نظرية الركائز الأربعة للبناء النفسي( فهم سلوك الانسان في ظلال القرآن)
نشر هذا الكتاب في طبعته الاولي عام 1997 بعنوان ( البناء النفسي في الانسان - دراسة من فيض القرآن الكريم --ثم نشر عام 2000 بعنوان 0(ركائزالبناءالنفسي دراسة نفسية توجيهية في سلوك الانسان )
ثم اكتملت صياغته وأصبح يشكل نظرية للبناء النقسى وصدر عام 2009 بدار صفاء بالاردن باالعنوان الحالي
تمهيد :
الإنسان فى طبيعته وتكوينه هو مشكلة الحياة ولغزها ، لذا تمركزت كل الفلسفات عبر العصور حول تفسير هذه الطبيعة ، ويذكر الفيلسوف الألمانى "كانت" – كما يشير لذلك زكريا إبراهيم (1959 : 20 )* أن كل ما يثيره البشر لا يكاد يتعدى ثلاثة أسئلة هى : ماذا يمكن أن أعرفه؟ ما الذى ينبغى لى أن أعمله ؟ وما الذى أستطيع أن آمله ؟ والمتأمل فى هذه الأسئلة يراها تتلخص فى سؤال واحد هو : ما الإنسان؟
ولقد تعددت الفلسفات واختلفت وجهات النظر فى الإجابة على هذا السؤال، وكان هذا التعدد وذلك الاختلاف يعود دوما إلى تبنٍ لمذهب عقائدى معين أو إلى سيادة لنمط حضارى دون آخر .
وكان سعى الإنسان الدائم لفهم هذه الطبيعة مهماً للغاية ، حيث إن تحديد الطبيعة الإنسانية هو السند الحقيقى لكل الحركات الاجتماعية فى مجتمع الإنسان ، وهو المنطلق الصحيح للتنظير التربوى ، وبالتالى إعداد الإنسان وتربيته.
وإذا كان الحديث فى الطبيعة الإنسانية أو البشرية يتناول مبادئ وأسس عامة تتعلق بالبشر جميعاً ، فإن المقصود بمفهوم الطبيعة الإنسانية فى الدراسة الحالية على وجه التحديد تلك المبادئ الأساسية الديناميكية التى تتحكم فى عمل المجال النفسى ووظيفته.
ونحن لسنا بصدد عرض جوانب الطبيعة الإنسانية فى الفلسفات المختلفة ، لكن يمكن القول – كما يشير محروس مرسى (1988 : 10 ) _ " أنه إذا كان الفكر الغربى قد حاول جاهداً أن يحتوى الطبيعة الإنسانية فى جوانبها المختلفة ، فإن الفكر الإسلامى المنبثق من القرآن الكريم والسنة والنبوية واجتهادات المفكرين والفلاسفة ، قد استطاع أن يقدم فهماً واعياًُ حكيماً للطبيعة الإنسانية فى جوانبها المختلفة بالصورة التى خُلقت عليها وبالشكل الذى ينبغى أن تكون عليه"
والورقة الحالية تهدف إلى بلورة ركائز البنية النفسية للإنسان فى ضوء فهم الطبيعة الإنسانية التى هى من صنع خالق الإنسان ، حيث يعد ذلك المدخل الأساسى لفهم سلوك الإنسان ودراسته.
بعض أبعاد الطبيعة الإنسانية :
تتضح الطبيعة الإنسانية – بصفة عامة – فى الأبعاد الثلاثة الآتية :
أولا : إن للإنسان ماهية معينة ولوجوده مغزى معين وله طاقات وحدود لهذه الطاقات :
يقول تعالى :
( وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (البقرة : 30)
معنى ذلك أن الإنسان خلق لكى يحيا على الأرض وليكون خليفة لخالقة فى أرضة ، هو كائن فريد إذاَّ ، فى وظيفته ودوره ، ولابد له من طبيعة تختلف عن الحيوان وتختلف عن الملائكة لتلائم هذه الوظيفة وذلك الدور ، ومعنى ذلك أن أىّ تفسير لسلوكه يربط بينه وبين الحيوان أو بينه وبين الملائكة هو تفسير باطل .
