أثر فن العمارة الإسلامية على فنون العمارة الغربية.
العمارة، كما قيل منذ القدم، هي أم الفنون لأنها تجمع بين فن البناء إلى جانب النحت والرسم والخط والزخرفة، وكما أخذت كل الفنون من بعضها، فقد أخذ فن العمارة الإسلامي أول الأمر عن الحضارة الهيلنيستية التي كانت سائدة قبل الإسلام في بلدان أوروبا الغربية وأيضا في شرق البحر الأبيض المتوسط وكل الأماكن التي وقعت تحت نفوذ الإمبراطورية الرومانية، ثم ما لبثت أن تطورت العمارة الإسلامية وأخذت طابعها الخاص الذي يعكس جوهرالفكر الإسلامي·
بعد ذلك أتيح للحضارة الإسلامية، أن تؤدي ما عليها من دين للحضارات التي سبقتها، فأثرت الأساليب المعمارية العربية الإسلامية في العصور الوسطى، إذ أعجب الحكام والفنانون الغربيون بالحضارة الإسلامية، فتأثروا بالعمارة والزخرفة، وليس مثل هذا التبادل الفني غريباً في شيء، فقد اتصل الشرق الإسلامي بأوروبا في العصور الوسطى، عن طريق الحضارة الإسلامية التي قامت في الأندلس وجزيرة صقلية، والتي كان لإشعاعاتها الفضل الكبير على أوروبا في مختلف المجالات الفنية وغيرها، وعن طريق التجارة، وبفضل مشاهدات الحجاج المسيحيين للأراضي المقدسة، وما كانوا يحملونه معهم إلى أوروبا من التحف الإسلامية، ثم عن طريق الحروب الصليبية التي قامت بين الشرق والغرب، فضلا عن اتصال الأوروبين بالدولة العثمانية بعد ذلك·
وقد تجلى تأثير الفنون الإسلامية في فنون الغرب، وتعدد في مظاهره، ففي العمارة المدنية، اقتبس الغربيون بعض الأساليب المعمارية من العراق، فمثلاً أرسل الأمبراطور >تيوفيلوس< سفيراً في القرن التاسع إلى بغداد لدراسة فن العمارة الإسلامي، وبنىي في العام 835 م، قصراً بالقرب من بوابات القسطنطينية على طراز قصور بغداد، وخططت الحدائق على نمط الحدائق الإسلامية·
الفن المدجّن في سرقسطة واقع لا يمكن إنكاره , أينما سرت ترى أبراج الكنائس تتباهى و هي ترى نفسها في ثوب المآذن ...ذهب الموريسكي و بقي إبداع أنامله .
-كنيسة القديس جيل أباد سرقسطة -
سقطت سرقسطة مبكرا سنة 1118 م أي قبل تسعة قرون و لكن إبّان سقوطها لم يبلغ حقد الكنيسة درجة تخطيط فظائع محاكم التفتيش و الطرد لهذا بقي من المسلمين أعداد كثيرة في سرقسطة سرعان ما ذابت في المجتمع السرقسطي و سمّوا بالمدجّنين أو " mudejares" .
