً في كثير من لفتات ابن حزم ونقداته.(5)
وحسبنا في ذلك أول وهلة مادرج عليه إبن حزم في تقديمه لِكُلِّ مقطوعة من مقطوعاته أو بيت مفرد من أبياته فهو يحرص على نسبتها الى نفسه ولو تكرَّرَ ذلك الموضع عدة مرات كقوله : «ولي أبيات جمعت فيها كثيراً من هذه العلامات منها:...»(6).

وقوله: «وفي ذلك أقول شعراً»(7). وقوله: «وفي مثله أقول في كلمة طويلة»(Cool. وقوله: «وأقول من قصيدة لي»(9). إنَّ ذلك يلفت انتباهنا إلى أنَّ هناك نغمة الحريص على إثبات قوله، المفتون بإنتاجه.

ومن هنا لا يبعد أن يكون استبعاده لأشعار السابقين مقصوداً، ليُخلى الجوّ لأشعاره كي لا تطغي تلك الأشعار عليها أو لا تزري بها في نظر القاري حين يوازن بينها.

وهناك دليل آخر يقوّى هذا الإحتمال فعندما عرض إبن حزم لقناعة المحبّ بزيارة طيف محبوبه ذكر شعراً له في ذلك، وأحبَّ أن يوازنَ بينهُ وبينَ بعض الشعراء في هذا المعنى، فلم يطب نفساً بأنْ يذكر أشعارهم بل عرض معانيها نثراً، وكان واجب الموازنة يقضي بأنَّ يوردَ أشعارهم بألفاظها، ليُعطيَ لقارئهِ فرصة النقد ومجال التذوّق يقول: «وللشعراء في علة فرار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمى مخترعة» كل سبق إلى معنى من المعاني فأبو إسحاق بن سيّار النّظام رأس المعتزلة جعل علة مزار الطيف خوف الأرواح من الرقيب المرقب، على بهاء الأبدان وأبو تمّام حبيب بن أوس الطائي جعل علته أنَّ نكاحَ الطيف لا يُفسد الحبَّ ونكاح الحقيقة يُفسدُهُ والبُحتري جعل علة إقباله استضاءته بنار وجده وعلة زواله خوف الغرق في دموعه، وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم، فلهم فضل التقدّم والسابقة وإنّما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداءً بهم وجرياً في ميدانهم وتتبعاً لطريقتهم التي نهَجُوا وأوضحوا أبياتاً بينت فيها مزار الطيف مقطعة:(10)
أغارُ عليكِ من إدراك طَرْفي وأشفِقُ أنْ يُذِيبَكِ لَمْسُ كفِّيّ
فأمتنعُ اللقاءَ حِذارَ هذا وأعْتمدُ التّلاقي حين أغفي
فرُوحي إن أنمْ بكِ ذو إنفرادٍ مِنَ الأعضاء مُستترٌ ومخفي
وَوصلُ الرّوح ألطفُ فيكِ وقعاً مِنْ الجِسْم المواصلِ ألف ضِعْفِ(11)
وإذا أحصينا المواضيع التي ذكر فيها إبن حزم شعراً لغيره في طوق الحمامة فنجدها لا تزيد عن خمسة مواضع في كلٍّ منها أبيات قليلة. احداها أبيات للعباس بن الأحنف اضطره اليها خبر ساقه عن جارية غنتها، فلم ينس غناءها إلى آخر حياته، وهى قوله :

ليستْ من الإنس إلاّ في مناسبةٍولا من الجِنّ إلاّ في التّصاوير

فالوجهُ جوهرهُ والجسمُ عَبْهَرَةٌ(13)والرّيحُ عنبرةٌ والكلُّ من نُورِ
كأنّها حين تَخطو في مَجاسِدها(14)تخطُو على البيضِ أو حدِّ القواريرِ(15)

إنّى طربتُ إلى شمس إذا غَرَبتْ كانت مغاربُها جوفَ المقاصير
شمسٍ ممثّلةٍ في خُلْق جاريةٍ كأنَّ أعطافَها طيُ الطّوامير(12)
فقال إبن حزم: فلعمري لكأنَّ المضراب(16) إنّما يقع على قلبي وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلتُ إليه من التمكّن من رؤيتها وسماع كلامِها، وفي ذلك أقول :

لا تلُمْها على النّفار ومَنْع الـ ـوَصلِ ما هذا لها بنكيرِ
هل يكونُ الهلالُ غيرَ بعيدٍ أو يكون الغزالُ غيرَ نَفورِ؟!(17)
وأقول:

فلو يلقاكِ عبّاسٌ لأضحىلفوز(19) قالِياً وبكمْ شَجِيّاً(20)

