الحمد لله رب العالمين، الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وجعلهم الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في السلوك الفاضل والخلق النبيل، وجعل لهم أزواجاً وذرية، القائل في محكم كتابه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾([1])، والصلاة والسلام على رسول الله الكريم الذي أكمل الله به الدين وأتم به النعمة وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبعد،،،
فمما لا شك فيه أن الأولاد في الأسرة نعمة عظيمة، وهبة من الله سبحانه القائل في كتابه الكريم: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾([2])، فالأسرة بدون الأولاد أشبه بشجرة تساقطت أوراقها وهجرتها البلابل المغردة، ولا غرو في أن يحرص كل زوجين على أن ينجبا لينعما ببهجة الأطفال والآمال المعقودة عليهم إذا ما بلغوا مبلغ الرجال وكم من زوجين فرق بينهما العقم على الرغم مما قد يكون بينهما من حب ووئام، وقد بين القرآن الكريم أن الأبناء زينة الحياة الدنيا ومتاعها، قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ﴾([3])، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة ، وقد يجمعها لأقوام"([4]).
وأخبرنا المولى تعالى أن بعض الأنبياء توجه إليه بالدعاء في أن يرزقه الولد وألا يدعه فرداً بلا خلف، فقال تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾([5])، وقد أثنى الله على نبيه زكريا عليه السلام حيث قال: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّ﴾([6]) والنداء هنا بمعنى الدعاء. وفي علة إخفائه لذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: ليبعد عن الرياء، قاله ابن جريج.
والثاني: لئلا يقول الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد عند الكبر، قاله مقاتل.
والثالث: لئلا يعاديه بنو عمه، ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده، ذكره أبو سليمان الدمشقي([7]).
فالولد نعمة ومتعة من متع هذه الحياة، وهم كما قال عنهم الأحنف بن قيس: "ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة"([8]). وما دام الأولاد نعمة ومتعة وزينة، فإن الإسلام رتب لهـؤلاء الأبناء حقوقاً من قِبَل الآباء، وهي حقوق تقضي بها الفطرة السوية، ولكن الإسلام مع هذا وضع الضوابط والقواعد التي تحافظ عليها، وتحول دون التفريط فيها أو إساءة القيام بها([9]).
ويهتم هذا البحث بتلك الحقوق، بعنوان: (الطفولة والعناية بها في ظلال القرآن والسنة)، وينتظم البحث في مقدمة وتمهيد يلقي ضوءاً على أهمية الأسرة ورسالتها المقدسة ثم بيان حقوق الطفولة في فصلين.
يتناول الفصل الأول: الحقوق قبل الولادة، ويشتمل على مبحثين* المبحث الأول: حقوق الأطفال، والثاني: حق الحياة للجنين.
أمّا الفصل الثاني: حقوق الأطفال بعد الولادة حتى البلوغ، وتحته مباحث تتناول حق النسب، وحق اختيار الاسم الحسن، وحق الرضاع والحضانة، وحق التربية، وحق النفقة، كما ذيلت البحث بخاتمة تشتمل على أهم النتائج التي توصل إليها البحث.
تمهيد: أهمية الأسرة في الإسلام:
يعتبر الفرد هو اللبنة الأولى والخلية في بناء المجتمع الإسلامي، ومن أجل ذلك كانت عناية الإسلام بالأسرة واهتمامه بها باعتبارها المحضن الطبيعي الذي يقوم على رعايته، وليس هناك أجدر ولا أحق من الأسرة مكاناً لهذه الرعاية، وقد أثبتت الإحصاءات العلمية أن أهم الفترات في حياة الطفل هي السنوات الأولى من عمره، وأن طفل الأسرة المستقرة المتوافقة غير طفل الأم العاملة المرهقة المتشتتة، كما أن نتائج التفكك الأسري في الغرب كان سبباً للتشرد والانحراف وسوء الأخلاق، والأسرة في نظر الإسلام هي أساس المجتمع وخليته الأولى، هي ذات كيان دائم يراد له السمعة الطيبة والوئام والاستقرار([10])، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً﴾([11]).
ومن هنا كانت العناية بتقوية الأسرة من أهم ما يجب على المصلحين رعايته وأخذ الطريق إليه، ولا يكون ذلك إلا بتوخي المبادئ القوية التي يشاد عليها صرح الأسرة وتضمن لها البقاء والنماء قوية مثمرة.