ونرى أثر العمارة الإسلامية واضحاً في كنيسة مدينة سرقسطة التي بنيت في عصر >المدجنين Mudijar< في القرن (16م) - طائفة من المسلمين عملت تحت حكم المسيحيين بعد سقوط الأندلس
- وتلك الكنيسة مبنية من الطوب، وفتحاتها كلها معقودة، أما برج الكنيسة، فيشبه تخطيط المآذن في المساجد الأندلسية التي في شمال أفريقيا، وخصوصا مئذنة مسجد القيروان، هذا بالإضافة إلى استعمال الطوب في عمل الزخرفة التي على برج الكنيسة، كما استعملت المقرنصات·
وظلت الأساليب الإسلامية في إسبانيا باقية في بعض المناطق حتى اليوم، خصوصا في جنوب تلك البلاد، التي استمد منها المعماري الحديث >غاودي<، عناصر فنية مختلفة، استخدمها في مبانيه الأولى، ولاسيما في تزيين الحجرات الداخلية بالاضافة إلى الأشكال الخارجية·
أما العمارة الإيطالية، فيمكن مشاهدة التأثير الإسلامي في الأقواس التي تصل جوانب قبة >مونت سانت انجلو<، وفي قصر >روفولو< في رافيللو الذي بني في القرن الحادي عشر، ومازال يدل بتفاصيله المعمارية على أصوله الإسلامية·
وتعزى شهرة مدينة >بيزا< بمقاطعة توسكانيا إلى وجود أكثر المتنوعات المعمارية جمالاً في العالم فيها، ومنها برج >قبة سيوليتو< التي تشبه إلى حد كبير مئذنة سنجر الجاولي في القاهرة، كما أن قبة وقاعدة كاتدرائية >براتو دي ميراكولي<، تؤكدان تأثير الفن الإسلامي·
وفي >كازالي مونفيراتي< شمال إيطاليا،
نجد أن الكاتدرائية في تلك المدينة مبنية بأروقة تحتوى على أقواس مقتبسة أيضا من قواعد وأصول فن المعمار الإسلامي، ويتضح ذلك بمقارنتها بالقبة المقامة فوق الباب الرئيس لجامع قرطبة الكبير، وكان هذا الجزء من الجامع قد بني في عهد الخليفة الحكم الثاني في النصف الثاني من القرن العاشر·
كما تبدو في جنوب إيطاليا التأثيرات العربية فضلاً عن أن أبراج النواقيس في إيطاليا في عصر النهضة كانت مقتبسة من أسلوب المآذن المغربية·
كما أعجب الإيطاليون بظاهرة معمارية جميلة شاعت في القاهرة على عهد المماليك، وهي تبادل طبقت أفقية من أحجار قاتمة اللون مع أخرى زاهية استخدموها في الواجهات المخططة في المباني الرخامية التي شيدت في بيزا وفلورنسا وجنوا ومسينا وفي غيرها من البلاد الإيطالية، ومثل هذه الأبنية المتعددة الألوان موجودة في إقليم الأوفرن، وفي كنيسة القديس بطرس بنورثمبتن·
كنيسة القديس بطرس بنورثمبتن·
وترك العنصر الإسلامي أثره في العمارة الدنيوية في صقلية،وبشكل خاص في عدد من القصور الصغيرة ذات الغرف الصغيرة العالية المرتبة حول باحة مركزية كانت إسلامية في إلهامها وأهم هذه القصور، قصر يدعى >العزيزة< في >باليومو<·
كما يمكن مشاهدة أثر العمارة العربية الشامية في الحصون التي شيدت للدفاع عن صقلية، فالتصميم والأقواس المدببة وفتحات السهام كلها عربية إسلامية، إلى جانب الحيطان ذات الشكل المربع، ومن صقلية انتشر هذا الطراز العربي للحصون والقلاع، الذي اقتبسه الملك >فريدريك الثاني< أثناء حملته على بيت المقدس إلى جميع البلدان الأوروبية·
أما في فرنسا فإن أكثر الآثار الدالة على التأثير بالفن الإسلامي وبشكل خاص الجامع الكبير في قرطبة هو مدخل كنيسة القديس >ميشيل دي ايجوي< في مقاطعة لوبوي، والزخرفة المتعددة الألوان على الجدران الخارجية ومدخلها تدل على أنها اقتبست عن الجامع الكبير بقرطبة، كما نلاحظ تأثير الفن الإسلامي على العقود الملونة في كنيسة >لامادلين< في >فيزيليه< التي أعيد بناؤها بعد أن أتت عليها النار في العام 1120م، وهي تعد واحدة من أجمل المباني التي بنيت على هذا الطراز في فرنسا·
ويرى الطابع الإسلامي واضحاً في جنوب فرنسا في بلدة >بوي<، وذلك في عقودها المتعددة الفصوص وفي الزخارف التي اشتقت عن الكتابة الكوفية والزخارف المؤلفة من الجدائل وسعف النخيل·