مَنَعْتِ جَمالَ وجهِكِ مُقلتيّا ولفظُ‏كِ قد ضَنَنْتِ بهِ عليّا
أراكِ نَذَرتِ للرّحمنِ صَوْماً فَلَسْتِ تُكلّمينَ اليومَ حيّا
وقد غنيّتِ للعبّاسِ(18) شِعراً هنيئاً ذا لعبّاسٍ هنيّا
والموضوع الثاني: حين ذكر خبره مع صاحبه إبن عبداللّه‏ محمد بن يحيى بن محمد بن الحسن التميمي المعروف بإبن الطّنبيّ: وكنّا ألفين لا نفترق وخِدنين(21) لا يجري الماء بيننا إلاّ صفاءً، فلمّا ألقت الفتنة جِرانها(22) وأرْخَتْ عزاليها(23) ووقع إنتهابُ جندِ البربر لمنازلنا في الجانب العربي بقرطبة ونزلوا فيها وتقلَّبتِ بي الأمور الى الخروج عن قرطبة وسكنى مدينة المريّة فكنّا نتهادي النّظم والنثر كثيراً وآخرُ ما خاطبني به رسالة في درجها هذه الأبيات :

وأراني أرى مُحَيّاكَ يوماًوأناجيكَ في بلاطِ مُغيثِ(25)

فلو أنَّ الدّيار يُنْهِضُها الشّوقُ أتاكَ البلاطُ كالمستغيثِ

ولو أنَّ القلوب تستطيع سَيْراًسار قلبي إليكَ سَيْرَ الحَثيثِ(26)
كُنْ كما شِئتَ لي فإنّي مُحبٌّليسَ لي غيرُ ذِكْرِكُمْ مِنْ حديثِ

لكَ عندي وإنْ تناسيتَ عَهْدٌفي صميم الفؤادِ غيرُ نَكيثِ(27)
ليتَ شعري عن حَبّل ودّكِ هل يمـ ـسي جديداً لديّ غير رثيثِ(24)
وإبن حزم لم يورد هذه الأبيات استدلالاً على معنىً في كتابه أو وقوفاً عند غرض، بل جاءت ضمن ايراده لمواقف من بيئته وحياته وبذلك لم تمس تفرّدهُ بالإستدلال بشعره على المعاني التي يعالجها(28).

والموضع الثالث: ذكر فيه بيتين من النظم الرّكيك استشهد بما في مجلس بعض مياسير أهل بلده، وشاهد فيه أمراً أنكره وغمزاً إستبشعه وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب المجلس كالغائب أو النائم، فنبّههُ إبن حزم بالتعريض فلم ينتبه وحركهُ بالتصريح فلم يتحرك فجعل يكرر عليه بيتين قديمين لعلّه يفطن وهما بيتان لايمتان الى الشعر بغير الوزن، ولا مدخل لهما في أمر العاطفة.

إنَّ أخوانهُ المقيمين بالأمـ ـس أتَوا للهناءِ لا للغِناءِ
قطعوا أمْرَهُمْ وأنتَ حِمارٌ مُوقرٌ من بلادةِ وغَبَاءِ(29)
وأكثر إبن حزم من إنشادهما حتى قال له صاحب المجلس: قد أمللتنا من سماعهما فتفضّل بتركهما أو إنشاد غيرهما، فأمسكَ إبن حزم وهو لا يدري أغافلٌ هو أم متغافلٌ، وما عاد إلى ذلك المجلس بعدها.(30).

والموضع الرّابع: ذكر فيه بيتين لأبي بكر عبدالرّحمن بن سليمان البلويّ من أهل سبتة(31)، وكان شاعراً مفلقاً(32)، وهو ينشد لنفسه في صفةِ متجنٍّ معهودٍ أبياتاً له، منها :

سريعُ إلى ظهر الطريق وإنّه إلى نقض أسباب المودّة يسْرعُ
يطولُ علينا أن نرقع ودَّهُ إذا كان في ترقيعهِ يتقطّعُ(33)
والموضع الخامس: ذكر فيه بيتين لعيسى بن محمد بن محمل الحولاني، قال في عبيد اللّه‏ بن يحيى الأزديّ المعروف بإبن الحزيريّ وكان قد رضي بإهمال داره وإباحة خيمه والتعرض بإهله طمعاً في الحصول على بغيته.. قال :

يا جاعلاً إخراج حرّ نسائِهِ شَرَكاً لصيد جاذِر الغِزلان
إنّي أرى شركاً يُمزّقُ ثمّ لا تحظى بغير مذلَةِ الحرمان(34)
وفي كلّ هذه المواضع لا نجد شعراً يتّصل بموضوع طوق الحمامة أو يمثّلُ معنى، من معاني الحبَّ والهيام، كلها أبيات جاءت عرضاً في سياق الموضوع وأضطرّ إليها ابن حزم لتعلقها بما يذكرهُ من حوادث ومناسبات.

وهكذا يأكّد إنَّ إبن حزم كان ضيّق الصدر بمنهج التقليد والرواية، فقد رفض أنْ يفسح في كتابه مجالاً لأخبار العرب والمتقدمين، ولم يرتض أن يفسح المجال لرواية الشعر وآثر أن يذكر أشعاره فذلك أقرب إلى منهجه وأحُبّ إلى نفسه(35).
فإذا أنتقلنا إلى الأغراض التي أنشأ إبن حزم شعره في «طوق الحمامة» سنجد أنَّهُ أورد شعراً من شعره في كلّ فصل من فصول الكتاب، وكلّ علامة من علامات، وإعراض الحُبّ.

