التجربة الحياتية: ما هو علم النفس المعمارى !!

التجربة الحياتية: ما هو علم النفس المعمارى !!

بقلم. على سامى - بناة - خاص:

"علم النفس المعمارى" !! ... ماذا يعنى هذا المسمى ؟؟ ... سأبدأ معك بتصور تخيلى ينقل لك ما يعنيه هذا المصطلح .. تخييل أنك فى وسط غابة من الأشجار الخضراء المورقة فى أحد فصول الربيع فى نهار أحد الأيام .. اصوات الأشجار والطيور حولك .. الهواء النقى المنعش ... لعلها أجواء جميلة ومثالية يحبها الإنسان ليقضى وقتاً سعيد ويكون منطلقاً ... الأن الوقت إختلف ... أنه الليل .. هل تشعر بالرعب والخوف وعدم الأمان !! .. ألست بحاجة لكوخ صغير تحتمى تحت جدرانه .. ولعل القليل من الضوء يفيد ويساعدك ... فكر فى كل المشاعر التى تنتابك .. وإحتياجاتك النفسية وقتها .. هذا هو تحديداً الفرق بين الفراغات الواسعة والضيقة ... الإنطلاق والأمان ... بين الليل والنهار ... بين الأنوار الفاتحة والغامقة .. وبين الظلام والنور ... أنت لا تستطيع النوم المريح فى عز الظهر فى مكان فسيح .. ولكنك بحاجة لضوء خافت ربما لتشعر بالأمان لتتمكن من النوم ... درجة الإضاءة مهمة فى تلبية متطلبات "نفسية" لديك
أتذكر حكاية سمعتها فى الأونة الأخيرة عن الرئيس المصرى السابق مبارك .. من كونه أنه لم يستطع أن يعيش فى قصر العروبة فى بداية حكمه .. وأنتقل إلى فيلا ذات فراغات بمساحات أصغر .. هو لم يستطيع أن يتكييف نفسياً هو أسرته مع هذه الغرف الفسيحة جداً بالقصر ... لأنه بمنتهى البساطة يشعر فيها بعدم الأمان وقلة الخصوصية حتى ولو كانت الأبواب مغلقة !!.

إننا نقضي معظم حياتنا داخل المباني ... أفكارنا تتشكل بين جدرانها... ومع ذلك، فمن المستغرب أن لا نجد إلا القليل جداً من الأبحاث عن الآثار النفسية للهندسة المعمارية. وكيف للفراغات المختلفة أن تؤثر على الإدراك؟ هل يوجد نوع مثالي من المعمار لأنواع مختلفة من البشر المختلفين فى التفكير؟

في الأونة الأخيرة, أعتقد أننا بدأنا نتفهم هذه المتغيرات ذات الصلة بالتصميم. كريستيان جاريت ( Christian Jarrett )، على سبيل المثال، سلطت الضوء على دراسة جديدة عن الأثاث المنحني مقابل الأثاث المستقيم. وكانت فكرة الدراسة نفسها بسيطة: فتم عرض الأشخاص قيد الدراسة على سلسلة من الغرف المليئة بأنواع مختلفة من الأرائك وكراسي الصالات. وكانت النتيجة سيئة لعشاق الحداثة - فلقد أوضحت الدراسة أن الأثاث الذى يحدده حواف مستقيمة كان ذا جاذبية أقل عند هؤلاء الأشخاص وأعتبروه أقل ودّية من الأخريين. وهذا بكل آسف للو كوربوزييه.


Image is taken from the paper | Furniture Forms and Their Influence on Our Emotional Responses Toward Interior Environments. Environment and Behavior

يمكننا أن نضع فى إعتبارنا أيضاً هذه التجربة التى تمت عام 2009، ونشرت في مجلة العلوم. حيث كان لدى أحد علماء النفس في جامعة كولومبيا البريطانية الرغبة في النظر في كيفية تأثير لون الجدران الداخلية على خيال الإنسان.فقاموا بتجنيد ما يقرب من 600 شخص قيد الدراسة، معظمهم من الطلاب الجامعيين، وكان عليهم أداء مجموعة متنوعة من الاختبارات المعرفية الأساسية المعروضة على خلفيات ملونة بالأحمر، والأزرق أو ألوان محايدة أخرى.

