سقراط والنظرية الخلقية
كان سقراط خصمًا عنيدًا للسوفسطائيين، وأخذ على عاتقه الرد على أباطيلهم بكل الوسائل بما في ذلك مجادلة الناس في الأسواق وعلى قارعة الطريق، وعرضته مواقفه للمحاكمة حيث صدر الحكم بإعدامه فتقبل هذا الحكم بصدر رحب ولم يحاول أن يبرئ نفسه[1].
وإن الباحث ليقف طويلًا أمام العبارة التي أوردها الشهرستاني مشيرًا إلى نهي قومه عن عبادة الأوثان والشرك، إذ يصفه بأنه "الحكيم الفاضل الزاهد من أهل أثينية، وكان قد اقتبس الحكمة من فيثاغورس وأرسالاوس، واقتصر من أصنافها على الإلهيات، والأخلاقيات واشتغل بالزهد، ورياضة النفس وتهذيب الأخلاق وأعرض عن ملاذ الدنيا واعتزل الجيل وأقام في غربة.. ثم يستطرد في باقي الحديث عنه فيقول إنه "نهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان، فثاروا عليه الغاغة وألجأوا ملكهم إلى قتله، فحبسه الملك، ثم سقاه السم وقضيته معروفة"[2].
وقد يظن القارئ لأول وهلة أن الشهرستاني يضعه في إطار ديني حيث يدعو إلى التوحيد، ولكن النصوص التي وردت في محاورات "فيدون" تؤيد هذه الرواية مما يدعم تحري الشهرستاني للوقائع وأمانته ودقته في القول، وإن اتفاق نصوص المحاورات التي نشرت حديثًا تتفق مع عبارته الآنفة الذكر.
ومن واقع رواية "السحب" لأرسطو، فإن الخصم العنيد لسقراط أورد ضمن اتهاماته إياه اتهامه "بالكفر بآلهة المدينة"[3]، وورد في عريضة المحكمة "أنه ينكر آلهة المدينة، ويقول بغيرهم، ويفسد الشباب"[4].
فماذا كان يقول سقراط أمام المحكمة؟
إنه يقول إن إرادة إلهية أوحت إليه أن يعظ مواطنيه ويحثهم على الصلاح بتعاليمه ونصائحه، راغبًا هدايتهم غير راغب في عرض من أعراض الدنيا، وإنه يتقبل الحكم عليه في كلا الحالتين بصدر رحب، وإذا صدر الحكم بموته فإنه لا يخشى الموت ولا يعتبره شرًا "بل يرى فيه الخير كل الخير سواء افترضناه سباتًا أبديًا أبو الظلم والطغيانًا لحياة جديدة"[5].
وكان سقراط أثناء حياته يأبى تصديق ما يروى من شهوات الآلهة وخصوماتها لأن هذا يتضمن انهيار الدين من أساسه، بينما يرى من مهام الدين "تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية، لا تقديم القرابين وتلاوة الصلوات مع تلطخ النفس بالإثم"[6] وقد أرجع مصدر آرائه وتعاليمه التي يبثها بين الشباب إلى ذلك الصوت الذي كان يسمعه في نفسه ينهاه عن إتيان الفعل الضار به "وكان يسميه بالروح الإلهي ولا ينسبه لإله معين"[7].
إن المحنة السقراطية تكشف لنا عن احتمال قيام سقراط بمحاولة الظلم والطغيان لبقايا عقيدة دينية تأثر بها وأخذ عنها.
ومع هذا، فإنه من الصعب القطع برأي في هذه المسألة لا سيما وأنه أحيانًا يتحدث عن آلهة وأحيانًا عن الإله، ولكن دراسة الظروف والملابسات التي مر بها في حياته تجعلنا نتساءل أيضًا: هل كان يؤمن بوجود الله وخلود النفس؟[8].
