ركام يخفي ما تحته , و ثلج يغطي رماد المدينة.
هكذا تبدو كارس -إحدى مدن الأناضول - بعيدة كل البعد عن استانبول، غارقة في الفقر و الانقسامات السياسية و البؤس.
تاريخها المضطرب يتمور تحت أكوام البياض.
لها من العثمانيين و الأرمن بعض الآثار و لها من الروس و الأتراك ما تبقى من نزف البشر.
لم تكن رحلة ( كا) رحلة عادية. ف ( كا) شاعر موهوب، شيوعي و يساري، تم نفيه من تركيا قبل رحلته إلى كارس بعشر سنوات .
عاد إلى استانبول بعد حصوله على اللجوء السياسي من ألمانيا لحضور جنازة أمه .
و أثناء وجوده في المدينة يتم تكليفه - من صحيفة معروفة في استانبول - بزيارة كارس و بالتحري عن موجة الانتحار التي قامت بها بعض فتيات المدينة المحجبات ، و يطلب منه أيضا تغطية انتخابات البلدة و التي يتوقع فوز الإسلاميين فيها.
أيبك يا أيبك
لم تكن حب حياته ، كانت زميلته فقط أيام الدراسة . ما يذكره بها هو جمالها الخاص و جاذبيتها الملحة. تزوجها أحد رفاقه و كانت قد انفصلت عنه حديثا.
حين علم بوجودها في كارس،تحمس للذهاب إليها و استحوذت عليه صورتها.
كا يعاني من الوحدة و الفراغ ، و ماء شعره قد جف لسنوات ، و مع المنفى لفه الحزن كيفما توجه.
الموات هو ما يعيشه. فلماذا لا يلجأ إليها ؟ لماذا لا يتزوجها و يعود بها إلى فرانكفورت؟
هذا الهاجس يدفع به إلى كارس النائية دفعا، و أثناء ذهابه تتعرض المدينة لعاصفة ثلجية تضطره للإقامة لمدة ثلاثة أيام في نزل يملكه والد أيبك و يديره .
و يرى أيبك.. أجمل مما يذكر، أشهى مما يحلم !!
و كما تنهمر ثلوج كارس على ساكنيها ، تنجرف في قلبه سيول من الحب!!
يعيش معها علاقة قصيرة ترسم له حياة سعيدة للحظات، و يظل يجترها لسنوات عدة بعد عودته إلى ألمانيا.
أيبك لها أخت ( كاديفي) تصغرها بأعوام عدة و تتزعم حركة الفتيات المتحجبات اللاتي يرفضن نزع الحجاب عن رؤوسهن و مقايضته بحق التعليم.و بين أيبك التي تنفصل عن زوجها بسبب انتمائه للإسلاميين و مطالبته لها بالحجاب ، و كاديفي ابنة أحد أعلام العلمانيين و التي تغطي رأسها ، تدور أسئلة لا تنتهي عن من تكون ، و كيف تكون ، و لماذا تكون نسيج وحدك .
رأيت الله
يلتقي كا بممثلي الأحزاب السياسية، من شيوعيين، علمانيين، أكراد، إسلاميين ، إعلاميين و إرهابيين !
كان منع الحجاب في المدارس و الجامعات و قصص الفتيات المنتحرات القواسم الرئيسية التي دفعت بكل هؤلاء للالتقاء به. و هنا يدور الصراع و القلق الوجودي بين الإيمان و الإلحاد، الانتماء العام و الاستقلال العرقي، الاندماج و الانفصال، الحرية الشخصية و الحرية العامة، الهوية الشرقية و الهوية الأوروبية.
صراع يديره كا على لسان الشخصيات التي يقابلها و يغوص في فلسفة الإيمان و الإلحاد لدرجة تجعله يستشعر وجود الله و يبكي أمام أحد الشيوخ و ينحني لتقبيل يديه و يتسلل إلى قلبه الشعر حيا ملهما و مختلفا ليكتب أول قصائده في مدينة الثلج و الرماد!!
فاتحة تنبجس منها تسع عشرة قصيدة في ثلاثة أيام.
لم يتوصل كا إلى السبب الحقيقي لانتحار الفتيات لكنه أراد أن يقول إنهن لم يكن سعيدات و إنهن انتحرن كرفض للانسلاخ من العقيدة تحت ضغط الدولة العلمانية.