وقد اهتم الإسلام بتنمية الشعور الفطري الذي ينشأ من خلال الرابطة الأسرية وعمل على المحافظة على هذه الآسرة وتقويتها بالأمور الآتية:
[1] حرص الإسلام على أن يسود الصفاء والمحبة في محيط الأسرة فحدّد دائرة معينة من الأقارب حرّم فيها الزواج سمواً بهذه القرابة ووقاية لهذه القلوب المتآلفة من شواهد الخصومة والبغضاء التي تنشأ من خلال الممارسات اليومية فقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمً﴾([12]).
[2] قرر حق التوارث بنظام فريد واضح ذكره القرآن الكريم يحفظ لكل ذي قرابة حقه دون نقص أو زيادة.
[3] قرر الإسلام حق النفقات للأصول على الفروع، والفروع على الأصول صيانة للحرمات وكفاية للحاجات وإغلاقاً لباب الحرج، وهذا أمر مذكور في محله في كتب الفقه بالتفصيل.
[4] قرر حق الحضانة والرضاعة اهتماماً بالأطفال وحفاظاً على الرابطة الأسرية كي تمتد وتزدهر فلا تنقطع ولا تتوقف.
[5] أوجب صلة الأرحام وقرر استمرارها بالبر والزيارة والتعهد والرعاية فقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴾([13]) وجعل قطيعتها من خصال الكافرين ومن الفساد الذي نهى عنه الإسلام قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾([14]).
[6] ومراعاة للمشاعر الإنسانية قرر حق العتق لمن ملكه قريبه فقال : "من ملك ذا رحم فهو حر"([15]).
مقاصد الإسلام في بناء الأسرة:
يهدف الإسلام في بناء الأسرة إلى أن يحقق بإشباع الغريزة عن طريق الزواج المقاصد الحسنة والأهداف العليا للإنسان في هذه الحياة وتتلخص هذه المقاصد في الأمور الآتية:
[1] إشباع الغريزة الجنسية بالطريق المشروع على نحو يصون العفة ويحفظ الأعراض ويحقق الإحصان ويضمن بقاء النوع الإنساني ويبعده عن شبح الانقراض.
[2] المحافظة على صفاء النسل ونقائه وصيانة الأنساب من الاختلاط وصيانة المجتمع من التحلل والفساد.
[3] العمل على إيجاد الجو الصالح والمناخ الملائم والتربة الخصبة لضمان النشأة السوية للكائن الإنساني ، والحقيقة أن علاقة الرجل بالمرأة ونظرة كل منهما للآخر وإشباع كل منهما لغريزته والنتيجة المترتبة على هذه العلاقة لا سبيل لإشباعها إلا بأحد أمرين:
أ- إما بالطريق المشروع الذي يؤدي إلى نقاء النسل والمحافظة على الأعراض والأنساب والقيم والأخلاق والمبادئ والأعراق .. الخ.
ب- وإما بالطريق المعوج المنحرف المؤدي إلى الزنا والسفاح والذي يقود سالكيه إلى إيلاد اللقطاء والأبناء غير الشرعيين وما يتبع ذلك من النشأة غير السوية واختلاط الأنساب والعقد النفسية والانحراف الأخلاقي المؤدي إلى انتشار الأمراض المستعصية كما يعرض المجتمع للتفكك والانهيار([16]).
الفصل الأول
الحقوق قبل الولادة
المبحث الأول: حقوق الأطفال
الحقوق جمع حق، والحق في اللغة له عدة معانٍ منها: أنه اسم من أسماء الله تعالى، والأمر الثابت الذي لا شك فيه، والنصيب الواجب للفرد والجماعة([17]).
ويراد بالكلمة شرعاً: (علاقة شرعية تؤدي لاختصاص بسلطة أو مطالبة بأداء أو تكليف بشيء، مع امتثال شخص آخر على جهة الوجوب أو الندب([18]).
والأطفال جمع طفل. والطفل: الصغير من كل شيء. والطفل: المولود من حين يولد إلى أن يحتلم.
وهو للمفرد المذكر وجمعه أطفال، ومؤنثه: طفلة وطفلتان وطفلات على القياس.
ويستوي فيه ـ أيضاً ـ المذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والجمع([19]). وقصره بعضهم على المولود قبل التمييز([20]).