كما اقتبس الفرنسيون بعض الأساليب المعمارية من قلاع مصر وسورية، وجعلوا المدخل الموصل من باب القلعة إلى داخلها، على شكل زاوية قائمة، أو جعله ملتوياً، كي لا يتمكن العدو الذي بباب القلعة، من رؤية الفناء الداخلي لها، أو أن يصوب سهامه إلى من فيه، ومثال ذلك القصور التي شيدت في فرنسا في القرن >14< فهي قريبة الشبه بالباب الرئيس في قصر >الحير الغربي< في دمشق، وباب قصر >الأخيضر< في العراق، فالباب يكتنفه برجان، تعلوهما المزاغل والفتحات لرمي السهام، أو القار، أو الزيت المغلي، الذي يصب على العدو المهاجم، كذلك ترى فتحات المراقبة تعلو الباب والأبراج الصغيرة، وكذا تشاهد الكرانيش·
ويقول المتخصص بفن العمارة >باتيسيه< عن تأثير العرب في العمارة الأوروبية: >لا يجوز الشك في أن المعماريين الفرنسيين اقتبسوا من الفن الشرقي كثيرا من العناصر المعمارية المهمة والزخارف في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي، ألم نجد في كاتدرائية >بوين< التي هي من أقدس العمائر المسيحية باباً مستوراً بالكتابة العربية؟ أولم تقم في أريبونة وغيرها حصون وفق الأسلوب العربي<·
وفي بريطانيا، يدل أحد المداخل في مدينة >كنيلورث< الذي يرجع تاريخه إلى العام 1150م، على أن المهندس المعماري الذي صممه قد زار أسبانيا، فرسم قوساً داخل شكل مستطيل، ويكاد يكون ثابتا أن أصل العقود الإنكليزية التيودورية إسلامي، كما قام الإنكليز بتقليد المشربيات الخشبية العربية في القضبان والسياجات المعدنية، كما استخدموا الزخارف الإسلامية بشكل بارز في عمائرهم·
كما يظهر التأثير الإسلامي في بعض العمائر البولندية، حيث تستخدم المقرنصات وزخارف الأرابيسك ورسوم وريقات الشجر ذات الفصوص الثلاثة، وذلك في الكنيسة الأرمنية في مدينة >لوبوف<، التي ترجع إلى النصف الثاني من القرن (14) م·
هذا بالإضافة إلى استخدام العقود المدببة التي ظهرت منذ القرن (9)م، في مسجد >ابن طولون< في مدينة القطائع في مصر، واستخدام القوط للزخارف الحجرية التي تملأ النوافذ ويركب بينها الزجاج·
أما العمارة الروسية فقد استعارت كثيراً من الفنون الإسلامية، ويظهر ذلك جليا في كنائسها الكثيرة ذات القباب البيضاوية الشكل·
وفي بلغاريا شيدت العمائر التي تتجلى فيها التأثيرات الإسلامية في تصميماتها وعقودها النصف دائرية، والواجهات ذات السقيفة، مثال ذلك يظهر في دير القديس >يوحنا< في مدينة ديلا، وترجع إلى القرن >19< م، وكذلك نرى استخدام القباب، كم هي الحال في الطراز العثماني، وكذا استخدام الحجر الملون، الأبيض والأسود المعروف باسم الأبلق·
وهكذا يتأكد بالدليل الثابت من العمائر أن الأقواس (العقود) أصلها عربي، لأن العرب استخدموها في مسجد أحمد بن طولون بمصر قبل أن تعرفها أوروبا بخمسة قرون، ويقول العالم المتخصص في فن العمارة >بريس<: >أن المسيحيين أخذوا عن العرب الأبراج الرائعة التي استخدمها الغرب حتى أواخر القرن السادس عشر الميلادي·· ومن تتح له زيارة اشبيلية يرى أن القصور والمساكن لا تزال تبنى على الطراز العربي<·
ويكفي أن يجيء الاعتراف بتأثير فن العمارة العربي على فنون العمارة الغربية من المستشرقين أنفسهم، فها هو >جوستاف لوبون< في كتاب >حضارة العرب< يشيد بهذا التأثير، حتى ذهب إلى أن الأوروبيين في العصور الوسطى كانوا يستقدمون فنانين ومهندسين من العرب، كما فعل شارلمان على سبيل المثال، وكما حدث في بناء الكثير من الأبراج والقصور·
هذه نماذج خالدة تشهد بتراثنا الحضاري في العمارة وتدلل على نبوغ مهندسينا المعماريين ورجال الفن الذين ترعرعوا في ظل دولة الإسلام في المشرق والمغرب، وقد ساهمت تلك الدولة بأوفر نصيب في تطوير أساليب العمارة والفنون العالمية بما ابتكرت من طرز جميلة ورائعة يعتز بها مؤرخو الفنون والعمارة في العالم غرباً وشرقاً·
و هذا ما جعل من العادي أن تسير في شوارع سرقسطة فتلقى منظرا كهذا, شارع أوربي بخلفية أندلسية , حيث يبدو برج الكنيسة و كأنّه مئذنة مسجد , فتخال نفسك في أزقّة مدينة من مدن المغرب الإسلامي.