يلتقي كا ( أزرق) أهم زعيم إسلامي للتنظيم المسلح و الذي يعد إرهابيا يمارس الاغتيال لعناصر الدولة.
أزرق شخص له كاريزما عالية ، وسيم لدرجة ملفتة و متفرس محنك لا يشق له غبار، إلا أن أورهان صور جانبا آخر منه فهو جبان في أعماقه ، متلون ، وصولي !!
أزرق بدأ حياته السياسية كيساري ثم عاد للإسلام، انتقل بعدها إلى ألمانيا و من ثم إلى أفغانستان فالشيشان و قاتل مع المجاهدين هناك ثم عاد إلى تركيا ليقوم بتصفية الرؤوس المطالبة بإلغاء الهوية الإسلامية من تركيا.
أزرق يؤمن بحزب الله و ثورة الخميني و يمارس إرهاب طالبان !
كما أنه يتصرف كأوروبي ، فهو يعاشر النساء المتزوجات و غير المتزوجات لنكتشف في أواخر الرواية بأنه عشيق أيبك قبل طلاقها و من ثم عشيق ( كاديفي) بعد حجابها !!!!!
باختصار هو شخصية سايكوباثية منحلة في جلد متأسلم !!
لم يبرئ أورهان ساحة الدولة ففي روايته يكشف عن المؤمرات العديدة التي تقوم بها المخابرات التركية لإفشال الانتخابات و انتزاعها من الإسلاميين و عن القهر الذي يمارس على المجتمع و على كل من يريد لتركيا طابعا مشرقيا إسلاميا.
تدور مسرحيتان مدبرتان من الجيش للإيقاع بالإسلاميين عن طريق استثارة مشاعرهم بالنيل من الإسلام و العقيدة و الحجاب و ينتج عن ذلك شغب و اغتيال للعناصر الإسلامية تليها حملات اعتقال و تعذيب و قتل بالرصاص الحي في منتصف العروض المسرحية.
أين الفقراء و المطحونون من أزرق و الدولة ؟؟؟
سكان كارس يتعاطفون مع أزرق و يتقبلون ازدواجيته و مع الوقت نكتشف ازدواجية كل أبطال القصة و ضياعهم بين ما يريدون و ما لا يريدون.
يتعاطف أهل كارس مع كا فهم يقدرون مكانته الأدبية لكنهم ينظرون إليه كبوق للغرب ، منسلخ عن هويته التركية.
تغيب هوية كا بطل القصة لكن انتماءه التركي يظهر جليا حين يكتشف علاقة أيبك بأزرق قبل أن تلتقيه بثلاث سنوات و يحاسبها على شيء مضى و يقول لها ” أنا تركي تركي !!!!! ”
و يبقى متأرجحا بين العلمانية و الهوية الغربية و إيمانه بوجود الله على امتداد الرواية.
وداعا يا كارس !
يتم وضع كا بين فكي كماشة، بين الدولة و الإسلاميين ( أزرق) . يقوم بالمناورة و يلعب دور الوسيط بينهما، فالدولة تريد أزرق خارج كارس مقابل أن تخلع كاديفي حجابها. يقبل كا المهمة الموكلة إليه بعد أن يقنع أيبك بالذهاب إلى فرانكفورت. تنجح المهمة مبدئيا لكن المخابرات تخل بشروطها فتقتل أزرق و تتحايل على كاديفي لنزع حجابها و تدبر لها جريمة قتل مفبركة و تنجح في سجنها لثلاثة أعوام في سجون الدولة. يتم نقل كا بأمر عسكري خارج كارس و تعتقد أيبك بأن كا قد غدر باتفاقه مع أزرق و تقرر عدم الذهاب معه إلى ألمانيا و تكتفي بأن تبعث له حقيبته !!
يعود أورهان الراوي لزيارة كارس بعد أربعة أعوام من زيارة صديقه كا إليها.
أورهان يذهب ليكتب قصة كارس بعد أن يستلم جثمان صديقه كا الذي يقتل أمام محل قذر في أحد شوارع فرانكفورت.
و دفتر كا الأخضر و الذي يحمل أجمل قصائده التي كتبها في كارس والذي عنونه بكلمة ( ثلج) يضيع دون أن يعثر له على أثر .
