مقدّمة
إذا نظرنا إلى الحضارة الإنسانيّة بمفهومها الشّامل نجد أنّه لم تقُم إلى الآن، في الشّرق والغرب والشّمال والجنوب، سوى "مدنيّةٍ إنسانيّة واحدةٍ كبرى"، جمعت ثقافات النّاس وحضاراتهم على مرّ العصور. ذلك أنّ التّأثّر والتّأثير والاقتباس تبادلٌ بين الأمم، والأنظمة الاجتماعيّة والسّياسيّة أبدًا في تفاعل، وهذا من بواعث التّجدّد في العلوم والأفكار والآداب والفنون التي تعكس التّطوّر الإنسانيّ.
لقد حظيت الحضارة اليونانيّة باهنمام الشّعوب المُجاورة منذ أقدم العصور، وكان تأثيرها عظيمًا في ميادين مُختلفة. وإذا كانت فتوحات الإسكندر في القرن الرّابع قبل الميلاد قد أتاحت للعرب أوّل اتّصال بالثّقافة اليونانيّة، غير أنّ أثر هذا التّلاقي لم يظهر إلاّ خلال النّهضة العبّاسيّة، وبخاصّة في عهد المأمون، إذ راح مُترجمون رهبان في الرّها وجُنديسابور وحرّان وغيرها ينقلون العديد من مؤلّفات اليونان، عبر ترجمة إلى السّريانيّة ثمّ إلى العربيّة. و"الثقافة اليونانيّة متأثّرة، أصلاً، بالحضارات الشّرقيّة القديمة المجاورة، في فينيقية وبابل ومصر، وقد نقل اليونان نتائج الفكر الشّرقيّ من المجال العقلانيّ، وأزجوا إلى العالم فلسفةً وعلومًا" كما قال د. وليم الخازن في كتابه الحضارة العبّاسيّة. أمّا الغرب، فعندما عرف عظَمة الثّقافة الإغريقيّة وغِناها (بخاصّة بعد سقوط القسطنطينيّة)، انكبُّ باحثوه على دراسة روائعها، وغرفوا من مَعينها، وباتت دراسة اللغة اليونانيّة إلزاميّةً في أوروبا لكلّ من أراد تحصيلاً علميًّا في مختلف المجالات.
لقد تأثّر العرب قديمًا بالثّقافة اليونانيّة كما تأثّروا بسائر الثّقافات الّتي خالطوها، كالفارسيّة والهنديّة والإسبانيّة والحبشيّة والقبطيّة وغيرها. وسنحاول أن نلقي الضّوء على المجالات الّتي حصل فيها هذا التّفاعل بين اليونان والعرب في العصور العبّاسيّة، بخاصّة في الأدب والشّعر والحكمة والفلسفة، عالمين أنّ ميادين أخرى أيضًا كان لها الأثر البليغ في ثقافة العرب، كالرّياضيّات والميثولوجيا والمسرح والفنون والقانون وعلم الاجتماع وغيرها.
إنّ انفتاح سبل التّواصل أدّى إلى تفاعلٍ وتراسلٍ سهل وسريع بين جميع حضارات العالم. وهذا ما يسهّل أمور المقارنة الأدبيّة من جهة، ولكنّه قد يُدخلها لاحقًا في متاهات كبيرة لتعدّد الموضوعات وتداخلها. تبقى الإشارة إلى أنّ هذا التّفاعل الّذي ندرسه في الأدب هو المأرب الأساس الذي نتوخّاه من علم المقارنة الأدبيّة، لأنّه يعرّف الشعوب بعضَها إلى بعض، وينشر الثقافة ويعمّم المعرفة ويقرّب الأذواق.
1. في الأدب والشّعر
اللغة اليونانيّة صنو اللغة العربيّة في حروف المدّ، كما أنّ البسلتيكا (الموسيقى اليونانيّة) أقرب أنواع الموسيقى إلى العرب[1]. وإذا كان الفارابي قد ذكر أنّ اليونان خصّصوا لكلّ غرض شعريّ وزنًا مُستقلاًّ كما فعل العرب، فإنّه عدّ من أنواع الشّعر اليونانيّ ثلاثة عشر نوعًا. وظهر أثر الإغريق واضحًا في الأدب العبّاسيّ في مجالات مُختلفة. فكثرٌ هم الشّعراء والأدباء الّذين عرفوا الثّقافة اليونانيّة وتحدّثوا عن رموزها. وكثيرًا ما نقع في شعر أبي العتاهية والمتنبّي وابن الرّومي وغيرهم على آراء حكميّة وفلسفيّة تذكّر بأقوال الفلاسفة اليونان أو بقادتهم وآلهتهم ورموزهم.
