يدعون بأن تمثال الحرية هوأهداه شعب فرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1884م، احتفالاً بالذكرى المئوية لإعلان استقلال أمريكا.
تبدأ القصة بنحات فرنسي عبقري هو فريدريك أوجست بارتولدي الذي جاءته أولا فكرة التمثال دون أن تكون أمريكا قد خطرت على باله، بل كانت فكرة إنسانية عامة تجسد الحرية والحضارة الإنسانية في شكل امرأة تحمل شعلة تنير بها جنبات الدنيا، وإن كان التصميم قد قصد به أن يطل التمثال على موقع ساحلي؛ لأن التاج الذي يعلو رأس المرأة له سبعة أسنة (تبدو كأنها سبعة أشعة)، ترمز للبحار السبعة التي تطل عليها قارات العالم.
عندما وضع بارتولدي تصميم تمثال الحرية، أخذه إلى الخديوي إسماعيل في مصر، في أعقاب افتتاح قناة السويس للملاحة (1869)، واقترح عليه أن ينصب على مدخل القناة ليكون رمزا لحرية الملاحة أمام العالم، وباعتبار أن التمثال يمثل مصر وهي تحمل شعلة الحرية.
ولما سئل الخديوي إسماعيل عن تكاليف بناء التمثال (كان حتى ذلك الحين مجرد تصميم على الورق) قدرها بارتولدي بستمائة ألف دولار، وهو ما اعتبره حاكم مصر مبلغا هائلا وضخما لا يقدر عليه بعد ما أنفقته مصر على حفر وافتتاح قناة السويس وما أمر هو أيضا بإنفاقه على تحديث مصر.. بصرف النظر عن الأولويات، وهو ما أوقع البلاد بعد ذلك في الديون كما هو معروف. وكان أن اعتذر إسماعيل لبارتولدي مقدرا له حبه لمصر وحماسته لتمجيد المكانة العالمية لقناة السويس.
صداقة فرنسية أمريكية.. "كانت" متينة!
كانت هناك في ذلك الوقت صداقة متينة تربط بين الشعبين الفرنسي والأمريكي، وكان هناك ما يبررها؛ لأن الفرنسيين وقفوا إلى جوار الأمريكيين في نضالهم ضد الإمبراطورية البريطانية -المنافس التقليدي لهم- والتي كانت تتمسك بالسيادة على مستوطنات أمريكا باعتبارها من مستعمراتها ووقفت في وجه كل محاولات استقلالها، واعتبرت إعلان الاستقلال في 4 يوليو 1776 "وثيقة خيانة".
وبادل سكان الولايات المتحدة "الوليدة" يومها هذه المشاعر الفرنسية المتعاطفة معهم بمثلها، لا سيما أن هناك مقاتلين فرنسيين ذهبوا إلى أمريكا للقتال معهم في سبيل الحرية والاستقلال. ولا شك أن اندلاع الثورة الفرنسية في 1789 أدى إلى تنامي علاقات الصداقة بين الثورتين.
كان من الطبيعي أن يفكر الفرنسيون في شيء كبير وله قيمة يشاركون به في مناسبة احتفال الأمريكيين بمرور مائة عام على استقلالهم، أي في عام 1876.
ولكن واحدا بعينه فقط من كبار الشخصيات الفرنسية، وهو المؤرخ والمفكر الفرنسي البارز إدوار دي لابولاي، هو الذي شغله هذا الخاطر مبكرا، ورأى أنه لا بد من الاستعداد له قبل حلول التاريخ المذكور بفترة كافية، فاقترح في عام 1871 على مجموعة من زملائه وأصدقائه إعداد مشاركة فرنسية متميزة في احتفالات الولايات المتحدة الأمريكية بذكرى استقلالها المائة.
كان من بين الحاضرين بارتولدي الذي كان يحتفظ بتصميم التمثال ولا يجد الجهة المناسبة لوضعه موضع التنفيذ؛ فاقترح تنفيذ فكرته الخاصة بتمثال الحرية، وبعض المصادر تجعل لابولاي نفسه هو صاحب الاقتراح من البداية وتغفل تماما –ربما عن قصد- قصة عرض التصميم أولا على الخديوي إسماعيل ليقام التمثال على مدخل قناة السويس في مصر.
ديليسبس.. هنا وهناك!