1 - ماهية الحُبّ عند إبن حزم :

لقد كان إبن حزم يورد شعراً في كلّ باب يتعرّضُ له.

ولقد تعرّض في باب «الكلام في ماهيّة الحُبّ» تفسيره لوقوع الحُبّ: «والذي أذهب إليه أنّه إتصال بين أجزاء النّفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع»(36).
وقال إنَّ سرّ التمازج والتباين في المخلوقات إنَّما هو الإتصال والإنفصال، والشكل دأباً يسعى الى شكلهِ والمثلُ إلى مثلهِ ساكن، وللمُجانسة عملٌ محسوسٌ وتأثيرٌ مشاهدٌ... ويشرح هذا المعنى في أبياته التالية:

ودادي لك الباقي على حَسْبِ كَوْنهِ تناهَى فلم يَنقصْ بشيءٍ ولم يَزِدْ
وليست لَهُ غير الإرادة علّةً ولا سببٌ حاشاهُ يعلمُهُ أحَدْ
إذا ما وجدنا الشيءَ علَّة نفسه فذاك وجودٌ ليس يَفنى على الأبدْ
وإمَّا وجدناهُ لشيء خلافه فإعدامُه في عُدْمنا ماله وُجِدْ(37)
وهي أبيات تخلو - في الحقّ - من أيّة صورة شعرية، إذ لا تعدو أن تكون شرحاً - موزونا - لفكرته عن علّةِ وقوع الحُبّ.

كذلك ظهر أثر الفلسفة في شعر إبن حزم الذي أورده في «طوق الحمامة» وقد كان إبن حزم مشاركاً في الفلسفة والحكمة وله فيهما نتاج.

يقول إبن حزم في معنى خطاب المرئي في الظاهر خطاب المعقول الباطن، وهو معنىً صرفه الشعراءُ في اشعارهم، وهو المستفيض في شعر النظام إبراهيم بن سيّار وغيره من المتكلمين(38).
أرى هيئة إنسيّة غيرَ أنّهإذا أعمل التّفكيرُ فالجِرْمُ عُلويُّ

تباركَ مَنْ سوّى مذاهبَ خلْقهعلى أنَّك النُّورُ الأنيقُ الطبيعيُّ

ولا شكَ عندي أنّك الرّوحُ ساقهإلينا مِثالٌ في النّفوس إتصاليٌ

عَدِمْنا دليلاً في حدوثكَ شاهداًنقيسُ عليه غيرَ أنك مَرْئيُ

ولولا وقوع العين في الكونِ لم نَقلْسوأ أنّكَ العقلُ الرّفيعُ الحقيقيُ(41)
أمن عالم الأملاكِ(39) أنت أمِ أنسيٌّ أبنْ لي فقد أزْرى بتمييزي العِيُّ(40)
فالمعنى في هذه الأبيات تتناول صلة النّفس بالجسم، وأنَّ الصورةَ دليلٌ على ما وراءها والألفاظ المستعارة فيها من الفلسفة وعلم الكلام واضحة لا تحتاج إلى بيان، فالطبيعية والحدوث والعقل الرَّفيع والدَّليل والمرئي والإتصال، كلّها مصطلحات الفلاسفة والمتكلّمين وهي شاهدة على مصدر من مصادر ثقافة إبن حزم وجانب من جوانب تأثرهِ(42).

وهي تخلو - أيضاً - من الصورة الشعرية الفنية إذ لا تعدو أن تكونَ ترجمة نثرية ركيكة لبعض الأفكار التي في ذهن إبن حزم حول هذا الموضوع كذلك القول النثري، إذا أعمل التّفكير فالجرمُ عُلويُّ.

وإنَّ هذا ليوضِّحَ لنا أنَّ ابن حزم ناظم أكثر منه شاعراً صادقاً يصدر عن عاطفة وينطق عن إحساس وإنفعال.

وإبن حزم نفسه يوفر علينا مشقة الإستدلال على هذا الحكم وتلمّس أسبابه إذ يصرّح بذلك في بداية كتابه فيقول: «وسأورد في رسالتي هذه أشعاراً قلتها فيما شاهدته، فلا تنكر أنت ومن رآها عليَّ أنَّي سالك فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهبُ المتحلّين بقول الشعر»(43).
ومعنى ذلك أنّهُ ينظم معاني يدركها بعقلهِ لا أحاسيس يتأثر بها وحدانهُ، ولا يصدر في ذلك عن طبع وضرورة بل عن تكلّف ومعاناة، بل كان إبن حزم يشبه شاعر القبيلة، أو الناطق بإحساس جماعته، فقد كان يُطلبُ منه نظم الشعر في معنى من المعاني أو موقف من المواقف فيجيب إلى ذلك وليس هذا مقام الشاعر الصادق، الذي يخرجُ على النّاس بإحساس عاناهُ واضطرم في فؤاده لا يملك منه مهرباً، لا أن ينطوي تحت معاني النّاس وأفكارهم، فليس الشاعر صانعاً يصنع الشعر على اوضاع مطلوبة أو مناسبات مرغوبة، بل صاحب تجربة تستقيها من وجدان ويرجع فيها إلى ذات نفسه(44).