استحضر المتنبّي طيف الإسكندر المقدونيّ ذي القرنَين عندما يمدح محمّد بن زُرَيق الطّرسوسيّ قائلاً:
ملكٌ إذا عـادَيتَ نفسَك عـادهِ ورضيتَ أوحشَ ما كرِهتَ أنيسـا
[...] لو كان ذو القرنين أعمـل رأيـهُ لمّا أتى الظّلمـاتِ صِرنَ شُموسـا
وقال الجاحظ: "قال خطيب من الخطباء، حين قام على سرير الإسكندر وهو ميت: "الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، ولكنّه اليوم أوعظ منه أمس". ومقابل "كتاب الحيوان" لأرسطو، كان "كتاب الحيوان" للجاحظ. وفيه يورد بعض ما قاله أرسطو ويردّ عليه بالمنطق منطلقًا من الشّك العلميّ.
وهجا ابن الرّومي صاعدًا وابنه أبا عيسى، وممّا قاله:
وثـنى بابنـه السّفيـهِ المُعنّى بأسـاطير أرسطاطـاليسِ
والّذي لم يصُـخْ بأذنيـهِ إلاّ نحو ذوثوريسَ أو واليـسِ
عاقدًا طرْفَهُ بـيهرامَ أو كيوانَ أو هرمس أو البـرجيسِ
أو بشمس النّهار والبدرِ والزّهــــرةِ عند التّثليثِ والتّقديسِ
واجتمـاعـاتهنّ في كلّ قيدٍ وافتراقـاتهنّ عن كلّ قيسِ
فهو، على حدّ ما قاله العقّاد، "في الأبيات الأخيرة يذكر الفلاسفة والرّياضيّين بأسمائهم المعروفة في الكتب المنقولة، ويذكر أكثر الكواكب بأسمائها الفارسيّة، ويذكرها في غير هذه الأبيات بأسمائها المعروفة عند الكلدانيّين والفرس الأقدمين، ونقلها منهم اليونان، ولا تزال مشهورة إلى اليوم في آداب الغربيّين، فيقول في مدح إسماعيل بن بلبل، وكان كاتبًا قائدًا:
وافى عطـاردُ والمرّيخُ مولـدَه فأعطياه من الحظّين ما اقترحا
لأنّ عطـارد كان ربّ الكتابة والحكمة والفنون عندهم، والمرّيخ كان ربّ الحرب والشّجاعة.
ويقول في مدح عبيد الله بن سليمان بن وهب:
إذا صَبـَت زهرتُـهُ صبوةً قال له هرمسِهُ : هندسي
وإن عدا هرمسُـه حـدّه قالت له زهرتـُه : نفّسي
والزّهرة هي ربّة الجمال واللهو، وهرمس هو اسم عطارد عند الفرس، وهو ربّ الكتابـة والحكمة كما تقدّم، يعني أنّ ممدوحه يميل مع اللهو والجمال فتهيب به الحكمة والمعرفة، ويرهق نفسه بهذه فتدعوه الزّهرة إلى التّنفيس".
ويستحضر أبو العلاء المعرّي رموزًا إغريقيّة للعلم والمعرفة، فيقول:
أيجلو الشّمسَ للرّائي نهـارٌ وقد شرقت ومشرقها مُضِبُّ
ولم يدفع ردى سقراطَ لفظٌ ولا بقراط حامى عنه الطّبُّ
قال المعتمد بن عباد ممازحًا ابنه الرّاضي، فقال:
أولست رسطاليسَ إنْ ذُكِر الفلاسفــةُ الأكابرْ
[...] مَنْ هُرمُسٌ مَن سيبويـ ـهِ مَنِ ابنُ فوركَ إذ تُناظِرْ
فهرمس هو ابن زوس ومايا ابنةِ أطلس في الميثولوجيا اليونانيّة، يقود الظّلال نحو هادس إله الموتى وسيّد المملكة السّفليّة في الجحيم، ويحمي المسافرين ويجلب الحظّ، وهو سيّد اللصوص والتّجّار.
2. في الفلسفة والحكمة
عرف العرب أنّ حاجتهم إلى الفلسفة الإغريقيّة تفُوق حاجتَهم إلى غيرها من العلوم، فاستقَوا منها، ونقلوا الكثير من نظريّات أرسطو وأفلاطون وغيرهما، وأفاد فلاسفة العرب ومتصوّفوهم من هذا المَعين، ووردوا علم المنطق والجدل فاغترفوا منه وأغنَوا مبادئهم، وركّزوا فقههم على أسسه. وفلسفة العرب ليست، في الأساس، إلاّ فلسفة يونانيّة متأثّرة بنظريّات الشّعوب الّتي غلبوها، وقد وُضعت بشكلٍ يوافق العقليّة الإسلاميّة. والميدان الفكريّ الّذي ظهرت فيه آراؤهم كان وسطًا بين الفلسفة وعلوم الدين.
