مما لاشك فيه أن صنوف البلاء تتعدد ، فمن الناس من يبتلي بالفقر ومنهم من يكون بلاؤه في كثرة المال وغيرهم يبتلي بوفرة الصحة بينما المرض يمثل البلاء الأبرز لصنف آخر ، ومن صنوف الابتلاء ولربما كان أشده اليتم ، ففي اليتم بلاء للفرد اليتيم والمجتمع بأسره ، ( ولو شاء الله لأعنتكم ) أي لجعل أولادكم في موطن اليتامى محل الخطاب .
من هو اليتيم ؟
اليتيم هو من فقد أباه قبل سن البلوغ ذكراً كان أو أنثي ، ففي الحديث ( لا يُتم بعد احتلام ) واليتم علي هذه الصفة يشمل الغني والفقير القوي والضعيف صاحب المكانة الاجتماعية العالية والآخر صاحب المكانة المتواضعة .
المجتمع واليتيم
اتفقت كلمة علماء الأمة علي أن من فقد أباه انتقلت أمانة رعايته وتربيته إلي المجتمع بأسره ، وتبدأ المسئولية عن تلك الأمانة طبقاً لقاعدة الأقرب فالأقرب ، ولكن إذا قام بها أحد الناس فهذا يكفي ، إذ أن كفالة اليتيم من فروض الكفاية التي يجب أن تقوم بها أمة الإسلام فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الكل وإلا أثم جميع المسلمين .
الترغيب في كفالة اليتيم وفضلها
يكفي في بيان فضلها أن نذكر قول النبي – صلي الله عليه وسلم : أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ، وقوله تعالي : والذي الظلم والطغيانني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتكبر علي جاره بفضل ما آتاه الله . والمتأمل في الحديث يري حرص الشرع علي استفادة الإنسان نفسه من كل عمل خير يعمله للآخرين ، ففي رحمة اليتيم والتواضع له علاج لآفة بشرية خطيرة وهي التكبر ، إذ أن ما تضمره أنفسهم من التكبر تظهره في اليتامى لكونهم تحت قهرهم ، فلما أمر الشرع بإكرام اليتيم وبحمل المسلم نفسه علي هذا الإكرام واللين لليتامى فهذا علاج لتلك الآفة الخطيرة وهي التكبر .
ماهي حقيقة الكفالة ؟
يتصور البعض أن الكفالة عبارة عن مبلغ من المال يدفع شهرياً لليتيم أو حتى زيارة لليتيم في بعض المناسبات والأحوال ، وهذا قصور في فهم المغزى الذي قصد إليه الشرع من الكفالة ، إذ أن الكفالة عبارة عن تربية ورعاية مصالح لا تنفصل هذه عن تلك ، فكافل اليتيم هو القائم بأمره من نفقة وكسوة وتأديب .
ومن ناحية أخري لا ينبغي أن تقف الحساسية دون مخالطة اليتيم والتفاعل معه ، وإلا لتحول إلي كيان مستقل أو كظاهرة مرضية يحذر الناس الاختلاط بها ، فيغيب المعني التربوي في قضية الكفالة ، قال الله تعالي ( ... ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) وقد نزلت الآية لأن المسلمين كان يعزلون لليتيم طعامه وشرابه مخافة أن تتسبب الخلطة في بعض الأذى لليتيم ، وبرغم حسن النية الواضح في هذا العمل ( اعتزال اليتيم ) فقد صححه الشرع بالتنبيه علي المخالطة والله أعلم بالسرائر .
وفيما رواه البخاري في الأدب وابن ماجة وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة أن النبي – صلي الله عليه وسلم – قال : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ، أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطي " فمطلوب أن يكون اليتيم في بيت مسلم ويصير فرداً منهم يتساوي معهم في الحقوق والواجبات ، وأن يجلس مع أصحاب البيت علي قصعتهم طلباً للبركة من ناحية ومن ناحية أخري ليقوم رب البيت بدوره التربوي بمراقبة تصرفاته وتقويمه إن لزم الأمر .
فالواجب لليتيم حتى تتحقق الكفالة بكل معانيها ما يلي :
أولاً : رعاية أمواله إن كان له مال .