فجاءت الإختلافات ملفتة للنظر بحق. فعندما قام هؤلاء الأشخاص باختبارات في محيط أحمر - حيث أحاطتهم جدران لون بلون علامات الوقوف - كانوا أفضل بكثير في المهارات التي تتطلب دقة والاهتمام بالتفاصيل، مثل اصطياد الأخطاء الإملائية أو حفظ أرقام عشوائية في الذاكرة على المدى القصير. ووفقا للعلماء، فإن ذلك لأن الناس يربطون تلقائيا اللون الأحمر مع الخطر، الأمر الذي يجعلهم أكثر يقظة ووعيا.

أما اللون الأزرق على أي حال كانت له مجموعة مختلفة تماما من الفوائد النفسية. فبينما الناس في المجموعة الزرقاء كان أداؤها أسوأ فى مهام الذاكرة على المدى القصير، إلا أنها كانت أفضل بكثير فى تلك التي تتطلب بعض الخيال، مثل إيجاد وأبتكار الاستخدامات الإبداعية للبنة أو طوبة بناء أو تصميم لعبة للأطفال من أشكال هندسية بسيطة... في الواقع، لقد أبتكر الأشخاص قيد الدراسة في حالة اللون الأزرق ضعفى الإنتاجات الإبداعية للأشخاص الذى تم وضعهم حالة اللون أحمر.... نعم ما قرأته صحيح ... لون الجدار قادر على أن يضاعف قوة خيالنا وإبداعنا.

ما الذي يفسر هذا التأثير؟!! ... وفقا للعلماء، فإن اللون الأزرق يرتبط تلقائيا فى أذهاننا مع السماء والمحيطات. فنحن نفكر في الآفاق الواسعة والضوء المنتشر، والشواطئ الرملية وأيام الصيف الكسول. هذا النوع من الاسترخاء الذهني يجعل من السهل بالنسبة لنا أن نغرق فى أحلام اليقظة وأن نفكر فى أشياء متعارضة، ولكننا نكون أقل تركيزا على ما هو يمثل واقعاً ماثلاً أمام أعيننا، ونكون أكثر إدراكا للإمكانيات والأفكار التى تختمر في خيالنا.

وأخيرا، فإن عالمة النفس جوان مايرز ليفي ( Joan Meyers-Levy )، من مدرسة كارلسون للإدارة، أجرت تجربة مثيرة للاهتمام ... حيث بحثت في العلاقة بين ارتفاع السقف، ونمط التفكير... وأثبتت أنه عندما يكون الناس في غرفة ذات سقف منخفض ، فأنهم يكونون أسرع بكثير في حل الجناس مثل ألعاب الكلمات المتقاطعة وترتيب الكلمات ... والتي تنطوي على قيود، ومحددات. وفي المقابل، فإن الناس تحت الأسقف العالية تتفوق في الألغاز "البازل" التى تلمس فى جوابها موضوع الحرية و "الغير محدود". فوفقاً لليفي، وذلك لأن الفراغات الرئيسية الواسعة تجعلنا نشعر أكثر بالحرية.

علاوة على ذلك، فلقد وجدت ليفي أن الغرف ذات السقوف العالية تؤدي أيضا بالناس للانخراط في أنماط من التفكير أكثر تجريدا. بدلا من التركيز على تفاصيل الامور، وانهم يكونون اكثر قدرة على رؤية الأمور من أعلى ليروا ما هي الأمور المشتركة فى المشكلة ...بمعنى .. أنه في بعض الأحيان بالطبع، تجد أننا نريد أن نركز على تفاصيل شيئ أو مشكلة، في هذه الحالة فإن قبو خانق ربما يكون مثالياً. من ناحية أخرى، فعندما نكون بحاجة إلى التوصل إلى حلول إبداعية، فأنه ينبغي أن نسعى للتواجد فى فراغات أكثر رحابة. لا سيما إذا كانت ذات جدران زرقاء.

غني عن الذكر أننا نأخذ أولى خطواتنا فى فهم كيفية تأثير فراغات المباني داخل العقل. فعقل الإنسان يتكون من عوامل عديدة ومعقدة ومتداخلة تجعل كل فرد كائن فريد ومختلف .. إلا أن هناك لغة بشرية عالمية وثوابت بيننا وبين محيطنا.

هناك أبعاد أخرى لعلّى سأناقشها فى مقالات لاحقة .. مثلا علم الفينغ شو ( Feng shui ) الصينى القديم ... والتى يهتم بدراسة تأثير المكان والأشكال على الإنسان ونفسيته وطاقاته ... وعلوم أخرى ودراسات وتجارب أخرى عديدة .. نتناولها لعلها تنفض قليلاً من الغبار عن هذا الجانب الذى لا غنى عنه فى علوم العمارة