كان الكنديّ أوّل من حاول التّوفيق بين الفلسفة والدّين. وهذه العمليّة تابعها الفارابي، وشرح منطق أرسطو وتوسّع في التّأليف الفلسفيّ، فوضع كتابه "الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو". ويُعدّ كتابه "آراء المدينة الفاضلة" خلاصة تفكيره، ويظهر فيه مدى تأثّره بما جاء في "المدينة الفاضلة" لأفلاطون.
خاتمة
لمَ لم يحصل تأثير وتأثّر بين الأتراك أو الرّومان والعرب بقدر ما حصل مع اليونان؟ علمًا بأنّ الرّوم بقوا في الشّرق منذ القرن الأوّل قبل الميلاد حتّى الفتح الإسلاميّ. وبعد ذلك بقي التّماس بين العرب والرّوم في معارك وحدود وأسرى وعبيد وتبادل هدايا وعلاقات طبيعيّة تارة وطورًا مأزومة. ومع العلم بأن للرّوم ثقافةً عريقة وعندهم فلاسفة وشعراء كفرجيل وخطباء كشيشرون وغيرهما. عندما اندحر الإغريق وعادوا إلى بلادهم لم يجد العرب حرجًا في اقتباس علومهم والتّعرّف إلى أدبهم وفنّهم وحضارتهم. وكان الإنجيل قد كتب بالآراميّة واليونانيّة. وحصل تأثير دينيّ وفقهيّ طاول المجتمع بأسره. ولم تكن اللغة اليونانيّة بغريبة عن العرب، لأنّ الإغريق سيطروا على المنطقة زهاء ثلاثمئة عام. لقد أحبّ العرب الشّعب اليونانيّ وكانت العادات متقاربة لقرب المسافة بين المنطقتين وكان اختلاط بعض الأسر. ولا يغيب عن بالنا ما بقي من أسماء يونانيّة الأصل كطرابلس وحلب وهليوبوليس. ولكنّ السّؤال الأهم: لمَ تُرجمت أفكار أرسطو وأفلاطون وتأثّروا بهما ولم يتأثّروا بسقراط بالمقدار عينه؟ ولمَ لم يتأثّروا كثيرًا بصوفوكليس وهوميروس؟ لا شكّ في أنّ عنجهيّة العربيّ تأبى عليه رواقيّة سقراط وقبوله الانتحار رفضًا للظّلم. ولعل اهتمامهم بالفنون كان يقتصر على ما كان منها عربيّ المنبع والجذور، أو ما كان يلائم طبائعهم، ويتوافق وعاداتِهم، ويُرضي غرورَهم المترفّعَ عن التّظاهر والتّخيّل؛ أو لأنّهم ملتصقون بالبيئة الدّينيّة ومنشغلون بحاجاتهم الأساسيّة وبالفتوحات، وبنشر مبادئ دينهم، ولاعتدادهم بلغتهم وبتفوّقهم؛ فضلاً عن أنّ البدويّ لم يكن ميّالاً بفطرته إلى الدّروس الأخلاقيّة والتّحليلات النّفسيّة الدّقيقة. ويمكن أن تكون هذه الأسباب مجتمعة وغيرها وراء خلوّ الأدب العربيّ القديم من التّمثيل. ولكنّ النّقّاد أجمعوا على حقيقة ثابتة، وهي أنّ العرب لو قُدِّر لهم أن يتعرّفوا الفنون المسرحيّة والرّوائيّة والملحميّة الإغريقيّة لاغتنت ثقافتهم، وزاد علمهم، وتوسّع فكرهم، ولربّما تغيّر الكثير من عاداتهم، لأنّ باب المعرفة فكرةٌ، مَن أحجم عنها فقدَ المفتاح وبقي خارج ملكوتها.
[1] . كان يوحنّا الدّمشقيّ، أسقف دمشق، من روّاد الموسيقى البيزنطيّة اليونانيّة في القرن الثّامن الميلاديّ، وكانت التّرانيم والصّلوات في جزء كبير من العالم العربيّ شرقًا تُتلى باللغة اليونانيّة، وعندما عُرّبت احتفظوا بالنّغم اليونانيّ الأصليّ.
منير معلوف