قال تعالي : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (النساء 5 :6) ، فالقيم في مال اليتيم لا يجوز أن يدفع مال اليتيم إليه إذا كان لا يزال بعدُ سفيهاً لا يحسن التصرف في المال وإنما عليه أن ينميه ويدفع الصدقة منه في وقت استحقاقها ، فقد قال – صلي الله عليه وسلم : " ألا من ولي يتيماً له مال فليتّجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " رواه الترمذي عن ابن عمر ، وعند سن رشد اليتيم يبدأ في اختباره بدفع بعض الأموال إليه ومراقبة تصرفاته فإن آنس منه رشداً دفع إليه كل ماله مع الإشهاد علي ذلك .
وإن حدث وكان ولي اليتيم فقيراً فقد أباح له الشرع أن يأكل من مال يتيمه فقد أخرج أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتي النبي – صلي الله عليه وسلم – فقال : إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم فقال – صلي الله عليه وسلم – : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل " فالغني خير له أن يستعفف إذ لديه ما يغنيه عن الأكل من مال اليتيم ، وأما ولي اليتيم الفقير فيأكل بالمعروف وحدود ذلك المعروف أن يكتفي بأخذ الحد الأدنى من مال اليتيم بما يكفي فقط لقضاء ضروراته ( وقد فسر كثير من العلماء الأكل بالمعروف الوارد في الآية أنه ما يؤخذ علي سبيل القرض فقط ، ولا يجوز لولي اليتيم أن يسرف في الأكل من مال اليتيم ولا أن يعجل بإنفاقه والتصرف فيه قبل أن يكبر اليتيم كما لا يجوز له أن يدخر لنفسه من مال اليتيم شيئاً .
ثانياً : قضاء حوائجه إن كان بغير مال .
في الحديث عن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – أنه قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بإصبعه السبابة والوسطي وفرق بينهما " .
وما أدراك ما لخبر الثاني ؟ إنه الأمنية التي تمناها صحابة رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وهي مرافقته في الجنة ، والتي من أجلها شحب لون ثوبان مولي رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وكثر بكاؤه ، ومن أجلها تكفل رجل بمزيد من الطاعات ليدركها فحينما سأل النبي – صلي الله عليه وسلم – إياها ( أسألك مرافقتك في الجنة ) فقال له – صلي الله عليه وسلم : أعنّي علي نفسك بكثرة السجود ، فكيف إذا ضمنها وهو في أمر أيسر من ذلك ؟ بكفالة اليتيم والقيام علي شأنه وقضاء حاجاته يدركها ويرافق نبينا – صلي الله عليه وسلم – في الجنة .
ثالثاً : تنشئته تنشئة صالحة سواء كان غنياً أو فقيراً .
وهو الهدف الأساسي للكفالة ، وماكان هذا المعني ليغيب عن السلف الصالح أبداً ، حتى عن المرأة التي كانت تحتاج الزوج ، ما كانت لتنسي واجب الكفالة لليتيم بل وكانت تقدمه علي كل رغباتها ، ففي المستدرك عن سمرة بن جندب قال : أيمت أمي وقدمت المدينة فخطبها الناس فقالت : لا أتزوج إلا برجل يكفل هذا اليتيم فتزوجها رجل من الأنصار ، وكانت النتيجة أن تلك التربية الصالحة أفرزت لنا سمرة البطل الذي قدم نفسه إلي رسول الله – صلي الله عليه وسلم – ليلحقه بركب المجاهدين فرده النبي لصغر سنه ، فصارع سمره من هو أكبر منه فصرعه فأجازه النبي – صلي الله عليه وسلم – للقتال .
ومن أجل هذه الغاية كان الصالحون يتعهدون اليتيم بكل وسائل التربية المشروعة بغرض تعليمه وتأديبه علي منهج الشريعة ، فهذا عمرو بن أبي سلمة يحدث أنه وهو في حجر رسول الله – صلي الله عليه وسلم – يأكل فتطيش يده في الصفحة فيقول له النبي – صلي الله عليه وسلم : ( يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ) .
وفي موطن آخر يرافق اليتيم غيره في رحلة العبادة والتعلم والصحبة عن أنس بن مالك : أن جدته مليكة دعت رسول الله – صلي الله عليه وسلم – إلي طعام صنعته فأكل منه ثم قال : قوموا فلنصل بكم ، قال أنس : فقمت إلي حصير لنا قد اسود فنضحته بالماء فقام عليه رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وصففت عليه أنا واليتيم وراءه والعجوز من وراءنا فصلي بنا ركعتين ثم انصرف .
