الغناء و أنواعه عند العرب قبل الإسلام.
د. مصطفى بيطام
نشأة الموسيقى:
ويبدو أن الطبيعة الزاخرة بالأصوات، الحافلة بالموسيقى والجمال كتغريد الطيور وحفيف الأغصان، وخرير الماء، وهمسات النسيم وقصف الرعود وهدير الأمواج، وأصوات الوحوش وغيرها، كانت معلم الإنسان الأول الذي تعلم عنه الموسيقى عن طريق محاكاته لظواهرها المختلفة.
وعن أصالة الموسيقى العربية نجد المستشرق البريطاني “هنري جورج فارمر” يستهل كتابه (تاريخ الموسيقى العربية حتَّى القرن الثالث الميلادي) بالقول “علينا ألا ننظر بعد الآن إلى جزيرة العرب نظرتنا إلى الفلوات، فهي على الضد من هذا-مركزٌ تجاري للعالم القديم والمسلمون الذين خرجوا منها ليستظهروا على المسيحية وليشيدوا إمبراطورية، ما كانوا إلا خلفاء لأولئك الذين تركوا تأثيراً عميقاً في مصائر الشرق ومستقبله في عصور التاريخ الأولى” ثمَّ تطرق إلى الحديث عن المدنية العربية فقال “إنها لم تنالظلم والطغيان من تلكم الفترة التي اكتنفتها دجنة وغموض، المعروفة بأيام الجاهلية، زمن أن كان السؤدد اليوناني والبيزنطي قد بلغ السماكين، بل ولم تبدأ بظهور الإسلام، فإن تاريخها يرجع إلى حقبة سابقة عليهما معاً” ثمَّ تطرق بإسهاب إلى نشوء الحضارات السامية، معتمداً في ذلك على التقنيات التي قام بها الباحثون في خرائب المدنيات السامية والتي قال عنها بأنها “أحدثت تغييرات عجيبة في آرائنا ومعلوماتنا عن تاريخ المدنية العالمية”
وتعرض إلى تاريخ الدول العربية القديمة فقال أن “أقدم مصدر لدينا الآن عن جزيرة العرب يعود تاريخه إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، حين صرنا نملك بعض كتابات مسمارية ورد فيها ذكر لبلاد عرفت بوقوعها في جزيرة العرب”
ثمَّ أشار إلى أولية الموسيقى العربية، فذكر أنه لم يصل إلينا شيء ذو بال، على الرغم من أن نقش “آشوربانيبال” الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع قبل الميلاد، يثبت أن العرب كانوا يعملون لسادتهم الآشوريين، حيث كانوا يمضون ساعاتهم في الغناء والموسيقى التي كان يطرب لها الآشوريون، فيطلبون المزيد منها، ثمَّ استطرد يقول “بأنه من الصعب جداً أن نفترض وجود مستوى معين واحد للحضارة الموسيقية عند كل من الآشوريين والفينيقيين والعبرانيين والعرب الذين جمعتهم أواصر تجارية وروابط سياسية” ثمَّ تحدث عن الآلات الموسيقية المعروفة لدى الشعوب السامية مثل “طبلوا” و”أبدو” البابليتان-الآشوريتان و”طبلا” و”نف” العبرانيتين، وعرفتا عند العرب بلفظتي “طبل” و”دف”
وهكذا فقد عرف العرب الآلات الموسيقية البسيطة وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير
وقد ذكر المسعودي أن الخليفة المعتمد الذي كان شغوفاً بالطرب ومحباً لأنواع اللهو، سأل يوماً عن أول من اتخذ العود فقيل له الملك بن متوشلخ بن محويل بن عاد بن خنوع بن قيان بن آدم، وذلك أنه كان له ابن يحبه حباً شديداً، فمات فعلقه بشجره فتقطعت أوصاله، حتَّى بقي منه فخذه والساق والقدم والأصابع، فأخذ خشباً فرققه وألصقه، فجعل صدر العود كالفخذ، وعنقه كالساق، ورأسه كالقدم، والملاوي كالأصابع، والأوتار كالعروق، ثمَّ ضرب به وناح عليه، فنطق العود، وفي ذلك قال المحدودي:
وناطق بلسان لا ضمير له *** كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدي ضمير سواه في الحديث كما *** يبدي ضمير سواه منطق القلم
ومن أمثلة الشعر الجاهلي الذي ورد فيه ذكر الآلات الموسيقية قول أعشى ميمون يصف رنين عوده وطرب قينة
ومستجيب تخال الصنج يسمعه *** إذا ترجع فيه القينة الفضل
نشأة الغناء:
هناك إشارات في بعض أمهات كتب الأدب والتاريخ تؤكد أصالة هذا الفن كمروج الذهب للمسعودي والعمدة لابن رشيق، ومقدمة ابن خلدون فقد نقل المسعودي عن “ابن خرداذ به” أن الحداء في العرب كان قبل الغناء وأنه أول السماع والترجيع فيهم، ثمَّ ما لبث أن اشتق الغناء منه وذكر أن غناء العرب كان النصب، وأنه ينقسم إلى ثلاثة أجناس الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف
أما ابن رشيق فقد خالف المسعودي في الرأي عندما قال إن النصب كان غناء الركباني والفتيان، ومنه كان أصل الحداء كله
وفيما يتعلق بأول من غنى في الجاهلية من الرجال، فقد ذكر أبو الفرج الأصبهاني، صاحب كتاب الأغاني، أن أول من غنى باليمن “علس بن زيد” وكان يلقب “بذي جدن” لحسن صوته
وذكر المسعودي وابن عبد ربه، أن أول من غنى من النساء هما الجرادتان وكانتا قينتين لمعاوية بن بكر على عهد عاد، ومن غنائها
ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يصبحنا غماما
وإنما غنتا بهذا حين حبس عنهما المطر
ضروب الغناء في الجاهلية:
عرف العرب-في العصر الجاهلي إلى جانب غناء النصب والسناد والهزج-أنواعاً أخرى من الغناء وهي الغناء الديني، وغناء الحرب، وغناء الندب والنواح، وغنائم الولائم الخاصة كالعرس والخرص والإعذار، ثمَّ أن في مناسبات هذه الأغاني من الشعائر والمناسك الدينية ما يبين بوضوح وجود صلة وثيقة بينها جميعاً، لأنَّ الغناء فيها ديني، أو مشتق ومتفرع عنه
الغناء الديني:
من المعروف أن العرب في الفترة الجاهلية الأخيرة-التي صورها القرآن الكريم أحسن تصوير وجلا الشعر الجاهلي عن بعض جوانبها-كانوا يقدسون الكعبة والأوثان القائمة فيها، وكذلك الأنصاب والصخور والأشجار “حيث كانت آلهتهم-على زعمهم-تقيم، وكانوا يعكفون عليها ويطوفون بها، ويرقصون حولها ويغنون لها، ويهللون ويلبون ثمَّ ينحرون عليها الذبائح، يقدمونها قرابين للآلهة”
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن صَلاتهم عند البيت “كانت مُكاءً وتصدية” وقيل إن ابن عباس ذكر في تفسير ذلك أن قريشاً كانت تطوف بالبيت، وهم عراة يصفرون ويصفقون بينما أشار ربيع بن ضبع الفزاري بأن العرب كانوا يسبحون ويهللون حول “الأقيصر”، وهو صنم في مشارف الشام بقوله
فإنني والذي نغم الأنام له *** حول الأقيصر، تسبيح وتهليل
الغناء الحربي:
كانت الحرب بالنسبة للعربي ضرورة حتمية وحاجة طبيعية فرضتها عليه سنّة البقاء وإرادة الحياة، فهو يعيش فوق أرض قاحلة، لا تجود عليه بمرافق الحياة “فهو من أجل غدير أو مرعى كلأ صغير، يقاتل ويكافح، لا بل إنه لا يتورع عن اغتصاب ما بحوزة غيره من غنم وإبل وخير ومتاع”