أمّا إبن حزم فكان كما يقول: وأكثر من ذلك فإنَّ إخواني يجشمونني القول فيما يعرض لهم على طرائقهم ومذاهبهم(45).

ولو يصرّح لنا إبن حزم بنهجه في شعره وتكلفه في صياغته ونظمه لاتّضَحَ لنا ذلك في شعره وعرضه على مقاييس النّقد، فإنّك لا تحسُّ فى شعره حرارة ولا تتبيَّن فيه عاطفة صادقة، بل ترى فيه براعة فى النظم وجنوحاً للجدل والإقناع(46).

2ـ إتجاهات ثقافية وعلميّة :

وما دام إبن حزم لم يصدر فى شعره عن عاطفة أو تجربة صادقة فلا بدّ أنَّ هناك أثراً للصناعةِ الإتجاه العقلي والفلسفي في شعره، أو بمعنى آخر لا بدّ أنَّ هذا الشعر صادر عن ثقافة إبن حزم معبّر عن إتجاهاته العلمية.

والنّاظر في شعر إبن حزم، الذي تضمنّه «طوق الحمامة» يجد تأثيراً واضحاً بالمصطلحات الدينية، واللغوية والفلسفة والحكمة، وميلاً قوياً الى الجدل والإقناع والإحتجاج، وهي الملامح المميزة لثقافة إبن حزم(47).
فمن تأثره بالفقه وأصوله وعلوم الدين قوله في الإستدلال على إستحالةِ أنْ يُحبَّ الإنسانُ إثنين في وقتٍ واحدٍ.

ليس في القلبِ مَوْضعٌ لحبيبيــنِ ولا أحْدثُ الأمورِ بثاني

فكما العقلُ واحِدٌ ليسَ يَدْريخالقاً غيرَ واحدٍ رَحمانِ

فكذا القلبُ واحدٌ ليس يهوىغيرَ فردٍ مُباعدٍ أو مُدانِ(49)
هو في شرَعة المودّة ذوشــكّ بعيدٍ مِنْ صحةِ الإيمان

وكذا الدينُ واحدٌ مستقيمٌ وكفورٌ مِنْ عِنْدَهُ دينانِ(50)
كَذَبَ المُدَّعي هَوى إثنين حَتْماً مثلَ ما في الإصول أكذبَ ماني(48)
فمن الواضح إنَّ هذا إحتجاج عقلي يحفل بالقياس والمصطلحات الدينية وليس شعراً صادراً عن عاطفة، وهو إلى النّثر أقرب.

أين هذا من قول جميل في نفس المعنى :
ولرُبَّ عارضةٍ علينا وَصْلها باجِدّ تَخْلطه بقول الهازل
فأجبتها بالقول بعد تستّر حبَي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كانَ في قلبي كقدر قلامة فَضْل وصلتُك أو أتتك رسائلي(51)
وأين هذا من قول إبن زيدون ـ وقد كان شاعراً معاصراً لإبن حزم.

لم نعتقد بعدكم إلاّ الوفاء لكم رأياً ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنّا يُغيّرنا إنْ طالما غيّر النأي المحبيّنا
واللّه‏ ما طلبت أهواؤنا بدلاً منكم ولا لصرفت عنكم أمانينا
فما إستعضنا خليلاً منك يحبسنا ولا إستفدنا حبيباً عنك يُثنينا
ولو صبا نحونا من علو مطلعه بدر الدُّجى لم يكن حاشاك يصبينا(52)
أو في قول الشاعر الأندلسي :

لو كان قلبي معي ما أخترت غيركمو ولا رضيتُ سواكم في الهوى بدلاً
لكنّه راغب فيمن يعذبه وليس يقبل لا لوماً ولا عذلاً

فهذا هو الشعر الحافل بالعاطفة المليءُ بالصور الموحية وليس شعر ابن حزم الذي يشبه حجج المناطقة وجدل المتكلّمين والفقهاء.

ومن ذلك ايضاً قول إبن حزم في قصيدة محتوية على ضروب الحكم وفنون من الآداب الطبيعية، كما يقول عنها إبن حزم:
وأعدِلُ في إجتهاد نفسي في الذي أريدُ وإنّي فيهِ أشقى وأتعبُ
وأصْرِفُ نفسي عن وجُوه طِباعِها إذا في سواها صَحَّما أنا أرْغَبُ
كما نَسَخَ اللّه‏ُ الشرائعَ قبلنا بما هو أدنى للصلاح وأقرَبُ
وألقى سجايا كُلَّ خَلقٍ بِمثلِها ونَعتُ سجاياي الصَّصحيحُ المهدّبُ
كما صار لونُ الماءِ لونُ إنائِهِ وفي الأصل لونُ الماءِ أبيضُ مَعْجِبُ(53)
وفي قطعة أخرى يصور ضرباً من الهَجر يكون متوليه المحُبّ، وذلك عندما يرى جفاء محبوبه والميل عنه إلى غيره، أو لثقيل يلازمه، فيرى الموت ويتجرّع غصص الأسى، فينقطع وكبده تتقطّع، يقول :