وقد ورد لفظ الطفل ـ مفرداً أو مجموعاً ـ في أربعة مواضع من القرآن الكريم كلها بهذا المعنى.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلً﴾ ([21])، وقال تعالى: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ ([22])، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلً﴾ ([23])، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾([24]).
المقصود بحقوق الأطفال:
ونقصد بـ (حقوق الأطفال) تلك الحقوق التي رتبها الشارع على الوالدين للأطفال من قبل أن يولدوا وحين استقرارهم في بطون أمهاتهم أجنة، وبعد أن يولدوا حتى يصلوا إلى سن البلوغ، وإلى أن يستقلوا بحياتهم بعد انتهاء دراساتهم والحصول على مصدر رزقهم.
وإذا كان الفقهاء قديماً قد حددوا سن البلوغ الشرعي بالنسبة للذكور([25])، فذلك لأنه مظنة القدرة على التكسب، وفي ظل الظروف الحالية وتعقد أمور الحياة، وكذلك امتداد سنوات التعليم إلى نهاية المرحلة الجامعية مما لا يترك مجالاً للأفراد في أن يعملوا، بالإضافة إلى أهمية التعليم وضرورته لخطط التنمية في مجتمعاتنا، كل ذلك يدعونا إلى القول باستمرار الرعاية الأسرية للأولاد إلى ما بعد سن التخرج والحصول على المؤهل المناسب للعمل، بل والحصول على العمل ذاته.
أولاً: حق الطفل على الوالدين في الاختيار السليم عند الزواج:
إن حقوق الأطفال ـ كما أشرنا ـ تبدأ من قبل أن يولدوا، ونقصد بها الحقوق المتعلقة بمعايير حسن اختيار الزوجين لبعضهما عند الزواج، فالإسلام كما رغب في الزواج في كثير من نصوص القرآن والسنة([26]). وحث عليه، ونفّر من العزوبة وشدد النكير على المتصفين بها، فإنه لم يترك الأمر على علاته أو عواهنه، وإنما وضع الضوابط الدقيقة والمعايير السليمة التي تضمن للناس ـ إن هم تمسكوا بها ـ تكوين أسر قوية متماسكة البنيان، تكتسب على مر الأيام صلابة ومنعة تعينها على الصمود أمام تيارات الحياة العاتية، وسنحاول الآن تقديم لمحة عن المعايير السليمة والأسس القويمة التي وضعها الإسلام لاختيار كل من الزوجين للآخر([27]).
مقياس اختيار الزوجة:
مما لا شك فيه أن العوامل التي تدعو إلى رغبة الرجل في المرأة، وتغري بالارتباط بها من الكثرة بمكان، فمنها ما يتعلق بالمرأة ذاتها شكلاً ومضموناً، ومنها ما يتعلق ببيئتها التي نشأت في أحضانها، كأفراد أسرتها وذوي قرباها، ومن يرتادون هذه البيئة كالأصدقاء والخلان. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العوامل، وذلك بحسب الغالب الأعم من طباع الناس ورغباتهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)([28])، ولا بأس في أن يحرص راغب الزواج على أن تحظى فتاته بالنصيب الأوفر من تلك الصفات واضعاً نصب عينه أن أهم هذه المعايير هو معيار الدين، وأنه قدر توفيقه لذلك بقدر ما يكون استقراره وسعادة أسرته، عن عبد الله ابن عمر بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)([29]). وجماع هذه الصفات جاءت موضحة في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم ، لمن سأله: أي النساء خير؟ فقال: (خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره)([30]) ، ويروى في هذا أن أبا الأسود الدؤلي "ت 69هـ" امتن على بنيه باختيار أمهم ذات خلق وعفة فقال لهم: "لقد أحسنت إليكم صغاراً وكباراً، وقبل أن تولدوا، فقالوا: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال: أخذت لكم من الأمهات من لا تسبون بها"([31]).