يقول محمد قطب ( 1980 : 28 ) " إن إعلان الله سبحانه وتعالى عن خلق الإنسان يدلل على أن الله سبحانه وتعالى قد جعل إرادته العليا مقضية عن طريق إرادة الإنسان ووجودة وأفعاله".
يقول تعالى :
( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم ) ( الرعد : 11)
( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبرِّ وَالْبَحْرِ بِماَ كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون ) ( الروم : 41 )
يتميز الإنسان أيضا ، بقوى متعددة أعلاها قوة العقل وكذلك قوة الإرادة ، وبالرغم من هذه القوى فهناك نقاط الضعف فيه ، التى منها حب الشهوات ونسيان العهد والهدى والكفر بأنعم الله ، وعدم الصبر فى البأساء والضراء .
يقول تعالى :
( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَِة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَِة وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب) (آل عمران : 14 )
( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِي وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًاُ ) ( طه : 115 )
وبالرغم من ذلك فإن داخل الإنسان قوة التوجه الفطرى إلى الله ، وقوة ضبط تتجه به إلى الإثابة منه سبحانه وتعالى وتبعده عن العقاب ، تلك القوة نعتبرها معياراً دقيقا فى فطرة الإنسان تشكل ضميره مع قابليتها للتهذيب والتوجيه والتعزيز عبر التنشئة الاجتماعية .
يقول تعالى :
( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة 37)
ثانيا : تكوين الإنسان مزيج من طين الأرض ونفخة روحية من خالقة جل وعلا .
لقد خلق رب العزة سبحانه وتعالى آدم عليه السلام من التراب ، فبعد أن مر التراب بعدة مراحل من التكوين ، فمن تراب إلى طين إلى حمأ مسنون إلى صلصال كالفخار ، نفخ الله تعالى جلت قدرته من روحه فتشكل أدم عليه السلام.
يقول تعالى :
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيِه مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ( الحجر 28 ، 29 ) .
ويذكر عبد الحليم حفنى ( 1985 : 44 ) " إن الإنسان تكوين عجيب من آثار قدرة الله القدير ، بعضه حيوانى لا يختلف فيه عن أى دابة من دواب الأرض ، وبعضه ملكى يسمو فيه إلى طبيعة الملائكة ، وبعضه شيطانى ينزل به إلى حضيض الشياطين ، وبعضه خاص به هو ، وهذا البعض الخاص به فى صورته العملية يتركز فى شيئين : أحدهما العقل بطابعة البشرى ، والآخر الإرادة التى توجه سلوكه وتتحكم فى قيادته ، وفى كل الأحوال فالإنسان واقع تحت عوامل عديدة متنوعة ، بعضها عقلى ، وبعضها مادى ، أى نابع من ماديات الإنسان فى تكوينه وبعضها من المشاعر والانفعالات ".
من هنا نقول أننا أمام طبيعة فريدة لكائن فريد يحمل كل القوى المضادة ، فنجد أن بعضها ينبع من المكون المادى فى الإنسان ، والبعض الآخر يعبر عن المكون الروحى فيه ، وفيه قوتى الإرادة والعقل ، تلك الإرادة التى تلغى سيطرة العادة ، أما العقل فيتبصر السلوك ويتحكم فيه ويعى نشاط الدافع ويحد من سيطرة اللاوعى .
الإنسان ، إذاً ، له مطالب وفيه دوافع تنطلق من المكون المادى فيه ، وفيه المكون الروحى الذى يرتبط به الإدراك والوعى والإدارة والقيم والمشاعر والعواطف السامية ، فى الوقت الذى يجمع هذا كله حقيقة مهمة لا يجب أن تغيب عنا ، ألا وهى أن أىّ سلوك إنسانى أو نشاط يقوم به الإنسان ينطلق من قاعدة يمتزج فيها المكون المادى مع المكون الروحى ، ففى الحالة السوية للإنسان ، نجد أنه ليس هناك نشاط مادى لا يشع فيه المكون الروحى ، وذلك هو البعد المهم الثالث من أبعاد الطبيعية الإنسانية ونطلق عليه الازدواجية السوية .
