الشيخ مصطفى العدوي/ الالوكة
وينبغي أن يُدرَّب الطفل، ويُعوَّد على الطاعات وأعمال البِرِّ واتقاء المنكرات منذ الصغر، وقد قال الشاعر:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أبُوهُ
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه: ((أَسْلَمْتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ)) أي: إن خصال الخير التي اكتسبتها قبل إسلامك ستبقى معك، بل وستزيد بعد إسلامك، وقد كان من هَدْيِه - صلى الله عليه وسلم - تدريب الصغار على الطاعات منذ الصغر، بل والحث على ذلك؛ فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)) هذا مع كونهم غير مكلفين.
وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تمرةً من تمر الصدقة، فاستخرجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فمه؟ وقال له: ((كِخْ كِخْ، أما علمتَ أَنَّا - آلَ محمد - لا نأكل الصدقة؟))
وكذلك كانوا يمرنون الصغار على الصيام، ويجعلون لهم اللعبة من العِهن يشغلونهم بها إذا جاعوا، وذلك حتى يدخل وقت المغرب .
وكانوا يقدمونهم للصلاة بالناس إذا كانوا أكثر قرآنًا مع صِغَر سنهم وتقدم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول لعمر بن أبي سلمة: ((يا غلام، سم الله، وكُلْ بيمينك، وكل مما يليك).
وتقدم أيضًا أن ابن عباس كان يربط عكرمة بالحبل في رجليه لحفظ القرآن والسنة .
وتقدم أيضًا أنهم كانوا يصحبون الصغار إلى الحج بفتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
ولا يُكَلَّف الأبناء فوق طاقتهم، ولا يعهد إليهم بعمل لا يتحملونه؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - قال: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الخدم: ((ولا تُكَلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم مَنْ وَلِي من أمر أمتي شيئًا، فشَقَّ عليهم، فاشْققْ عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا، فرفق بهم، فارفق به)) .
وقد عرض ابن عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجهاد معه يوم أحد، فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليه يوم الأحزاب، فقَبِله وأجازه.
أخرج البخاري من طريق نافع قال: حدثني ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني.
وجاء بعض الصغار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لمبايعته، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبايعهم.
أخرج النسائي بإسنادٍ حسنٍ، من حديث الهرماس بن زياد قال: ((مددت يدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا غلامٌ ليبايعَني، فلم يبايعْني)).
وعند البخاري من حديث عبدالله بن هشام، وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وذهبتْ به أمه زينب بنت حميد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ((يا رسول الله، بايعه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هو صغير)).
وتُرَاعى أحوال الصغار وقدراتهم:
فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمَّ أحدُكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغيرَ والكبير والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده، فليصلِّ كيفَ شاء)) .
تخفيف العتاب:
فللأطفال قدراتٌ عقليةٌ أقل بلا شكٍّ من الرجال؛ فتراعى قدراتهم العقلية، ولا يؤاخذوا بكل شيء يصدر منهم، بل إن آخذتهم فآخِذْهم ببعض أفعالهم، وتجوَّز لهم عن البعض الآخر.
فقد وصف الأطفال – مع النساء – بأنهم سفهاء، وذلك في الجملة؛ كما قال ذلك جمهور المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5].
وقد ذكرتُ في كتابِي: "فقه التعامل بين الزوجين" قول الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]، وبيَّنتُ هناك أن المرأة إذا أخطأت في عشرة مسائل مثلاً، فلتؤاخذ في خمسة منها أو ستة أو أقل أو أكثر، ولتترك مؤاخذتها فيما بقي؛ فإن الله قال عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]، وأيضًا فالأطفال في هذا الباب كذلك.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما قال لي: أفٍّ قط، ولا قال لي لشيء: لِم فعلْتَ كذا؟ وهلا فعلت كذا.
ولا يفهم من هذا ترك المؤاخذة بالكلية، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخذ البعض وعاتبهم.
أخرج مسلم في صحيحه، من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: ألا أحدِّثكم عني وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: بلى: قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نَعْلَيْه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدتُ، فأخذ رداءه رويدًا ، وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويدًا، فجعلت درعي في رأسي ، واختمرت وتقنَّعت إزاري ، ثم انطلقت على إثره، حتى جاء البقيع فقام، فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفتُ، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت فسبقتُه فدخلت، فليس إلا أن اضطجعتُ فدخل، فقال: ((مالك، يا عائشُ حشيًا رابيةً؟ ) قالت: قلت: لا شيء، قال: ((لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير)) قالت: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فأخبرته، قال ((فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟)) قلت: نعم، فلهدني في صدري لهدةً أوجعتني)).