مقياس اختيار الزوج:
وكما طلب الإسلام أوصافاً في الزوجة تعين على دوام العشرة وتوفير السعادة، اشترط في الزوج أن يكون قادراً على تكليف الزواج مقدراً تبعاته مهيئاً له، وهذا المعنى هو الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج* فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء)([32]). أي أنه لما كان أغلب الشباب لا يملكون ما يبدأون به حياتهم الزوجية وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستعداد لهذه المرحلة بقوله فمن استطاع فليبادر وإلاّ فليضبط نفسه ويقوي عزيمته ويستعين بالصيام على ذلك، ولهذا قال النووي في تفسير (الباءة): "اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد أصلهما أن المراد معناها اللغوي، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه ـ وهي مؤن النكاح ـ فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها"([33]). وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم الصفات التي يجب أن تتوفر في الزوج بقوله: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) قالوا: يا رسول الله.. وإن كان فيه؟ فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات)([34]). وقال لبني بياضة: (أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه)([35]) وكان حجّاماً.
قال الإمام ابن القيم([36]): وزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه، وزوّج فاطمة بنت قيس الفهرية من أسامة ابنه، وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ ([37]) فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم باعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً فلا تزوج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك فإنه حرم على المسلم نكاح الزاني الخبيث ولم يعتبر نسباً ولا صناعة ولا غنى ولا حرفة، ولذا كان اشتراط الدين في الزواج وسيلة لدعمه واستقراره ليؤتي ثمرته المرجوة منه.
الفحص الطبي للزوجين:
وفي ضوء معطيات علم الوراثة الحديث وما أكدته الدراسات العلمية والطبية المتقدمة من انتقال الأمراض الوراثية والعيوب الخلقية([38]) إلى النسل، بالإضافة إلى انتشار أمراض نقص المناعة (الإيدز)، وكذلك ما أكده علم الوراثة من أن زواج الأقارب من الاحتمالات القوية لحدوث بعض الأمراض الوراثية، مثل التخلف العقلي بسبب العوامل الوراثية المتنحية([39])، أصبح من الضروري إصدار تشريعات تتعلق بضرورة الفحص الوراثي أو الطبي للمقبلين على الزواج بوصفه إجراءً وقائياً وعلاجياً.
إننا حينما نرجع إلى قواعد الشريعة نجد فيها ما يرشد إلى ضرورة الاطمئنان إلى صحة الزوجين وخلوهما من الأمراض الوراثية والتناسلية حتى تكون الذرية صالحة، وقوية، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (لا ضرر ولا ضرار)([40])، فإنّ هذا الحديث داخل في أصل قطعي في المعنى، لأن الضرر والضرار مبثوث منعهما في الشريعة كلها، في جزئياتها وقواعدها الكلية. كالتعدي على النفوس والأعراض والأموال، ومنع الظلم عامة، وكل ما هو في المعنى ضرار أو إضرار فهو معني في غاية العموم في الشريعة لا ريب فيه([41]).
وقد تكلّم الفقهاء في العيوب التي تبيح التفريق بين الزوجين، ومما لا شك فيه أن التفريق للعيب هو في جوهره تفريق للضرر، بيد أن هذا الضرر قد يلحق الرجل وحده أو المرأة وحدها، أو هما معاً.
والرأي الراجح أن العيوب سواءً أكانت بالرجل أم بالمرأة، حدثت قبل العقد أو بعده، وإذا كانت عيوباً مستحكمة تحول دون علاقة طبيعية نفسياً ومادياً فإنها تبيح حق طلب التفريق([42]).
فإذا جاز ذلك بعد الزواج وقيام العشرة فمن باب أولى اشتراط الكشف الطبي قبل عقد الزواج دفعاً للأضرار المادية والمعنوية الناتجة عن التفريق.
إنّ السلامة من العيوب اعتبرها بعض الفقهاء([43]) من شروط الكفاءة التي توجب رد النكاح، وتثبت للزوجة حق الخيار، وذلك أن يكون الرجل سليماً من العيوب الجسمية المستحكمة التي لا يمكن العشرة معها إلا بعذر، فمن به جنون أو جذام أو برص لا يكافئ من ليس بها ذلك. وإن اتحد النوع، وكان ما بها أقبح، لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعافه من نفسه، أمَّا العيوب التي لا تثبت الخيار كعمى وقطع أطراف وتشوه صورة فلا تؤثر، وهذا معتبر في الزوجين دون الآباء، فابن الأبرص كفء لمن أبوها سليم([44]).
المبحث الثاني: حق الحياة للجنين
الجنين في اللغة: الولد مادام في بطن أمه، وسمي جنيناً لاستتاره فيه وجمعه أجنة وأجنن([45]).