تحمس لابولاي لفكرة تمثال الحرية، وتحمس الحاضرون؛ ولأن التكاليف المرتقبة كانت باهظة كان لا بد أن يؤسس لابولاي "الاتحاد الفرنسي الأمريكي لتمويل المشروع". ولكن توفي لابولاي قبل أن يتم المشروع.. فحل محله المغامر المشهور فرديناند ديليسبس الذي ارتبط اسمه بمشروع قناة السويس، كما توفي المهندس الفرنسي يوجين-إيمانويل فيوليه -لو-دوك الذي كان مكلفا بإنجاز بعض نواحي المشروع الفنية، وبالذات تصميم الإطار الذي يضم دعامات الصلب الضخمة للتمثال، فكان أن حل محله في ذلك المهندس الفرنسي الأشهر ألكسندر جوستاف إيفل المشهور بتصميمه لبرج إيفل الذي يحمل اسمه حتى الآن في باريس، وصار من أشهر معالم الدنيا أيضا.
الطريف أنه مع حلول الذكرى المئوية الأولى لاستقلال الولايات المتحدة، لم يكن قد أُنجز من التمثال سوى اليد اليمنى فقط، ولكن حماسة الجانبين للفكرة أدت إلى إرسال هذه اليد اليمنى إلى الولايات المتحدة، حيث عرضت في معرض بفيلادلفيا في مناسبة العيد المئوي، ترقبا لاكتمال المشروع في وقت لاحق.
"تبرعوا لإنشاء تمثال الحرية"!
واجه تنفيذ المشروع عقبات كثيرة، كان من أهمها تمويل تكاليفه الضخمة، وكان الجانبان الفرنسي والأمريكي قد اتفقا على تقاسم التكاليف، بحيث يتحمل الفرنسيون نفقات بناء التمثال نفسه، على أن يتحمل الأمريكيون تكاليف إنشاء القاعدة، وهي لمن لا يعرف بناء ضخم ومكلف جدا أيضا.
ولجأ الجانبان لكل السبل الممكنة للتمويل، من تبرعات وضرائب وحملات دعائية وترويجية، ونجح الفرنسيون في تغطية ما يخصهم، واكتمل صنع التمثال في فرنسا في يوليو 1884، ولكن الأمريكيين هم الذين وقعوا في حيص بيص! وذلك لأن التمثال تم بالفعل شحنه إلى أمريكا بعد تفكيكه ووضع داخل 214 صندوقا تضم 350 قطعة ووصل إلى ميناء نيويورك في يونيو 1885 على متن الفرقاطة الفرنسية Isere؛ كل ذلك والقاعدة لم تكتمل!.
ولما لم يكن من الممكن عمليا إقامة التمثال دون القاعدة التي ستحمله، ولم يكن لدى الحكومة الأمريكية أموال كافية، فقد سارع جوزيف بوليتزر (الذي يحمل اسمه أكبر وأشهر جائزة أدبية في أمريكا حتى الآن) لنشر افتتاحية في صحيفتهThe World جعل عنوانها "العار الوطني".. قال فيها إنه سيكون من العار على نيويورك والولايات المتحدة أن تقدم لها فرنسا هدية فتكون عاجزة عن إقامة قاعدة لها.
وكانت هذه الافتتاحية بداية حملة للاكتتاب الوطني العام لهذا الغرض، وتمكن بوليتزر خلال أربعة أسابيع فقط من جمع 25 ألف دولار، وكان يشجع المتبرعين بنشر أسمائهم في لوحة للشرف في جريدته. واستمر الاكتتاب والتبرعات -والتمثال قابع في الصناديق منذ وصوله- لما يقرب من عام كامل!
اكتمل التمويل الأمريكي لبناء القاعدة في أغسطس 1885، وتم وضع آخر حجر في القاعدة يوم 22 إبريل 1886، وهكذا لم يعد باقيا وقتها سوى الانخراط في العمل بهمة وجدية لإعادة تركيب التمثال ونصبه فوق قاعدته الرئيس الأمريكي: هنا بيت الحرية
في احتفال مهيب وكبير أقيم في نيويورك في 28 أكتوبر 1886، وبحضور نخبة من كبار الشخصيات الفرنسية والأمريكية، قام الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، وهو الرئيس جروفر كليفلاند، بتدشين التمثال رسميا، وألقى كلمة أعلن فيها بالنيابة عن الشعب الأمريكي قبوله لهذه الهدية العظيمة المقدمة من الشعب الفرنسي الصديق، قائلا: "لن ننسى أن الحرية قد اتخذت لها بيتا هنا..."!
وفي عام 1892، تم افتتاح جزيرة إليس Ellis الملاصقة لجزيرة بيدلوز لتكون محطة الوصول الرئيسية للمهاجرين القادمين إلى الولايات المتحدة، وبالفعل استقبلت هذه الجزيرة -التي صارت الآن مزارا أيضا- وعلى مدى 32 عاما فقط ما يزيد على 12 مليون مهاجر كان أول ما تقع عليه عيونهم لتحيتهم والترحيب بهم وهم يلجون إلى العالم الجديد من خلال ميناء نيويورك هو مشهد هذه السيدة الشامخة السيدة ليبرتى