ألقى الضابط نظرة كئيبة على الردهة الطويلة التي تفتح عليها فصول السنتين الثالثة والرابعة، وقد شمل المدرسة - سكون عميق، ثم مضى الى فصل من فصول السنة الثالثة، ونقر على الباب مستأذناً، ودخل متجهاً صوب المدرس وأسر في اذنه بضع كلمات، فسدد المدرس بصره صوب تلميذ يجلس في الصف الثاني وناداه قائلاً:
- حسنين كامل علي .
فقام التلميذ وهو يردد بين المدرس والضابط نظرة مليئة بالترقب والقلق، وغمغم:
- افندم؟
فقال المدرس :
- اذهب مع حضرة الضابط.
فخرج التلميذ عن قمطره ، وتبع الضابط الذي غادر الفصل في خطوات بطئية ولم يطمئن قلبه لهذه الدعوة ، وراح يسائل نفسه: ترى أجاء بسبب المظاهرات الأخيرة؟ وكان قد اشترك في المظاهرات، وهتف مع الهاتفين: «ليسقط تصريح هور» و«ليسقط هور ابن الثور» وقد ظن أنه نجا من الرصاص والعصى والعقوبات المدرسية جميعاً ، فهل كان مغالياً في ظنه؟ وسار وراء الضابط في الردهة الطويلة متفركاً، يتوقع بين لحظة وأخرى أن يجبهه بما عنده من تهم، ولكن قطع عليه تفكيره وقوف الرجل حيال فصل من فصول السنة الرابعة ودخوله مستأذناً، ثم بلغ مسمعه صوت المدرس وهو ينادي قائلاً .
- حسين كامل علي .
شقيقه أيضاً؟! ولكن كيف يمكن ان توجه اليه تهمة من هذه التهم وهو لا يشترك في المظاهرات بتاتاً؟! وعاد الضابط يتبعه الفتى واجماً، وما أن وقعت عيناه على شقيقه حتى غمغم في دهشة:
- وأنت ايضاً ؟! ماذ حدث !؟
وتبادلا نظرات حائرة، ثم تبعا الضابط الذي مضى الى حجرة الناظر وسأله حسين في لهجة رقيقة مؤدبة:
- ما الذي أوجب استدعاءنا من الفصل؟
فأجاب الضابط بعد تردد قائلاً:
- ستقابلان حضرة الناظر.
وقطعوا بقية الردهة دون أن ينبس أحدهم بكلمة. وكان الشقيقان متشابهين لدرجة كبيرة ، فكلاهما له هذا الوجه المستطيل، وعينان عسليتان واسعتان، وبشرة سمراء ضاربة الى العمق، الا ان حسين في التاسعة عشرة، يكبر اخاه بعامين ودونه طولاً ، على حين يمتاز حسنين بدقة في قسمات وجهه أكسبته وضاءة ووسامة، ومضى قلقهما يتزايد وهما يقتربان من حجرة الناظر. وتخايل لعينيهما منظره الصارم في رهبة وخوف. وزرر الضابط سترته ونقر على الباب، ثم دفعه برقة ودخل وهو يوميء إليهما أن يتبعاه. ودخلا وهما ينظران الى الرجل وقد انكب على مكتبه في صدر الحجرة يقرأ رسالة بعناية دون أن يرفع بصره نحو القادمين، كأنه لم يشعر بحضورهم. وحيّاه الضابط بأدب جم وقال:
- التلميذان حسين كامل علي وحسنين كامل علي .
فرفع الناظر رأسه وهو يطوي الرسالة بيديه، وأطفأ عقب سيجارة في النافضة، وجعل يردد بصره بينهما ، ثم تساءل:
- في أي سنة أنتما؟
فقال حسين بصوت متهدج:
- رابعة رابع.
وقال حسنين :
- ثالثة ثالث.
فنظر اليهما ملياً ثم قال:
- أرجو ان تكونا رجلين كما ينبغي، لقد توفي والدكما كما ابلغني اخوكما الأكبر والبقية في حياتكما..
ووجما في ذهول وانزعاج، وهتف حسنين وهو لا يدري قائلاً:
- توفي أبي !! مستحيل..
وغمغم حسين وكأنه يحدث نفسه:
- كيف؟ لقد تركناه منذ ساعتين في صحة جيدة وهو يتأهب للخروج الى الوزراة..
فصمت الناظر قليلاً ثم سالهما برقة:
- ماذا يعمل أخوكما الأكبر؟
فقال حسين بعقل غائب:
- لا شيء..
فتساءل الرجل:
- أليس لكما اخ موظف أو شيء من هذا القبيل؟
فهز حسين راسه قائلاً:
- كلا..
فقال الرجل :
- أرجو ان تتحملا الصدمة بقلوب الرجال، واذهبا الان الى البيت كان الله في عونكما..
نجيب محفوظ:
روائي مصري حائز على جائزة نوبل في الأدب 1988. وُلد في 1911، وتوفي في 2006. كتب نجيب محفوظ منذ بداية الأربعينيات واستمر حتى 2004. تدور أحداث جميع رواياته في مصر، وتظهر فيها ثيمة متكررة هي الحارة التي تعادل العالم. من أشهر أعماله الثلاثية وأولاد حارتنا التي مُنعت من النشر في مصر منذ صدورها وحتى وقتٍ قريب. بينما يُصنف أدب محفوظ باعتباره أدباً واقعياً، فإن مواضيع وجودية تظهر فيه. محفوظ أكثر أديبٍ عربي حولت أعماله إلى السينما والتلفزيون.