وعند علماء الطب: ثمرة الحمل في الرحم حتى نهاية الأسبوع الثامن، وبعده يدعى بالحمل([46])والاصطلاح الفقهي لا يختلف عن المعنى اللغوي.
وعند بعض الباحثين هو: بويضة المرأة الملقحة بالحيوان المنوي للرجل عند لحظة التلقيح إلى أن تتم الولادة الطبيعية([47]).
يقول الله تعالى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾([48]).
قال العلامة ابن عاشور([49]): والأجنة: جمع جنين، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث. وفي ﴿بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه. وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيراً باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار.
ويقول الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾([50]).
ويقول جل شأنه: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾([51]).
ومعنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ أي خلقناه بنفخ الروح فيه خلقاً آخر([52]).
وحق الحياة للجنين يتعلق به أمران أو حقان هما:
أولاً: حق الرعاية الصحية والغذائية للجنين:
إنّ رعاية الطفل الصحية في الدول المتقدمة تبدأ ـ منذ المرحلة الجنينية ـ وذلك رعاية الحامل صحياً وغذائياً ونفسياً، نظراً لأن الحامل تتعرض لتغييرات فسيولوجية كبيرة في شهور الحمل، وقد تتعرض لمخاطر الحمل، ومضاعفاته، الأمر الذي يتطلب من الأم الالتزام ببرنامج وقائي وعلاجي يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
[1] الاهتمام بالتغذية المتوازنة من حيث الكم والنوع.
[2] متابعة سير الحمل لدى الطبيب المختص لعمل الفحوصات والتحليلات اللازمة لتشخيص أي مرض وعلاجه فوراً خوفاً من المضاعفات([53]).
[3] اتباع العادات الصحية وذلك بالامتناع عن التدخين والبعد عن أماكنه، وعدم تناول الأدويـة والعقاقير إلا بأمـر الطبيب المختص، وعدم التصوير بالأشعة، وتجنب الحالات العصبية والابتعاد عن المشاجرات، وعدم رفع الأشياء الثقيلة مع ممارسة رياضية خفيفة لتجنب زيادة الوزن.
[4] على الأم أنْ تجهز نفسها جسدياً أو فكرياً أوعاطفياً وعليها أنْ تأخذ قسطاً وافراً من النوم وعليها أن تحمي نفسها من الأمراض المعدية([54]).
وينبغي على الأب إحاطة الأم الحامل بالرعاية النفسية المناسبة وبمشاعر الحنان والعطف والاهتمام.
وقد أكّدت الدراسات الحديثة أن كثيراً من الحالات التي يولد الطفل فيها ضعيفاً أو متخلفاً أو مشوهاً تعود جذورها في الأصل إلى وضعية الحامل السيئة، وأن كثيراً من العاهات الجنينية تعود إلى عوامل بيئية سيئة، وكان بالإمكان تلافيها، ويأتي في مقدمة ذلك إصابة الحامل ببعض الأمراض الحادة أو بسبب تناولها بعض العقاقير الطبية، أو حبوب منع الحمل، أو المشروبات الكحولية، أو التدخين، أو تعرضها لحالات انفعالات عنيفة، أو بفعل سوء التغذية([55]).
ثانياً: حق الحماية للجنين (تحريم الإجهاض):
الإجهاض في اللغة: أجهضت الحامل: أي ألقت ولدها لغير تمام([56]). وأما تعريف الإجهاض عند الفقهاء فهو قريب من معناه اللغوي: فالإجهاض هو إلقاء المرأة جنينها ميتاً سواء أتم خلقه أم لم يتم نفخت فيه الروح أم لم تنفخ بفعلها أو بفعل غيرها([57]).
والجنين هو كل ما طرحته المرأة مما يعلم أنه ولد. ويرى مالك مسؤولية الجاني عن كل ما ألقته المرأة مما يعلم أنه حمل سواء كان تام الخلقة أو كان مضغة أو علقة أو دماً. ويرى أشهب من فقهاء المالكية أن لا مسؤولية عن طرح الدم وإنما المسؤولية عن طرح العلقة والمضغة، بينما يرى ابن القاسم المالكي أيضاً مسؤولية الجاني عن الدم المجتمع الذي إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب، لا الدم المجتمع الذي إذا صب عليه الماء الحار يذوب لأن هذا لا شيء فيه([58]).