ثالثا : سلوك الإنسان يقوم على أساس من الازدواجية السوية :
إذا كان تكوين الإنسان هو قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ، فإن هذا الامتزاج يعبر عن إزداوجية فى تكوين السلوك الإنسانى ، بمعنى أن السلوك الواحد فيه ما يتعلق بمادية الإنسان ، وفيه أيضا ما يرتبط بالمكون الروحى فى طبيعته ، وتلك الازدواجية تحقق بشرية الإنسان ، وهى تعبير واضح عن التكامل الوظيفى لمكوناته ، من هنا نطق عليها إزدواجية سوية ، أى أن السلوك المتجه كاملاً إلى مادية بحته لا يعد سوياً وكذلك فإن المتجه كاملاً إلى روحانية تعذب النفس وتؤلمها ، وتهينها ، يعد سلوكاً غير سويا وكليهما فى هذه الحالة يمكن وصفه بالسلوك المتطرف.
ويعبر محمد قطب ( 1980 : 54 – 55 ) عن هذا المعنى فى نقاط ثلاث نلخصها فيما يلى :
1- إن الإنسان فى سويته يمارس كل أنواع النشاط بكيانه المجتمع المترابط ، حتى ولو غلب جانب من جوانبه على جانب آخر فى لحظة من لحظاته ، وفرقٌ بين أن يبرز أحد الجوانب ، وبين أن ينفصل ويعمل مستقلاً عن بقية الكيان .
2- إن جنوح الإنسان لجانب فى الحالة السوية مؤقت ولا يدوم ، فحين ينغمس فى نشاط الجسد ساعة يعود إلى نشاطه الروحى أو المعنوى ساعة .
3- إن هذا التداول الدائم بين نشاط الجسد ونشاط الروح يساعد الإنسان على التوازن فى نقطة الوسط التى يلتقى فيها الجسم بالروح على استواء .
ومن هنا نؤكد على أن فهم هذا البعد المهم فى الطبيعة الإنسانية ، لابد أن يقودنا نحن الباحثون إلى دراسة سلوك الإنسان على أنه محصلة لتكامل وظيفى ينبع عن هذه الطبيعة الإنسانية ، فالإنسان بناء موحد متكامل وليس أجزاء متفرقة تعمل على انفراد ، بل هو وحدة متفاعلة تجمع قوى الذات فى كل واحد يفسر لنا دينامية النشاط الإنسانى ، ويوضح لنا ميكانزم التوازن .
إن هذه الأبعاد الثلاثة المهمة للطبيعة الإنسانية تفسر لنا تركيبة الإنسان النفسية ، بل إن البنية النفسية فى الإنسان هى جوهر هذه الطبيعة .
ولقد وجدنا أنه من الضرورى صياغة هذه الأبعاد فى مصطلحات تمكننا من التعامل مع دراسات علم النفس ونظرياته ، ذلك فى إطار أبعاد البنية لنفسية فى الإنسان .
ركائز البناء النفسى للإنسان :
فى ضوء الأبعاد السابق توضيحها للطبيعة الإنسانية ومعالمها يمكن صياغة أربع ركائز مهمة للبناء النفسى ، يرى الباحث أنها تلقى الضوء على الجوانب المتعددة للبناء النفسى وفى نفس الوقت تعد المدخل المهم والأساسى لدراسة سلوك الإنسان دراسة تحليلية تفسيرية توجيهية خاصة فى ضوء جوانب وزوايا هذا البناء المختلفة ..
وقد تم صياغة هذه الركائز على النحو التالى :
أولا : قوى الذات فى الإنسان :
1- قوةالروح . 2- قوة العقل . 3-قابليات الفطرة .
ثانيا : النفس وقواها .
ثالثا : خاصية التكامل والتوازن بين قوى الذات .
رابعا : الأعمار الثلاثة للإنسان ( منحنى النمو ) .
* يعد الرقم الأول بين القوسين مشيراً إلى تاريخ نشر المرجع أما الرقم أو الأرقام التالية فهى أرقام الصفحات التى تم الاقتباس منها فى ذات المرجع .
منقول للفائدة