لقد سبقنا أستاذنا الدكتور قاسم - يرحمه الله - بهذا التساؤل لكي يتخذ من الإجابة عليه دليلًا على أن سقراط اتجه اتجاهًا روحيًا خلقيًا ودينيًا بحيث يعد بمثابة رد فعل لمادية معاصريه، كما يتخذ من التجربة السقراطية برهانًا على زيف في دعوى دوركايم الذي يرى في العبقرية نتاجًا للمجتمع، إذ يثبت لنا سقراط بآرائه وسلوكه أن عبقريته لم تكن من صنع المجتمع "لكن عبقريته، واستعداده النفسي الخاص، دفعاه إلى أن يفكر تفكيرًا مخالفًا لمعاصريه"[9].
نظريته الخلقية:
كان لسقراط إرهاصات في التفكير الخلقي تتمثل "في العبارات البسيطة المتناثرة في شعر الحكمة إبان القرن السابع والسادس قبل الميلاد"[10]، وقد خلفت لنا بعض الفلاسفة في هذه الفترات شذرات من هذا القبيل لأن جل اهتمامهم كان متجهًا نحو موضوعات البحث الطبيعي والميتافيزيقي، من هؤلاء فيثاغورس "500 ق.م" وهيرقليطس "470 ق.م" إلا أن سقراط كان "أول من اهتم اهتمامًا ملحوظًا بدراسة السلوك الإنساني"[11].
إنه تصدى لمغالطات السوفسطائية التي تستهدف زعزعة المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، مما دعا سقراط إلى الاهتمام في فلسفته بالإنسان وسلوكه بعد أن كان هذا البحث يشغل مكانًا ثانويًا في البحث الفلسفي السابق عليه، إذ أنه لم يحفل بالنظريات العلمية- أي بالطبيعيات والرياضيات في عصره حيث آثر النظر في الإنسان فانحصرت الفلسفة عنده في محيط الأخلاق؛ لأنها أهم ما يتصل بالإنسان ويهمه "وهذا معنى قول شيشرون إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أو إنه حول النظر من الفلك والعناصر إلى النفس، وتدور الأخلاق على ماهية الإنسان"[12].
ولأهمية الدور الذي قام به سقراط في ميدان الأخلاق، ينبغي أن نعرض أولًا بإيجاز لموقف السوفسطائيين منها:
كان السوفسطائيون يدعون أن الطبيعة الإنسانية شهوة وهوى، وقد وضع المشرعون القوانين بغية قهر هذه الطبيعة، فهي تتغير بتغير الظروف والعرف، إنها إذن نسبية "ومن حق الرجل القوي بالعصبية أو بالمال أو بالبأس أو بالدهاء أو بالجدل أن يستخف بها أو ينسخها ويجري مع هوى الطبيعة"[13].
وقد أقام السوفسطائيون المعرفة أيضًا على الإحساس، وذهب زعيمهم بروتاجوراس إلى القول بأن الفرد هو مقياس الأشياء جميعًا، وبذا تتعدد الحقائق بتعدد مدركيها وامتنع وجود حق أو باطل في ذاته[14].
ولئن كانت هذه النظرية في المعرفة، إلا أنهم مدوا أثرها إلى مجال الأخلاق وأصبحت القيم والمبادئ الخلقية - تبعًا لذلك - نسبية تتغير كما قلنا بتغير الزمان والمكان. لقد أطاحوا بالحقائق الثابتة في مجال المعرفة وأبطلوا القول بالمبادئ المطلقة في مجال الأخلاق[15].
"ورأى سقراط لزامًا عليه أن يهدم نظريتهم في المعرفة أولًا، لأنها أساس البناء الأخلاقي لهم، فأقام الحقائق الثابتة على العقل في ميدان المعركة بعد فصله بين موضوع العقل وموضوع الحس، وأصبح يرى أن الإنسان له عقل وجسم، فإن قوة عقله هي التي تسيطر على دوافع الحس ونزواته، مثبتًا أنه إذا كانت قوانين الأخلاق تتعارض مع الجانب الحيواني في طبيعتنا، فإنها تتمشى مع طبيعتنا الإنسانية العاقلة"[16].