ويرى أبو حنيفة والشافعي مسؤولية الجاني عما تطرحه المرأة إذا استبان بعض خلقه، فإذا ألقت مضغة لم يتبين فيها شيء من خلقه فشهد ثقات بأنه مبدأ خلق آدمي لو بقي لتصور فالجاني مسؤول أيضاً([59]).
ويرى الحنابلة مسؤولية الجاني إن أسقطت المرأة ما فيه صورة آدمي، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا مسؤولية حيث لا دليل على أنه جنين وإذا ألقت مضغة فشهد ثقات أن فيه صورة خفية كان الجاني مسؤولاً جنائياً([60]).
والرأي الذي يجب العمل به اليوم بعد تقدم الوسائل الطبية أنه إذا أمكن طبياً القطع بوجود الجنين وموته بفعل الجاني فإن العقوبة تجب على الجاني، وهذا الرأي لا يخالف في شيء رأي الأئمة الأربعة لأنهم منعوا العقاب للشك، فإذا زال الشك وأمكن القطع وجبت العقوبة، ولا يكفي انفصال الجنين لمسؤولية الجاني بل يجب أنْ يثبت أنّ الانفصال جاء نتيجة لفعل الجاني، وأن علاقة السببية قائمة بين فعل الجاني وانفصال الجنين([61]).
وتتفق كلمتا الشريعة والقانون على حرمة الإجهاض، وأنّ الاعتداء عليه في هذه الحالة يشكل جناية على مخلوق لم يَرَ نور الحياة، وفي إسباغ صفة الحماية الجنائية على الجنين منذ لحظة الإخصاب([62]).
ولا يجوز إسقاط الجنين قبل نفخ الروح فيه حتى ولو كان نطفة أو دماً متجمداً([63]). وهذا ما عليه عدد من العلماء المعاصرين([64]).
عقوبة الإجهاض في الشريعة الإسلامية:
اتفق الفقهاء على وجوب الديِّة كاملة والكفارة فيمن أسقط جنيناً حياً (وهو أن يكون لستة أشهر فصاعداً) ثم مات لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُو﴾([65]).
وخلاصة القول: إنّ الإجهاض حرام من حيث المبدأ لأنّ الماء بعد ما وقع في الرحم يأخذ في مبادئ التخلق ويترقى إلى الكمال ويسير إلى التمام "وقد أكد العلم الحديث أنّ الجنين يتكون نتيجة لامتزاج نطفة الرجل ببيضة المرأة"([66]). وأنّ النطف تحتاج خمس ساعات تقريباً كي تصل إلى البيضة مكونة نواة الإنسان وفي اليوم السابع من التلقيح تنفرز في جدار الرحم، فمآلها الحياة، ولكن قبل نفخ الروح ولاسيما خلال الأربعين يوماً الأولى يجوز الإجهاض لضرورة أو لحاجة ملحة مثل أن يصل الأطباء إلى مرحلة اليقين أو الظن الغالب المؤكد بأن الجنين مشوه تشويهاً كاملاً([67]).
الفصل الثاني
حقوق الأطفال بعد الولادة حتى البلوغ
المبحث الأول: حق النسب
معنى النسب في اللغة: يطلق النسب في اللغة على عدة معانٍ منها ما يأتي:
[1] النسب بمعنى القرابة ويختص بجهة الآباء، فيقال انتسب إلى أبيه وأجداده، كما يقال: استنسِب لنا، أي: اذكر لنا آباءك وأجدادك، ويقولون: رجل نسيب أي ذو حسب ونسب إلى آباء كرام([68]).
[2] وبمعنى الطريق المستقيم، يقال النسيب أيضاً، إذا كان معبداً حيث لا يشعر سالكه بانقطاعه، وسماه في اللسان نسيباً، وقال: هو الطريق الواضح المستقيم، وقيل: ما وجد من أثر الطريق([69]).
[3] وبمعنى الشدة والقوة، يقال أنسبت الريح، إذا اشتدت، وبمعنى التشبب في الشعر، فيقال له: نسيب أيضاً([70]).
يقول ابن فارس: إنّ كلمة "نسب" ترجع في الأصل إلى معنى واحد، وهو اتصال شيء بشيء([71]).