لكنَّ عيني لم تُطق نظرةًإلى مُحيّا الرَّشأ(55) الغادِرِ

فالموتُ أحلى مَطْعماً من هَوىًيباحُ للوارِدِ والصادِرِ

وفي الفؤادِ النَّارُ مَذْكيَّةٌ(56)فأعجبْ لصَبِّ جَزعٍ صابرٍ
وقد أباحَ اللّه‏ُ في دِينهِتقيَّة(57) المأسْورِ للآسرِ

وقد أحلَّ الكُفرَ خوفُ الرَّدىحتّى تَرى المؤمن كالكافِرِ(58)

هجرتُ مَنْ لا عن قِليً(54) يا عجباً للعاشق الهاجر
فهذا أسلوب المتكلّمين، فالإباحة والتّقية والكفر والإيمان، كل ذلك ينطق بمنزع إبن حزم، ويوضّح أن شعره ليس إلاّ نظماً تثقله مصطلحات الفقه والكلام.(59)

وإذا حاولنا أن نعقد مقارنة ببين قوله في الهجر وبين قول شاعر كإبن زيدون إذ يقول:

إنَّ الزّمان الذي مازال يضحكنا أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا(60)
لوجدنا فارقاً شاسعاً في الصورة الفنيّة بينهما فإبن زيدون يعتمد الطباق والجناس إعتماداً يدل على تمكن فنّي وخصوبة شاعرية في الثّنائي - التّداني، يضحكنا - يبكينا، الأسى - التأسي، أيامنا - ليالينا، سوداً - بيضاً ثمّ هو لا يترجم أفكاره موزونة، بل يقيم معادلاً فنياً أو موازياً صورياً لمشاعره التي تدلّنا - بالصورة الفنية على حالة الشاعر، المراد التعبير عنها.

3ـ العاذل والرَّقيب والواشي :

وهم من معوَّقات قيام الحُبِّ، أو أستمراره. وقد أفرد إبن حزم لكلّ منها باباً خصّصه في بحث صفات كلِّ واحد منهم وطرائق عمله وكيفية التغلب عليه أو أهداف كل منهم.

فالعُذالُ أنواع: عاذلٌ يريد المساعدة، صديق، وهو زاجر للنّفس ضابط لتهوراتها.

وعاذلٌ زاجرٌ لائم لا يفيق من الملامة، وذلك خطبٌ شديدٌ وعب‏ءٌ ثقيلٌ وعظيمٌ.(61)
والرقيب آفة من آفات الحُبّ العظيمة وأنّه لحمّى باطنةٌ وبرسامٌ(62) مُلِحٌ وفكرٌ مُكِبٌّ.

والرّقباءُ أيضاً أنواع: أولهم مثقلٌ بالجلوس غير متعمّد في مكان اجتمع فيه المرءُ مع محبوبه، وعز ما على اظهار شيءٍ من سرّهما والبوح بوجدهما والإنفراد بالحديث.(63)

يُطيلُ جُلوساً وهو أثقلُ جالسِ ويُبدي حديثاً لَسْتُ أرضى فنونهُ
شمامٌ ورَضْوى واللّكام ويَذْبِلٌ ولبنانُ والصمّانُ والحربُ دونهُ(64)
ثم رقيب يريد إستبانة أمر المحبين، إذا إستراب في أمرهما، فيدمن الجلوسويطيل القعود، ويتخفّى بالحركات، ويرمقُ الوجوه، ويحصِّلُ الأنفاسُ(65).

مواصل لا يغبُّ قصداً أعظم بهذا الوصال غمّا
صار وصِرنا لفرطِ ما لا يزول كالإسمِ والمسمّى(66)
ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلاّ بترضيّه. وإذا أرضيَ فذلك غاية اللَّذةِ، وهذا الرَّقيبُ هو الذي ذكرتهُ الشّعراءُ في أشعارها.

ورُبّ رقيبٍ أرقبوه فلم يزلْ على سيّدي عمداً ليُبعدني عنهُ
فمازالتِ الألطافُ تحكمُ أمرهُ إلى أن غدا خوفي له آمناً منه
وكان حساماً سُلَّ حتى يهُدّني فعادَ محبّا ما لنعمتهِ كُنْهُ(67)
ويقول في الرّقيب الداهية الذي إمتحنَ بالعشق قديماً ودُهيَ به وطالت مُدتهُ فيه ثمَّ عُري عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانةِ مَنْ رقبَ عليه :

وأتقنَ حيلة الصَّبِّ المعنىولم يُضِع الإشارة والكلاما

وأعقبِهِ التسلّي بعد هذاوصار يرى الهوى عاراً وذاما

وصيّرَ دونَ من أهوى رقيباًيبعِدَ عنهُ صبّاً مستهاما

فأيّ بليّةٍ صُبّت عليناوأيّ مُصيبةِ حلّتْ لِماما(69)
رقيبٌ طالما عرفَ الغراما وقاسى الوجدْ وإمتنعَ المَناما
ولاقى في الهوى ألماً أليماً وكاد الحبّ يوردُهُ الحماما(68)
والواشي ضربان:

أحدهما واش يريدُ القطع بين المتحابين فقط، وإنَّ هذا لافترهما سوأة.