حتى التأديب ، فما وقف اليُتم حائلاً دون تأديب اليتيم إذا أخطأ ، ومع احترامنا وتقديرنا لعواطف الناس التي تري إطلاق العنان لليتيم لا يرده شيء ، فإن هذا مخالف لكل قواعد التربية وأسس الإصلاح ، ونري أن فعل السلف الصالح هو الأصوب والأصلح لليتيم وللمجتمع .
أتي رجل إلي عبد الله بن مسعود بابن أخيه ( يتيم كان في حجره ) وهو سكران فأقام عليه الحد ثم قال للرجل : بئس لعمر الله والي اليتيم أنت ؟ ما أدبت فأحسنت الأدب ولا سترت الخزية .
وروي ابن جرير عن شميسة قالت : سألت عائشة عن أدب اليتيم فقالت : إن كان أحدهم ليضرب يتيمه حتى ينبسط .
ومن صور التربية تطبيق مبدأ عدم المجاملة في الحق حتى لو أدي الأمر في ظاهره إلي خسارة مادية لليتيم : وجوب الزكاة في مال اليتيم ( مذهب عامة الفقهاء ) ، ولو كانت أموال اليتيم خمراً وجب إراقته علي الأرض ، حتى عقيقة اليتيم تقضي من ماله .
الجمعية الشرعية ودورها في تطبيق كفالة الطفل اليتيم
إن كل المعاني الشرعية لكفالة الطفل اليتيم لم تغب عن بال القائمين علي هذا العمل في الجمعية الشرعية ولو للحظة واحدة ، غير أن التطبيق خضع لمبدأ التدرج وتهيئة المجتمع للقبول بكل أركان الكفالة الشرعية ، فكانت البداية في توفير رعاية طبية لليتيم وأسرته ثم توفير رعاية مادية تمثل الحد الأدنى من متطلبات الحياة بالنسبة لأي فرد عادي مع توعية الكافل بضوابط الكفالة الشرعية ، وضرورة التواصل القوي مع اليتيم دون جرح لمشاعره ، ثم كان الاهتمام بالجانب التربوي عن طريق لقاء الجمعة الذي يهدف إلي تقديم جرعة دينية مركزة لتعليم اليتيم أمور دينه ، وكذلك الحرص علي الاحتكاك المباشر مع اليتامى بكافة أنحاء مصر عن طريق تنظيم العديد من برامج الرحلات واللقاءات ، وفيها يتم دعم التوجه الخلقي والديني لدي اليتيم بشكل عملي .
أثر كفالة اليتيم في استقرار المجتمع
تلعب الكفالة دوراً هاماً في استقرار المجتمع سواء كان ذلك بالنسبة لليتيم أو لكافل اليتيم علي حد سواء :
- كافل اليتيم برحمته وتواضعه لليتيم يتخلص من كبره وتفاخره ، ويصير بذلك إنساناً فاضلاً وهذا من أهم المكاسب ، والعكس كارثة علي الأمة ، فإن من تكبر علي خلق الله بفضل يراه لنفسه عليهم لا خير فيه ولا يُؤمن جانبه ، إذ يحمله ذلك علي إنكار كل خير من غيره ورد كل حق لأنه لم يأتي عن طريقه ، ( الكبر بطر الحق وغمط الناس ) .
- واليتيم إذا وجد القلب العطوف واليد الحانية نشأ إنساناً سوياً بغير عقد تنغص عليه حياته ولا ضغينة يختزنها حيال المجتمع الذي تخلي عنه في فترة محنته ، بل ويري عليه لزاماً أن يرد الجميل للمجتمع وهكذا لا تتوقف عجلة البناء ، بدلاً من أن يصبح اليتيم مشرداً أو مجرماً .
- والنتيجة بعد ذلك لصالح المجتمع في كل الحالات ، ففيه الأفراد المترابطون برباط الأخوة يجمعهم هدف واحد وطريق واحد وتلك هي القوة الحقيقية التي تبني بها المجتمعات نفسها ، وعلي سبيل التذكرة فإنه حتى المجتمعات غير المسلمة وعلي سبيل الرعاية الاجتماعية تفسح المجال لتقديم أكبر قدر من الخدمات لليتامى موقنة أن هذا هو السبيل الوحيد لنزع فتيل الفساد الذي ينتظرهم إن لم يجدوا الرعاية والعون من المجتمع .