فإذا دققنا النظر في تلك المعاني، وجدناها فعلاً ترجع إلى هذا الأصل، فالنسب ما هو إلا اتصال الابن بأبيه وأجداده، كما هو اتصال درجات القرابة، وكذلك النسيب زوج الأخت، متصل بالأسرة عن طريق زوجته والريح المشتدة متصلة دون تقطع، كما يسمع لها الصوت المتصل.
وكذلك الطريق المستقيم، متصل بعضه ببعض، لا يشعر سالكه بانقطاعه وعلى هذا فإذا أطلقت كلمة النسب، فإنها تشمل أنواع النسب كلها، وهي ثلاثة:
[ أ ] صلب: وهو النسب بين الآباء والأبناء خاصة، علواً وسفولاً.
[ب] عصبة (عصابة): هو بين الرجل وبين قرابة أبيه فقط، كالأعمام وبنيهم([72]).
[ج] رحم: وهم أقرباء الرجل من طرف أمه وعمته وجدته لأبيه وأمه([73]).
تعريف النسب اصطلاحاً :
أما تعريفه اصطلاحاً فلم يتجاوز أغلب الفقهاء في تعريفهم له المعنى اللغوي، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية أن النسب: حالة حكمية إضافية بين شخص وآخر من حيث أن الشخص انفصل عن رحم امرأة هي في عصمة زواج شرعي أو ملك صحيح ثابتين أو مشبهين الثابت للذي يكون الحبل من مائه([74]).
ويلاحظ أنّ هذا التعريف شامل لثبوت النسب في الزواج الشرعي الصحيح وفي الملكية كما هو شامل لثبوته في الوطء بشبهة، وهذا ما يفهم من قوله: "أو مشبهين الثابت"([75]).
صيانة الإسلام للنسب:
صانت الشريعة الإسلامية الأنساب من الضياع والعبث والكذب والتزييف، ولم تترك الشريعة النسب لأهواء أصحابه يدعونه أو ينفونه([76])، وهو من الحقوق الشرعية المترتبة على عقد الزواج ويتعلق به عدة حقوق.
[1] حق الله، لأنه يحقق مصالح عامة للمجتمع تتمثل في أنّ النسب من الروابط الوثيقة التي تربط مجموعة الأسر ببعضها، والأسرة أساس المجتمع.
[2] وفيه للأب، لأنه يترتب على ثبوت نسب الولد ثبوت الولاية عليه، وحق الإرث والإنفاق.
[3] وفيه حق للأم، لأن من حقها صيانة الولد من الضياع، ودفع التهمة عنها، وثبوت حق الرضاع والحضانة والإرث.
[4] وحق الولد، لدفع التعيير عن نفسه، وثبوت حقوق النفقة والرضاع والسكن والإرث وغير ذلك([77]).
لم يقتصر حفاظ الإسلام على الأنساب القادمة، بل حافظ على الأنساب التي تنحدر منها، لنعرف أصلنا، وأصل غيرنا، ليكون التلاقي والتراحم والتعاون، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾([78]).
وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)([79]).
ومن هذين النصين ـ الآية والحديث ـ نعرف أنّ الإسلام يريد أنْ يحافظ على الأنساب حتى يتميز صحيحها من باطلها، لأنّ دخول الشك عليها يميت الداعي النفسي الباعث على الذب عنه وحياطته، والقيام عليه بما به بقاؤه([80]).
المبحث الثاني: حق اختيار الاسم الحسن
من حق الطفل على والديه أنْ يختارا له الاسم الحسن، فلا يطلق عليه من الأسماء ما ينفر أو يكون سبيلاً للسخرية منه([81]). وخير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وما شابههما من الأسماء المعبدة لله تعالى وكذلك أسماء الأنبياء* وذلك لتأخذ الأمة الإسلامية طابعها الخاص والمميز في أسمائها، لتحمل أعلام العبودية والرحمة، وتتشرف بالانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمق معاني الخير في جوانب الحياة، وكان من العادة النبوية: أنْ يسمّي الولد باسم حسن، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة)([82]).
وقد اتفق الفقهاء على تحريم كل اسم معبد لغير الله، والثابت من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يغير الأسماء المنفرة والمكروهة إلى الأسماء الحسنة. وذلك لما في الاسم الجميل من تأثير كبير على شخصية الإنسان وعلى سلوكه طوال فترة حياته([83]).