وثانيهما واشي يريدُ القطع بين المتحابين لغرض في نفسه يريد به أن يصل إلى المحبوبة وهو سمّ زعاف.

يقول :
عَجبتُ لواشٍ ظلَّ يكشفُ أمرنا وما يسَوى أخبارنا يتنفّسُ
وماذا عليه من عنائي ولَوْعتي أنا آكلُ الرّمان والولدُ(70) تضرسُ(71)
وهي أبيات تخلو ـ جميعاً ـ من أيّة صورة فنية فلا تُعد أن تكون إحالة عقيلة موزونة لأفكاره النثرية التي يوردها في المتن النَّصي.

فهو حين يصف تلازم الرّقيب لهما إنّما يكشف عن تأثره بالمصطلحات اللغوية والنحويّة وكأنّه يظن ذلك تفنّناً أو طرافة، مادام ناظماً لا شاعراً. فلم يجد غير تلك الصورة العقيلة الجافة التي تحتاج إلى التجريد الذهني لإدراكها:
صارَ وصِرْنا لفَرْطِ ما لا يزول كالإسم والمُسمّى
إنَّ ذلك يدل على ضعف الملكة الشعرية التي تعني بالخيال وتقدر على إختراع الصور لديه.

وأينَ هذا من قول جميل :
بلا، وبألا أستطيع، وبالمنىوبالوعد، حتى يسأم الوعد آمله

وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضيأواخره ـ لا نلتقي ـ وأوائله
وإني لأرضى من بثينة بالذي لو أبصره الواشي لقرَّت بلابله
وفي موضوع آخر يصف ما رآه من تذلل محبوب إلى محبوبه وخروج ذلك عن الحدّ الطبيعي أو المألوف عكس ذلك، فلا يثير في ذهن إبن حزم إلاّ صورة غامضة لم تدرك تصريحاً ولا تلميحاً، إذ شبه ذلك بتواضع المأسور للآسر والمأمول للآمل والفاعل للمفعول والمسؤول للسائل.

رغبة مَرْكوبٍ إلى راكبٍوذِلّة المسؤولِ للسائلِ

وطَوْلُ مأسورٍ إلى آسروصولةُ المقتولِ للقاتلِ
ما إنْ سمْعنا في الورى قبلهاخضوعَ مأمولٍ إلى آمل

هل ها هنا وجهٌ تراه سِوَىتواضع المَفْعولِ للفاعلِ
ومن أعاجيب الزمانِ التي طمّتْ على السّامع والقائل
فتجئ لفظة المفعول للفاعل هنا كريهة الإيحاء وبعيدة التصور لا حركة فيها ولا حياة، وربّما ظنّ إن حزم أنَّ ذلك منه تفنّن وإبداع.

وقد كان إبن حزم جدلياً يحب الإنتصار والغلبة ويميل إلى الأفحام والأقناع، وقد تسرّب ذلك إلى شعره وهو مناف لطبيعة الشعر وإيحائه، فالشعر إيحاء وتصوير لا إقناع وتجريد، ولكن إبن حزم كما قدّمت ناظم لا شاعر :

يقول في معنى إنتظار الزيارة :
أقمتُ إلى أن جاءني الليلُ راجياً لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأمل
فأيأسني الإظلامُ عنك ولم أكن لا يأسَ يوماً إن بدا الليل يتّصل
وعندي دليلٌ ليس يكذب خُبّره بأمثالهِ في مشكل الأمر يستدل
لأنك لو رُمتَ الزيارة لم يكن ظلامٌ ودام النورُ فينا ولم يَزُل

فإبن حزم يريد أن يصف جمال محبوبة بالإضاءةِ حتى ليبدّد ظلام الليل، وكان يمكنه أن يُصوّر ذلك مع تجنّب كلمة «وعندي دليل» و«مشكل الأمر» و«لأنّك لو» وكلّ هذه الأساليب تليق بالمناظرة أو الخصومة ولا تتسّق مع روح شعر الغزل ولا روح الشعر على وجه العموم.

فالشعر لا يكون شعراً إلاّ: بقدر إبتعاده عن النّثرية العادية وبقدر إقترابه من تكوين صورة فنية يتمّ فيها التّجريد العيني والتصوير الفنّي والإنتقال إلى المجاز.