و كما يطوي الثلج صفحة الرماد و تتعاقب الأيام ، تبقى كارس كما هي و تنطوي صفحة كا إلى الأبد…
حين داهمنا الثلج
كان الثلج قد داهمنا من كل الجهات حين قررت قراءة رواية ثلج لأورهان باموك و عندما ذهبت إلى المكتبة للاطلاع على محتوى الرواية، وجدت خمسة عشر اسما على لائحة الانتظار.
قلت : أمري لله ، سأشتريها. فأنا لا أحب اقتناء كتاب مترجم دون معرفة صاحب الترجمة.
الكتاب يقع في أربعمائة صفحة، قطع متوسط، و قد تمت ترجمته و طباعته في عام ٢٠٠٤ باللغة الانجليزية ، ترجمته التركية مورين فريلي.
عنون أورهان فصوله إما بفكرة الفصل أو بمقولة لأحد أبطالها. الراوي هو أورهان صديق كا. أحيانا كان صوت أورهان يغيب تماما و يظهر صوت كا. أورهان صديق البطل بنى روايته على ملاحظات كا التي دونها في كتيب عن رحلته إلى كارس. طبعا بدت ملاحظاته طويلة جدا بالنسبة للفترة القياسية التي قضاها. و لا أعلم لماذا أقحم المؤلف أورهان نفسه في سطور الرواية. وجدته حدثا دخيلا و غير معقول و غير مبرر. الراوي العليم كان يخبرنا ببعض نهايات الأشخاص قبل الوصول إلى صلب الأحداث التي ستمر بهم مما أفسد علي متعة الإثارة.
تمنيت أن أفترسه في منتصف الراوية لأنه و بدون سابق إنذار و بعد أن تطرق إلى تجنيد كا من قبل المخابرات التركية و لعبه دور الوسيط و من ثم اختفائه ،و بعد الوصول إلى قمة الإثارة ، قطع سياق الرواية بإقحام أورهان الذي جاء يستلم جثة كا بعد أربع سنوات من زيارته لكارس ليعود بنا إلى نهاية الرواية و نحن في منتصفها.
و قد نجح فعلا في قتل فضولي لإنهاء الرواية و احتجت إلى كيلو من الفراولة لتحسين مزاجي المعكر!!
لغة الرواية مقالية جدا خصوصا في النصف الأول لدرجة جعلتني أشعر بأني أقرأ كتابا صحافيا. عاد بعدها للولوج في أعماق الشخصيات لكن بعد منتصف الرواية.
حبكة الرواية بدأت متماسكة جدا في الثلث الأول ، ترهلت في المنتصف ثم صارت ضعيفة جدا في النهاية و بدت الأحداث مفتعلة.
تقلب الأشخاص و علاقة أيبك بأزرق كلها أحداث جاءت خارج السياق و كان بإمكانه أن يبرر رفضها الذهاب مع كا إلى ألمانيا بأنها لم تملك وقتا كافيا لكي تحبه !
شخصية أزرق كانت هوليودية بامتياز و شخصية كاديفي كانت هستيرية ، أيبك كانت تتأرجح بين الاكتئاب و العصاب و كا كان مكتئبا على طول الخط. أما أنا فقد أصبت بالدوار بعد معاشرة كل هؤلاء…
تخلص أورهان من أشعار كا بعد أن أرهقنا بشرح محتوى قصائده و عناوينها و الأماكن التي استحضرها بافتعال قصة ضياع دفتره الأخضر و أعتقد أنه كان حلا مكشوفا للتهرب من عبئها.
يحسب لأورهان قدرته الفذة على استحضار تاريخ المدينة و شرح جغرافيتها و موقعها و مبانيها و معالمها و معمارها في سياق الرواية .
كما أنه بارع في تغيير مجرى الأحداث بسلاسة.
أورهان ألقى الضوء على الشخصية التركية و بين تمزقها بين هويتها الدينية و هويتها الأوروبية لكني لا أرى أنه أنصفها بزجها في خانة اللون الرمادي.
و أخيرا، أعتقد أن باموك وازن بين ما يريد الغرب سماعه و بين ما لا يدينه في صميم هويته التركية و لا يلغي معتقداته الدينية.
و قد نجح من وجهة نظري بالمقاييس الغربية فقط.
رواية جيدة لكنها لم تكن بحجم توقعاتي و أشهى ما فيها هو كيلو الفراولة الذي التهمته..
لتحميل الرواية
http://www.4shared.com/office/xBCZf6eH/_____.html