وقد ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال: (إنما أنت جميلة، وبره سمّاها جويرية)([84]) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لشخص: ما اسمك؟ فقال: أصرم. فقال: "بلى أنت زرعة"([85]) وقال آخر: حزن، قال: "أنت سهل"([86])، وسمّى حرباً: سلماً" وسمّى المضطجع: المنالظلم والطغيان"([87])* وقد غيّر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأسماء غير ما ذكرنا([88])* وأمر الأمة بتحسين الأسماء([89]). وفي هذا تنبيه على أنّ الأفعال ينبغي أنْ تكون مناسبة للأسماء، لأنّ الأسماء قوالب الأفعال ودالة عليها.
لا جرم اقتضت الحكمة الربانية أنْ يكون بينهما ارتباط وتناسب، وأنْ لا يكون أحدهما أجنبياً من الآخر، بحيث أنْ لا يكون بينهما تعلق بوجه من الوجوه. لأنّ الحكمة تأبى ذلك، والواقع المشاهد غير ذلك، وتأثير الأسماء في المسميات، والمسميات في الأسماء ظاهر وبائن وإلى هذا المعنى أشار القائل:
وقُل إنْ أبصرت عيناك ذا لقب ***** إلا ومعناه إنْ فكرت في لقبه
وكان إياس بن معاوية([90])إذا رأى شخصاً. قال: ينبغي أنْ يكون اسمه كذا وقلما يخطئ في ذلك، ولما كانت الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ أشرف الخلق وأكملهم، وأخلاقهم وأعمالهم أشرف الأخلاق والأعمال، وأسماؤهم أشرف الأسماء، فلهذا الوجه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسمي بأسمائهم، وفي سنن النسائي: (تسموا بأسماء الأنبياء)([91]).
المبحث الثالث: حقوق متعلقة بآداب الشريعة عند استقبال المولود
ومنها ما يلي:
[أ] المساواة في الفرح عند استقبال المولود بين الذكر والأنثى خلافاً لعادات الجاهلية، قال جلَّ شأنه: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعً﴾ ([92]).
[ب] استحباب التأذين في أذنه اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى: وردت بذلك الأحاديث كما في مستدرك الحاكم عن أبي رافع قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة) ([93])، وعن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى، رفعت عنه أم الصبيان)([94]) وسر التأذين، والله أعلم: أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها.
وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم([95]).
[ج] استحباب تحنيكه بتمرة أو حلاوة والدعاء له بالبركة: جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "وُلِدَ لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمّاه إبراهيم وحنكه بتمرة"([96]). وعن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم بالبركة ويحنكهم"([97]).
[د] العقيقة: هي الذبيحة التي تذبح للمولود، وأصل العق: الشق والقطع، وقيل للذبيحة عقيقة لأنه يشق حَلْقها ويقال عقيقة للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه.
عن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويسمى) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي([98]).
وقال صلى الله عليه وسلم : (في الغلام عقيقة، فأريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى)([99])، والجمهور على أنها سنة، وعند الظاهرية واجبة([100]).
المبحث الرابع: حق الختان
الختان: ويطلق على العملية التي تُجْرَىَ لعضو التناسل، كما يطلق على موضع القطع من هذا العضو في الذكر والأنثى، وهو من الحقوق التي يطالب الآباء والأمهات أن يقوموا بها لأبنائهم.
ويرى الحنفية أن الختان غير واجب للذكر أو للأنثى "وهو سنة للرجل مكرمة للمرأة، إذ جماع المختونة ألذ، وقيل: سنة فيهما، غير أنه لو تركه يجبر عليه إلا من خشية الهلاك، ولو تركته هي لا "([101]).
ويرى المالكية أنه سنة مؤكدة بالنسبة للذكر، ومندوب أي أفضل للأنثى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن تخفض الإناث: (أخفضي ولا تنهكي)، أي: لا تجوري في قطع اللحمة الناتئة بين الشفرين فوق الفرج، فإنه يضعف بريق الوجه ولذة الجماع([102]).
ويرى الشافعية أنه واجب في الذكور والإناث على القول الصحيح عندهم وأن على الولي الأب القيام بذلك في حال الصغر([103]). وعند الحنابلة كالشافعية يجب الختان([104]).
وذكر ابن القيم أنه يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ، فإنَّ ذلك مما لا يتم الواجب إلا به([105]).
منقول