من أسرار المعوذتين.
إن الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين :
- إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها ..
فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه ..
ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرين وأدومهما وأشدهما اتصالاً بصاحبه ..
و هذا سببه الوسوسة من شياطين الإنس و الجن ..
و هذا ما تضمنته سورة الناس .
- وإما شر واقع به من غيره ..
وذلك الغير إما مكلف .. أو غير مكلف ..،
والمكلف: إما نظيره وهو الإنسان .. أو ليس نظيره وهو الجني ..
وغير المكلف: مثل الهوام وذوات الحمى وغيرها ..
و هذا ما تضمنته سورة الفلق .
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذة .
وفى رؤية تأملية لطيفة فى السورتين ، تلاحظ الآتى:
أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه:
رب الفلق ..
والمستعاذ ( منه ) ثلاثة أنواع من الآفات ، وهي:
الغاسق .. والنفاثات .. والحاسد.
وأما في سورة الناس فالمستعاذ ( به ) مذكور بصفات ثلاثة ، وهي :
الرب .. والملك .. والإله .
والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي:
الوسوسة .
لذلك ..
لما كانت الاستعاذة في سورة الفلق من شر كل شيء .. أضيف ( الرب ) إلى كل شيء .. أي بناء على عموم الفلق ..
ولما كانت في سورة الناس من شر الوسواس .. لم يضف إلى كل شيء.
- سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد ..
وهو شر من خارج ..
وهذا الشر الأول لا يدخل تحت التكليف .. ولا يطلب منه الكف عنه ..
لأنه ليس من كسبه .. وهو ما يُسمى شر ( المصائب ).
- وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه ..
وهو شر من داخل ..
وهذا الشر يدخل تحت التكليف .. ويتعلق به النهي ..
وهذا شر ( المعائب ).
والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما ..
فانتظمتهما السورتان بأحسن لفظ و أوجز عبارة .
- الاستعاذة في سورة الفلق من المضار البدنية ..
و تكون من الإنسان وغيره ..
لذلك جاءت الاستعاذة عامة.
لأن المطلوب في سورة الفلق سلامة النفس والبدن.
- أما الاستعاذة في سورة الناس فهى من الأضرار التي تعرض للنفوس البشرية وتخصها ..
لذلك .. جاءت الاستعاذة مخصصة من نوع واحد .
لأن المطلوب في سورة الناس هو سلامة الدين ..
وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت ، أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت.
- في سورة الفلق تم تخصيص ( ثلاثة ) أنواع من الشرور بعد ذكر عموم الشر لتكون كالتالي:
أحدهما: وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل.
والثاني: صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير.
والثالث: صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يالظلم والطغيان على إلحاق الأذى بمن تعلق به.
- تعتبر سورة الفلق من أكبر أدوية المحسود ..
فإنها تتضمن التوكل على الله .. و الالتجاء إليه .. والاستعاذة به من شر حاسد النعمة ،
فهو مستعيذ بولي النعم وموليها كأنه يقول:
يا من أولاني نعمته .. وأسداها إلىّ .. أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها منى .. ويزيلها عنى ..
وهو حسب من توكل عليه ، وكافي من لجأ إليه.
- فى سورة الناس .. أوقع الاستعاذة من شر الشيطان ( الوسواس الخناس ) .. ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة شره جميعه .
فإن قوله: [من شر الوسواس ] .. يعم كل شره ..
ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا .. وأقواها تأثيرا .. وأعمها فسادا وهي الوسوسة التي هي بداية الإرادة ..
فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية ..
فيوسوس إليه .. ويمنيه ويشهيه .. فيصير شهوة ..
ويزينها له .. ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه .. فيصير إرادة ..!
ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسي علمه بضررها .. فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط .. وينسى ما وراء ذلك .. فتصير الإرادة عزيمة جازمة ..!! فيشتد الحرص عليها من القلب .. فيبعث الجنود في الطلب .. فيالظلم والطغيان الشيطان معهم مددا لهم وعونا .. فإن فتروا .. حركهم .. وإن ونوا أزعجهم .. كما قال تعالى:
[ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً ] ..،
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو: ( الوسوسة ) ..
لهذا .. وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه ..
وفي قوله تعالى : ( الخناس ) .. وهى بوزن فعّال للمبالغة .. إيذانا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله .
وما أروع أن نذكر هنا قول ابن القيم:
" فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته .. عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار .. فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه ".
وتأمل السر في قوله تعالى: [يوسوس في صدور الناس] ..
ولم يقل في قلوبهم .. لأن الصدر هو ساحة القلب وبيته ..
فمنه تدخل الواردات إليه .. فتجتمع في الصدر .. ثم تلج في القلب.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه لعقبة بن عامر رضي الله عنه :
" ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط ،
( قل أعوذ برب الفلق ) و ( قل أعوذ برب الناس ) "