ومن ميله إلى الإفحام والغلبة قوله فيمن أحبَّ في محبوبه صفة لم يستحسن بعدها غيرها فما يخالفها :
وهل عاب لونَ النّرجس الغضِّ عائبٌولون النّجوم الزاهرات على البُعدِ

وأبعدُ خلق اللّه‏ِ من كلِّ حكمةٍمفضِّل جرمٍ فاحم اللّون مسوَدِّ

به وصفتْ ألوانُ أهلِ جهنمولبْسة باكٍ مثكلِ الأهْلِ محتدِّ

ومُذْ لاحتِ الرّايات سوداً تيقّنتنفوسُ الورى أن لا سبيل إلى الرّشدِ
يعيبونها عندي بشُقرةِ شعرها فقلتُ لهم هذا الذي زانها عندي
يعيبون لونَ النّور والتّبر ضِلَّةً لرأي جهولٍ في الغواية ممتدِّ
فنراه يجنحُ إلى الجدل، وإبداء الحجج وعيب الرأي المخالف، فيذهبُ ببهاء الشعر وإيحائه.

ومن ذلك اللون من الإحتجاج العقلي الذي لا يأنس إلى العاطفة ولا يتّخذ التصوير وسيلة للإيحاء بالمراد قوله فيمن أحبَّ بالوصف :
ويا من لا مني في حُـ ـبِّ من لم يره طرفي
لقد أفرطت في وصفـ ـكَ لي في الحبِّ بالضّعفِ
فقل هل تعرف الجنّـ ـة يوماً بسوى الوصف؟
وحتى التشبيه الذي يعتبر أوضح مجلىً من مجال¨ التصوير، يجنح فيه إبن حزم إلى التجريد المحض، فلا تتّضح به الصورة بل تزيد خفاء. وكل ذلك أثر لتفكير إبن حزم وأسلوبه في التعبير.

4ـ الكتمان والهجران والفراق :

يقول إبن حزم في صوف ليل المحبّين وسهرهم ويذكر كتمان السرّ وأنه يتوسّم بالعلامات :
كأنَّ نجومهُ والغيمُ يخفي سناها عن مُلاحظةِ العيونِ
ضميري في ودادكَ يا منايا فليس يبينُ إلاّ بالظنون
فأيّ صورة تتمثلها من تشبيه نجوم الليل المختفية وراء الغيم الغيم بالضمير؟ وهل في ذلك ما يحقق للصورة الشعرية الوضوح والتأثير؟

ولقد إرتكب إبن حزم ذلك التشبيه مرّة أُخرى في كتابه، حين تحدّث عن البين وما يخلّفه في النّفوس من لوعة وأسى.
على دراساتٍ مُقْفِراتٍ عَواطلٍكأنّ المغاني في الخَفاءِ مَعاني

قفا فأسألا الأطلاَ أين قطينُها أمرَّت عليها بالبلَى الملوانِ
فالمعاني لا تصلح مشبهاً به يوقع في النفس معنى أو يقفها على وصف محدد، فهي بحار متلاطمة تفاوت في الوضوح والخفاء، ولئن إعتبر البلاغيون هذا التشبيه تشبيه محسوس بمعقول، فإنَّ نقاد الشعر لا يرون فيه إلاّ تشبيه واضح بغامض أو تشبيه شيءٍ محدّدٍ بآخر لا محدود. فإبن حزم لم يترك من نفوسنا بهذا التشبيه أثراً واضحاً يثير في نفوسنا عاطفة معيّنة وكل هذا ولوع منه بالتجريد وشغف بالمعاني العقلية.

وأين هذا من أبيات قيس :

كأنّ القلبَ ليلة قيل يُغْدَى بِلَيْلَى العامِرِيَّةِ أو يُراحُ
قطاةٌ عزَّها شركٌ فباتتْ تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَنَاحُ(94)
حيث إكتملت الصورة الشعرية الشاملة إذ شبّه قلبه ليلة سفر ليلى بالطائر المسكين الذي قبض شرك على جناحه، كلما حاول الطائرُ الفكاك منتفضاً زاد إيلامه وتعلّقه بالشرك وإنجراحه به.

غير أنَّ هناك ـ مع كل ذلك ـ بعض التجارب الشعرية الصادقة لدى إبن حزم، لم تثقلها القيود ولم تعق حركتها الإصطلاحات أو العلوم، وتلك جرى فيها إبن حزم على مذهب الشعراء لا العلماء ولكنها صور قليلة، كقوله :
أم هل لدهري عودةٌ نَحْوهاكمثل يومٍ مرَّ في الوادي؟

ظللتُ فيه سابحاً صادِياً يا عجباً للسّابح الصّادي!
ضنيتُ يا مولاي وجداً فماتبصِرُني ألحاظُ عُوّادي

كيفَ إهتدى الوجدُ إلى غائبٍعن أعينِ الحاظرِ والبادي

مَلَّ مداواتي طبيبي فقديرحمُني للسُّقمِ حُسّادي
هل لقتيلِ الحُبِّ من وادي أم هل لعاني الحُبِّ من فادي؟
وهذا دليل على أنّه كان بإمكان إبن حزم أن يعبّر عن عاطفته بطلاقة حين يتخلّى عن المصطلحات والنثرية ويطلق لنفسه العنان الشعري دون قيود الصناعة او تجريد الأفكار ذهنياً.