والقوانين العادلة تصدر عن العقل، وبعدها صورة مطابقة للقوانين الغير المكتوبة التي رسمها الآلهة في قلوب البشر، فالذي يحترم هذه القوانين فإنه يحترم العقل والنظام الإلهي أيضًا، وحتى إذا احتال البعض لمخالفتها تفاديًا للعقاب الذي قد يتعرض له في الدنيا، إلا أنه سيؤخذ بالقصاص لا محالة في الحياة المقبلة.
وأطلق سقراط عبارته المشهورة "الفضيلة علم والرذيلة جهل"، لأنه يرى أن الإنسان يريد الخير دائمًا ويهرب من الشر بالضرورة، "فمن تبين ماهيته وعرف خيره بما هو إنسان أراده حتمًا، أما الشهواني فرجل جهل نفسه وخيره، ولا يعقل أنه يرتكب الشر عمدًا"[17].
وقد أشار سقراط إلى خلود الروح، وأن هذا الخلود هو الثمن المقابل لحياة النفس الفاضلة في هذه الدنيا "وأن هذه النفس حينما تغادر الجسد سرعان ما تغمرها السعادة الدائمة لأنها ستحيا إلى جوار الآلهة في العالم العقلي"[18].
وأثار سقراط مشكلات كثيرة في المحيط الأخلاقي ما زالت تشغل بال أهل الفكر حتى العصر الحاضر، فقد أراد بناء الأخلاق على العقل، وأساسها على قواعد ثابتة، وألغى رد الأخلاقية إلى سلطة خارجية.
ويظهر أثر النظرية السقراطية العكسي في دوائر متأخرة علماء اللاهوت في الغرب حيث يرون أن الله سبحانه وحده هو الذي يحدد الخير ويميز بينه وبين الشر، كما اتضح أثرها المؤيد عند أصحاب المذاهب الوضعية من العقليين والحدسيين بعد تعديله، وما زال ناشبًا بينهم وبين أصحاب المذاهب الذاتية من الأخلاقيين الذين اعتنقوا مذهب السوفسطائيين معدلًا[19].
ومهما يكن من أمر، فقد اتجه سقراط اتجاهًا روحيًا خلقيًا ودينيًا إذ أعلن لقضاته ولشعب أثينا أنه يضع طاعة الإله فوق طاعتهم وفوق محبته لهم، وأنه لن يكف عن إرشادهم إلى الفضيلة - أي السعادة - وكان موقفه هذا رد فعل ضد الاتجاه المادي الغالب على معاصريه، ولهذا فإن اتجاهه الفلسفي الإنساني - كما يرى أستاذنا الدكتور قاسم - يعطينا "ردًا حاسمًا على نظرية بعض المحدثين الذين يفسرون العبقرية بأنها من صنع المجتمع. ومنهم دوركايم"[20].
[1] تاريخ الفكر الفلسفي: د. أبو ريان ص 111.
[2] الملل والنحل تحقيق بدران القسم الثاني: الشهرستاني ص 89.
[3] تاريخ الفلسفة اليونانية: يوسف كرم ص 54.
[4] نفسه ص 54.
[5] تاريخ الفلسفة اليونانية، ص 56.
[6] تاريخ الفلسفة اليونانية: يوسف كرم ص 54.
[7] نفسه ص 55.
[8] دراسات في الفلسفة الإسلامية: د. محمود قاسم ص 17 دار المعارف.
[9] نفسه ص 13.
[10] الفلسفة الخلقية: نشأنا وتطورها. د. توفيق الطويل ص 21 دار النهضة العربية سنة 1967.
[11] نفسه ص 21.
[12] تاريخ الفلسفة اليونانية: يوسف كرم ص 53 دار المعارف.
[13] نفسه ص 53.
[14] الفلسفة الخلقية: توفيق الطويل ص 23.
[15] نفسه ص 44.
[16] تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم ص 53.
[17] تاريخ الفكر الفلسفي. د. أبو ريان ص 125 ط الدار القومية سنة 1965.
[18] الفلسفة الخلقية. د. توفيق الطويل ص 32.
[19] دراسات في الفلسفة الإسلامية، د. محمود قاسم ص 12.
وينظر: ص 17، 19 دار المعارف 1972.
[20] الفلسفة الخلقية د. توفيق الطويل ص 44.
أ. د. مصطفى حلمي