لوحات فسيفسائية هامة كانت ترصف كنيسة بسوريا.
في تسعينيات القرن الماضي اكتشفت في قرية "بسقلا" الواقعة جنوب مدينة "معرة النعمان" بحوالي 10 كم، أرضية فسيفسائية هامة كانت ترصف أرضية كنيسة، حيث تعتبر هذه اللوحة من اللوحات الجميلة التي يضمها متحف "المعرة" إذ تعتبر ذات قيمة فنية خاصة نظراً لاعتمادها على المدرسة التجريدية المعتمدة على السريالية في كثير من مشاهدها.
موقع eIdleb التقى مع الباحث والفنان التشكيلي "أحمد غريب" الذي عرفنا بداية عن تاريخ اللوحة بالقول: «يعود تاريخ هذه اللوحة إلى القرن الخامس الميلادي ومساحتها الكلية تبلغ 60 مترا مربعا وقد فقد جزء من صحن هذه اللوحة لكونه كان في الموقع شجرة زيتون أثرت على هذه الكعوب، ومن أبرز مشاهد اللوحة دائرة كبيرة ضمت ثمان دوائر صغيرة بجديلة رائعة وهي معروضة حالياً في الجناح الثاني من متحف "المعرة"».
وحول المدرسة الفنية التي تنتمي إليها هذه اللوحة يضيف الأستاذ "أحمد": «هذه اللوحة تتميز بميزة هامة جداً وهي التجريد الهندسي الذي اعتمده الفنان الفسيفسائي بعدما أبعد الدين المسيحي عن التمثيل الوثني الذي كان مستخدماً بكثرة في العهدين اليوناني والروماني، حيث كانت تمثل الأساطير بهيئات بشرية، فاعتمد على التجريد وغالباً ما طرق مواضيع زخرفة هندسية أو نباتية أو حيوانية، ولهذه الزخارف تقاطعات مع الرسالة الإنجيلية، وهذه اللوحة ضمت أيضاً عناصر هندسية قوامها "المعين"،
ومن أحد أجزاء اللوحة
الملاحظ في هذه اللوحة استخدام القرميد الأحمر المشوي، فقد كان الفنان يعمد إلى شي الكعوب الحجرية عندما يحتاج للون غير موجود في الطبيعة من الحجر، ومن مميزات هذه اللوحة أيضاً أننا في معظم اللوحات الفسيفسائية التي نراها نشعر ببعدين إلا في هذه اللوحة يشعرك الفنان الفسيفسائي بالعمق لهذه الأشكال ويجعلك تشعر بالبعد الثالث، وذلك نتيجة استخدام تدرج ألوان قوس قزح على أرضية من اللون القرميدي، وإن لوحة "بسقلا" تجريدية بالمطلق إلا من رمزين هما "الطاووس والسمكة" وذلك لأن الفنان في القرن الخامس الميلادي أبعد الدين المسيحي عن التمثيل الوثني فلجأ عندها إلى الزخرفة الهندسية والنباتية والحيوانية، حيث نجد أن الفنان الفسيفسائي في المدرسة التجريدية اعتمد على الإطارات الزخرفية باستخدام عناصر نباتية منمنة رائعة تذكرنا بفن الأيقونات، وإن السريالية الواضحة في مشاهد لوحة فسيفساء "بسقلا" نتجت عن انتشار الدين المسيحي بشكل عميق في القرن الخامس ومحاولة الفنان إيجاد نمط فني يعبر من خلاله
مشهد الطاووس في اللوحة دون مخالفة التعاليم الدينية، مع العلم أن هذه الزخارف الهندسية لها دلالات رمزية لم تغب عن ذهن الفنان في تلك الفترة».
ويختم: «هذه اللوحة تضم كما ذكرنا رمزا للسمكة، وهذا الرمز كما هو معروف هو رمز إنجيلي، فاسم السمكة باللغة اليونانية القديمة "خريستوس" وهو يقابل اسم السيد المسيح "كريستوس"، وهذا التوافق جعل من هذه الرمزية دلالة طقسية إنجيلية، ومن مشاهد اللوحة أيضاً صورة طاووس وهو رمز للخلود، لكون هناك مقولة تاريخية بأن الطاووس الذكر لا يتعفن جسمه بعد الموت لذلك اتخذ رمزا للخلود، وكذلك اسم الطاووس باللغة اليونانية القديمة "آلتو" وهي تقابل اسم الصليب، وكثيرا ما نشاهد جرة كبيرة تتوسط المشاهد الفسيفسائية ويحيط بها طاووسان على اليمين وعلى الشمال، ولهذا التمثيل رمزية لينبوع الحياة لكون الطاووس أجمل طيور العالم ويرمز للزهو والخيلاء لألوانه الزاهية، وفي متحف "المعرة" هناك مشاهد للطاووس بأكثر من حركة الباحث أحمد غريب
مشهد الطاووس في اللوحة
رمزية تاريخية».
وتبقى الإشارة بأن اللوحة تتضمن ثلاثة نصوص كتابية باللغة اليونانية القديمة يقول عنها الباحث "عبد الحميد مشلح" بأنها: «تشير إلى مقدمها هو "ثلاذيسوس" وفاء لنذر إلى جانب مجموعة أدعية دينية، وفي عبارات النذور تاريخان يعودان لعام 390 و415 م، وهذا يعني أن رصف هذه اللوحة تم على مرحلتين وفق التاريخين المذكورين».