أوضحُ نصٍّ على ذلك ما نقله أبو الفرج الأصبهاني عن ابن الكلبي بما يفيد أنه لما كان يوم التحالق أقبل الفند الزماني إلى بني شيبان، وهو شيخ كبير، قد جاوز مئة سنة، ومعه بنتان له شيطانتان من شياطين الإنس، حتَّى إذا اشتدت المعركة وتردد النصر، تقدمت إحداهما وخلعت ثيابها ورمتها وسط المعركة، وما لبثت أختها أن اقتدت ومشتا بين الصفوف عاريتان تنشدان
وغا وغا وغا وغا *** حر الجياد والبطاحا
يا حبذا يا حبذا *** المحلقون بالضحى
ثمَّ تجردت الأخرى وأقبلت تقول
إن تقبلوا نعانق *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق *** فراق غير وامق
غناء الندب والنواح:
يكمن شعر الندب والنواح، في العادات والتقاليد الجاهلية، فقد ناحت الحرائر العربيات على قتلاهن، والنواح والندب ضربان من الغناء المحزن فقد ناحت نساء قريش على قتلى بدر، وناحت هند أم معاوية على أبيها وأخيها وفارعة بنت شداد على أخيها مسعود، وأم بسطام بن قيس الشيباني على ولدها بسطام، والخنساء بنت عمرو بن الشريد على أخويها صخر ومعاوية وغيرهن كثيرات
وقد ذكر الأزهري بهذا الصدد أن “المرأة في الجاهلية، إذا مات زوجها حلقت رأسها، وخمشت وجهها وحمرت قطنة من دم نفسها ووضعتها على رأسها، وأخرجت طرف قطنتها من خرق قناعها، ليعلم الناس أنها مصابة”
وفي وصف حسان بن ثابت تأكيد لهذا الرأي، عندما يصف ما تفعله النوائح بقوله
يا مي قومي فاندبي *** بسحيرة شجو النوائح
كالحاملات الوقر بال- *** ثقل الملحات الدوالح
المحولات الخامشا *** ت وجوه حرات صحائ
وكأن سيل دموعها *** الأنصاب تخضب بالذبائح
ينقضن أشعاراً له- *** ن هناك بادية المسائح
غناء الولائم واللهو:
لقد كان غناء الولائم واللهو يتمثل في الأعراس والولادة، والختان، لأنَّ العرب كانوا يحتفون بهذه المناسبات، فيذبحون الذبائح ويدعون لها الناس، وتغنيهم فيها النساء، وكان لكل مناسبة من هذه المناسبات اسم خاص به فقد ذكر ابن منظور أن الخرس طعام الولادة، والإعذار طعام الختان والنقيعة طعام الرجل ليلة إملاكه وقد جمعت هذه الأصناف الثلاثة في بيت من الشعر أنشده ابن بري، قال فيه
كل الطعام تشتهي ربيعة *** الخرس والإعذار والنقيعة
ومما يدل على أن العرب كانوا يغنون في هذه المناسبات ما روي عن الرسول(صلى الله عليه وسلم) قوله لعائشة “أهديتم الفتاة إلى بعلها؟”، قالت نعم، قال وبعثتم معها من يغني؟ قالت لا، قال أو ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يغني؟ قالت لا، قال أو ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا الظلم والطغيانتم من يقول:
أتيناكم أتيناكم *** نحييكم نحييكم
ولولا الحبة السمراء *** لم نحلل بواديكم
وذكر ابن عبد ربه، أن النبي(صلى الله عليه وسلم) مرّ بجارية في ظل فارع وهي تغني
هل علي ويحكم *** إن لهوت من حرج
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) لا حرج إن شاء الله
يتضح مما سبق أن الغناء في جميع هذه المناسبات لم يكن خالصاً يُطلَب للهو والتسلية والترويح عن النفس، وإنما كان مع الرقص، شعيرة من شعائر هذه المناسبات تصاحب القربان وتلازمه، يوم أن كانت البيئة فطرية غير راقية، والمجتمع غير متطور، وبتقدم الزمان وتطور الحياة، انفصل الغناء عن هذه المناسبات الدينية وأصبح بعد ذلك فناً قائماً بذاته.