وأيضًا فقال: لا يحب الفساد، فإذا فعل الطفل شيئًا فيه فساد، فلزامًا أن ينهى عنه، ولزامًا أن يوجه إلى ما فيه الصلاح؛ إذ النصيحة واجبةٌ على المسلم للمسلم.
ولستَ أيها الأب بمعصوم:
فقد تخطئ في تصرفاتك مع أبنائك، قد تشتد والأمر لا يحتاج إلى شدةٍ، بل يحتاج إلى رفق، قد تشتم وتسب، والأمر يحتاج إلى شكرٍ وثناءٍ، فماذا تصنع بعد فيئك إلى الحق، عليك أن تطيب الخواطر، وتعتذر عما كان منك بأسلوب يحفَظ لك مقامَك كأبٍ، ويحفظ الأبناء حقوقهم كمظلومين منك.
إن الله - سبحانه وتعالى - أمر بالإحسان إلى الوالدين بقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]، عقب الله ذلك بقوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25].
وذلك – والله أعلم – أنه حتى أهل الصلاح الذين امتلأت قلوبهم محبةً لوالديهم، حتى هؤلاء قد تصدر منهم زلاتٌ وهفواتٌ في حق الآباء والأمهات، فحينئذ إذا صدرت منهم الزلات وتلك الهفوات، فباب التوبة مفتوحٌ، وباب الرجعة والإنابة مفتوحٌ؛ ولذلك – فيما أرى والله أعلم – قال تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]، أي: للراجعين عن الخطأ بعد الوقوع فيه، فالله غفور لهم.
وكذلك في حق الأبناء، بل وعلى العموم فإن الله كان للأوابين غفورًا.
تشجيع الأبناء وتحريضهم على الخير وحثهم على المعروف:
وتحريض الأولاد على الخير، ودفعهم إليه، وتشجيعهم على فعله، وحثهم على الإقدام عليه - كل ذلك له عظيم الأثر وكبير النفع في صلاح الأولاد وعلوهم، سواء كان هذا التحريض بكلمات التشجيع وعبارات الثناء، أو يكون بالعطيات والهبات، أو بقذف الثقة في نفس الابن أو بغير ذلك؛ مما يكون سببًا في الدفع إلى الخير والحث عليه.
وقد صدرت في ذلك جملة من المقولات الطيبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أصحابه كذلك، لغلمان أصبحوا فيما بعد أئمةَ هدى، يُهتَدى بهديهم ويُقتَدى بسِيَرهم، ومن ذلك ما يلي:
ثناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ابن مسعود بقوله له: ((إنك غلام معلَّم))؛ وذلك فيما أخرجه ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: كنت غلامًا يافعًا أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وقد فرَّا من المشركين فقالا: ((يا غلام، هل عندك لبن تسقينا؟)) فقلت: إني مؤتمن، ولست أسقيكما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هل عندك من جزعة لم ينز عليها الفحل؟)) قلت: نعم، فأتيتهما بها فاعتقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسح الضرع ودعا، فحفل الضرع، ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها فشرب أبو بكر، ثم شربت، ثم قال للضرع: ((أقلص)) فقلص، قال: فأتيته بعد ذلك فقلت علمني من هذا القول، قال: ((إنك غلام معلم))، فأخذت مِن فِيهِ سبعين سورةً لا ينازعني فيها أحدٌ.
ومن ذلك تولية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد إمرة جيشٍ كبيرٍ، وأسامة صغير السن لم يتجاوز العشرين.
أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أمَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة على قوم، فطعنوا في إمارته فقال: ((أتطعنون في إمارته؟ فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايْمُ الله، لقد كان خليفًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده)).
وهذه صورة من صور التشجيع أيضًا:
أخرج البخاري ومسلم من حديث عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتُّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيانِ حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سرًّا من صاحبه مثله، قال فما سرَّني أني بين رجلين مكانهما، فأشرتُ لهما إليه، فشدَّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء.
وفي رواية للبخاري : ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ((أيُّكما قتله؟)) قال كل واحد منهما: أنا قتلتُه، فقال: ((هل مسحتما سيفَيْكما)) قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: ((كِلاكما قتله))، سَلَبُه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح.
منقول