5ـ الجانب الديني :

كما أنَّ شعر إبن حزم يستقيم ويقترب من الوجدان حين يحمل مضموناً دينياً يتمكن منه ويعمّق فيه، فيجري على نسق الزّهاد والمتصوّفين.

ومن ذلك قوله في التوبة عن الصبوة ونهي النفس عن الهوى.
قد آنَ للقلب أن يُفيقَ وأنْيزيلَ ما قد علاهُ من حُجُبهْ

يا نفسُ جِدّي وشمّري ودَعيعنكِ إتّباع الهوى على لَغَبِهْ
وسارعي في النَّجاة وإجتهديساعية في الخلاص من كُربهْ

يا أيها اللاعبُ الُمجدّ به الــدَّهرُ أما تتّقي شبا نَكبه
كفاكَ من كلِّ ما وعِظتَ بهِما قد أراكَ الزَّمانُ من عَجَبِهْ

دَعْ عنكَ داراً تفنى غَضارتُهاومكسباً لاعباً بمُكتسبهْ

مَنْ عَرَفَ اللّه‏ُ حَقّ مَعْرفةٍلَوى وحَلَّ الفؤاد في رَهِبهْ

شكراً لربِّ لطيفُ قدرتهِفينا كَحَبْلِ الورِيد في كتُبهْ
رازقٍ أهلَ الزّمانِ أجمَعَهُمْمَنْ كانَ من عُجْمِهِ ومِنْ عَرَبِهْ

والحمدُ للّه‏ِ في تفضُّلِهِوقمْعهِ للزّمان في نُوبِهْ

أخْدَمَنا الأرضَ والسَّماءَ ومَنْفي الجوّ من مائِهِ ومن شُهُبِهْ
فأسْمَعْ ودَعْ مَنْ عصاهُ ناحيةًلا يحمِلُ الحملَ غيرُ مُحتَطبِهْ

أقصر عَنْ لهوِهِ وعن طربِهِ وعفَّ في حُبّه وفي عَربه
فليس شُرْبُ المُدام هِمَّتهُ ولا إقتناصُ الظَّباءِ من أربه
ومجمل القول أنَّ شعر إبن حزم لم يصدر عن تجربة صادقة بقدر ما صدر عن تكلّف ومعاناة ساعد عليهما أنَّهُ كان يقوم بدور شاعر القبيلة، ويتحدَّثُ على لسان إخوانه الذين كانوا يجشّمونه القول فيما يعرض لهم، إلى جانب أنَّهُ جعل شعره ميداناً للتفنُّن بالمصطلحات العلمية من كلّ لون: الفقهيّة والدينية والنحوية والفلسفية والطبيعية...

ولعلَّ هذا البحث أنْ يكون قد أفلحَ من تسليط الضوء على شعر إبن حزم في طوق الحمامة، وإنْ كنّا قد رأينا أنَّهُ شعرٌ قليل القيمة الفنية في معظمهِ، لأنَّهُ يتذرعُ أحياناً بالحجج العقلية والمنطقية، مما يجافي طبيعة الشعر الوجدانية، أو يتَّسم أحياناً اخرى بالنثرية والمباشرة مضحّياً بالصورة الفنية التي بدونها لا تقوم للشعر قائمة، إلى آخر هذه المآخذ التي يغص بها شعر إبن حزم، نقول: إنَّهُ وإنْ كنّا قد رأينا ذلك، إلاّ أنَّهُ لا يجب إنكار ما لطوق الحمامة من أهمية وما لشعره أحياناً، قليلة من قيمة فنية في بعض النماذج التي وفّق فيها الشاعر، ولعلّ حياة إبن حزم وعصره الذي إنعكست عليه مظاهر الشّرف والإنطلاق لعل هذه الحياة وذلك العصر هما اللّذان أبعدا شعر إبن حزم في الحُبِّ عن مثيله لدى العذريين من شعراء الجزيرة الذين كانوا أقرب إلى الفطرةِ والطبع والوجدان العفوي الصادق من أمثال قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وجميل بثينة وغيرهم.


دراسة منقولة

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
دكتورة.م انوار صفار
Admin
دكتورة.م انوار صفار


تاريخ التسجيل : 04/04/2010
البلد /المدينة : bahrain

بطاقة الشخصية
المجلة:

طوق الحمام , لأبن حزم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوق الحمام , لأبن حزم    طوق الحمام , لأبن حزم  Empty4/2/2012, 17:31

معلومات جميلة وجديدة لي شكرا لما قدمت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://eng-art.yoo7.com
 
طوق الحمام , لأبن حزم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قصة قصيرة : صيد الحمام
» لسلامة الأطفال في الحمام
» امثال وقصتها عن الحمام
» آيات الله في الحمام الزاجل
» تعليم الطفل دخول الحمام

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الهندسة والفنون :: الأدبي :: سيرة حياة الشعراء والادباء :: -سيرة حياة الشعراء-
انتقل الى: