باسم الله الرحمن الرحيم
عرف الشعر منذ الأزل باندفاعه مع
الأحداث المختلفة التي يصنعها الإنسان أو التي تفرض عليه، فيعبر عنها و
يجسدها، و يعكس ما فيها من سلبيات و إيجابيات. فهو الحاضر في ميادين
النزال، كما في حفلات الأعراس، و في مجالس اللهو و الترف كما في مجالس
الوعظ و لإرشاد، و في الفخر بالقيم النبيلة كما في ذم الخصال القبيحة، و في
رحاب الملوك و السلاطين كما في أكواخ الفقراء و المعدمين، و ما شئت من
الميادين و الجبهات.
و الشعر بما يحمله من سحر في البيان و تناسق في النظم، و سعة في الموضوعات،
وسيلة لسانية مهمة في تخليد الآثار، و تصوير المواقف، مما يجعله مؤثرا في
النفوس، و مترددا على الألسنة جيلا بعد جيل، و حقبة بعد حقبة. لهذا ارتبط
بحياة الشعوب و تاريخها و مآثرها، حتى عده العرب ديوانهم الذي يفخرون به، و
وسيلتهم التي يقابلون بها ما لغيرهم من فلسفات و مظاهر حضارة.
و إذا كان للشعر هذه الخطورة، فإن اقترانه بالأحداث العظمي يزيده قوة و
مكانة في آن معا، خاصة إذا ما وجد من الشعراء من يجمع قوة البيان بقوة
العزيمة و الشجاعة. لأن أخطر ما في الشعر كونه كلاما خالدا يتردد على
الألسنة كما تتردد التحية بين الناس، و كونه محط أنظار الجميع بغض النظر عن
مستوياتهم ووظائفهم. و ما ينقله تاريخ الأدب عن الشعر و الشعراء
قديما و حديثا يذهل القارئ بكل ما يحمله من متناقضات. فرب شاعر رفعته
قصيدته إلى مصاف الأخيار و الأبطال، و رب شاعر نزلت به القصيدة إلى قاع
الضياع، و ما ذاك إلا لأن الشاعر أبدع فيها فنا و جسد فيها موضوعا له من
الأهمية ما ليست لغيره.
و عندما نقرن الشعر بالثورة الجزائرية فنحن أمام متعتين : متعة الفن الشعري
بخياله و تصويره و موسيقاه، و متعة الموضوع بزخمه و هوله و روعته
التي تركت آثارها في نفوس الجزائريين، و نفوس غيرهم من العرب و المسلمين و
الأجانب أيضا. و نجد أنفسنا مجبرين على استرجاع ماضينا لنقرنه بحاضرنا و
نتأمل سنة الله في خلقه و كونه. فكما كان أبو تمام و المتنبي يقفان على
معارك الملوك المسلمين في زمانهم و ينقلونها تصويرا و معان و عواطف حتى
خلدوها في التاريخ، فكذلك فعل مفدي زكريا و غيره مع الثورة الجزائرية. و
إذا كانت معارك الماضي أياما أو ليالي، فإن الثورة سنون طويلة مرة لم ينته
كابوسها إلا بعد تضحيات جسام. فلا عجب إذن أن يخصص شاعر مثل مفدي زكريا
أغلب شعره لتخليد أمجاد الثورة، و الفخر برجالها، حتى ظننا أن ليس لمفدي
اهتمام في الدنيا سوى الجزائر.
لكن علاقة الثورة بالشعر ليست دائما مطردة، فقد تعتري الشاعر أحيانا صدمة
تجعله حائرا فيتوقف عن الاندفاع و التدفق، و يجلس عن بعد يترقب و يلاحظ،
دون أن يقوى على تحريك لسانه المبدع، بل دون أن تسعفه الكلمات للتعبير عما
يرى و يسمع. ذلك هو حال الشعراء مع الثورة الجزائرية العظيمة التي أذهلت
العالم ببطولات أبنائها، و رسمت للجزائر لوحة عز خالدة لا تؤثر عليها
العوامل و المتغيرات.
لكن صمت بعض الشعراء أمام عظمة ثورتهم لم يكن من قبيل التخاذل أو الخيانة،
بل العكس هو الصحيح ؛ إنه صمت المعجب و المعظم للحدث، فكأنما الواقع هو
نفسه الشاعر، أو كأن ما يحدث على أرض المعارك لا يحتاج أصلا إلى من يعبر
عنه.
مثل هذا حدث مع الشعراء تجاه القرآن الكريم، ففي الوقت الذي ارتفعت فيه
أصوات شعراء قريش تستهزئ بالرسول و قرآنه في عنجهية و تجبر و تكبر، نجد
شعراء آخرين ممن صفت نفوسهم من الحقد و التحدي أخصرهم القرآن بما أتى به من
بديع التصوير و جمال البيان و قوة الحجة، فكأنما يقولون لقرائهم و رواتهم :
ليس بعد هذا الكلام كلام.
و لا تريد بمثال القرآن هذا المقارنة بقدر ما نريد إثبات أن قوة الحدث
موجبة أحيانا للصمت عن التعبير عنه. فكأن الكلمات المترجمة له أصغر من أن
تتحمل ثقل المعنى. اسمع الشاعر يقول :
روعة الجرح فوق ما يحمل اللف *** ظ و يقوى عليه إعصار شاعر.
على أن صمت الشعراء الذي نقصده هنا ينقسم قسمين : قسم تجسد فيه الصمت
الحقيقي عن إنتاج النص الشعري، لظرف أو لآخر، و قسم عبر فيه عن الصمت و عجز
القوافي عن احتواء معاني الثورة دون أن يصمت الشاعر حقيقة.
فمن النوع الأول نجد الشاعر القدير المرحوم محمد العيد آل خليفة الذي " لم
ينتظر ديوانه الضخم غير قصيدتين يعود تاريخهما إلى عهد الثورة، و هو الشاعر
الذي كان ينفخ الثورة في الثلاثينيات بقصيدة في كل مطلع شهر " و
القصيدتان هما { مناجاة أسير و أبي بشير } و { أبا المنقوش }، كما
سكت أحمد سحنون الذي كان يتلمس وهج الثورة بأطراف أصابعه. و سكت محمد
الأخضر السائحي فلم يطالعنا بأول دواوينه إلا بعد الاستقلال، و الأمر ينطبق
على آخرين مثل محمد الجريدي و الهادي السنوسي و عمر شكيري و غيرهم.
فلا تعتقد إذن أن سكوت هؤلاء عن الشعر أو عن كثيره راجع إلى جبن أو خوف من
المحتل، فقد ضحى كثير منهم بحياته فداء لوطنه، مثل الأمين العمودي، و عبد
الكريم العقون، و الربيع بوشامة. و آخرون ذاقوا مرارة السجون الاستعمارية
طويلا، كأحمد سحنون، إنما سكوتهم من قبيل الاعتراف بأن الدور لحملة راية
السلاح، و عليهم أن يؤدوا الدور كما يجب.
أما النوع الثاني فيمثله الشاعر مفدي زكريا بدون منازع، فهو من الشعراء
الذين عبروا عن تراجع الكلام، و ضيق الشعر عن التعبير عن عظمة ما يحدث في
الجزائر. غير أنه بقدر ما كان يستخف بالكلمة في مقابل الكفاح المسلح، كان
يبدع لنا القصائد التي لا تقل روعتها عما يحققه المجاهدون في ساحات الوغى.
فمن ديوانه " اللهب المقدس " نجده يقول :
نطق الرصاص فما يباح كلام *** و جرى القصاص فما يتاح ملام
السيف أصدق لهجة من أحرف *** كتبت، فكان بيانـــها الإبهام
و يتلاعب مفدي بالجناس كل تلاعب،كاشفا عن ضرورة ترك الكلمة للسلاح في وجه
المحتل، فيقول :
إن الصحائف للصفائح أمرها *** و الحبر حرب و الكلام كلام
عز المكاتب في الحياة كتائب *** زحفت كأن جنودها الأعلام
خير المحافل في الزمان حجافل *** رفعت على وحداتها الأعلام
ثم ينفض يديه كلية من الحبر و الورق في قوله :
حقوقنا بدم الأحرار نكتبها *** لا الحبر أصبح يعنينا و لا الورق
أما أبو القاسم خمار فيحذو حذو مفدي في هذا المجال، حين يعبر عن ملله
الكلام حتى و إن كان غناء أو تغريدا، و يدعو إلى الصمت الذي يفسح
المجال الزحف أن يؤدي مهامه. يقول في قصيدة الزحف الأصم :
أنا لا أغرد للنضــال *** و لا أغني للرجولـــــة
ملت مسامعنــــا *** و عاف الشعر ترديد البطولة
لمن الهتاف ؟ و أمتي *** لما تزل بيـــن الحمم
الصمت أبلغ في الوغى *** و النصر للزحف الأصـم
و إذا تساءلنا عن سر هذه النزعة إلى الصمت بنوعيه لا نجد أفضل مما عللها به
الدكتور صالح خرفي في قوله : " و ربما استمد بعض الشعراء هذا الموقف
الصامد الصامت من الحقيقة التاريخية التي صدعت بها الثورة، حين قامت حدا
فاصلا بين عهد اللعب و عهد الجد، و طوت في إصرار سياسة الأخذ و الرد، حتى
طغت على الثورة في سنيها الأولى رفض عنيد لكل تلويح بالتفاوض. "
لم نجد شاعرا جزائريا استخدم الفخر بالمبالغة و الإبداع مثل مفدي
زكريا في مختلف قصائده، سواء تعلق الأمر بالجزائر عموما، أو بأبطالها
الشهداء، أو بشعبها المعطاء في ساحات الوغى كما في كرمه و وعيه. و إذا كان
الفخر قد زل بكثير من الشعراء إلى الادعاء و التزييف، فإنه عند بعضهم
الآخر ظل وسيلة مهمة من وسائل الدفاع عن النفس أو الوطن أو الكرامة.
فعمرو بن كلثوم بالغ و ادعى أن الجبابرة تسجد لرضيع قومه في قوله :
إذا بلغ الفطام لنا رضيع *** تخر له الجبابر ساجديــنا
و المتنبي يدعي أن ليس في الكون مثله رفعة و مكانة فيقول :
أنا الذي بين الإله به الـ *** أقدار و المرء حيثما جعله
و يقول :
ما أبعد العيب و النقصان عن شرفي *** أنا الثريا و ذان الشيب و
الهرم
أما مفدي زكريا فحكيم في استخدام المبالغة، إذ يربطها بواقع سياسي و
اجتماعي واضح للعيان. فعندما يقول مثلا :
جزائر يا مطلع المعجزات *** و يا حجة الله في الكائنات
أو قوله :
ما للجزائر ترجف الدنيا لها *** و الكون يقعد حولها و يقام
فإنه لا يتكلم عن ادعاء أو فراغ بقدر ما يعبر عن واقع ثوري يشهد له العدو
قبل الصديق بالقوة و الروعة. أليست المعجزة في أن يواجه شعب محتل ضعيف
الوسائل المادية، بائس الحياة الاجتماعية، محتلا عتيا كالاحتلال الفرنسي و
يحقق الانتصارات التي تنتهي به إلى الاستقلال ؟ ثم أليست الثورة الجزائرية
هي التي لفتت انتباه العالم شرقا و غربا شمالا و جنوبا بأمجادها و عنفها ؟
إن من حق مفدي زكريا أن يقول شامخا :
أنا الذي خلد الجزائر في الدنـ *** ـيا و من لقن ابنها كيف
يبني.
ثم إن للفخر و المبالغة في الشعر وقع خاص في نفس القارئ و السامع، فالشاعر
ينتقي كلماته و معانيه بدقة بحيث تؤثر في النفس بل تهزها. ذلك أن كلمات
الفخر ضخمة، و وقعها في الأذن واضح ملفت للانتباه، كما أنها مصدر للحماسة و
نفخ الشجاعة في نفوس المفنخر بهم، كما تبث الرعب و الخوف، و تحطم معنويات
الآخر المقابل. فكيف يستقبل مستعمر و مستعمر هذه الأبيات :
ُثائر لم يعد رهين جبـــال *** بل حداه إلى العواصم بأس
إنه الظل ليس يخلص منـه *** أينما كان أجنـــبي أخس
شيخ لم تقع عليه عيون النا *** س و الأذن بالخطى لا تحس
هو في مسرح البطولة جـن *** و هو في عالم الحقيقة إنس
لا شك أن صورة الثائر هنا دغدغت شعور المقاومين رضا و بهجة، لكنها أرعبت
العدو و أخلطت حساباته، و جعلت حذره يتحول إلى كابوس مزعج.
و مهما يكن من أمر، فإن عظمة الثورة الجزائرية سواء عبر عنها الشعراء
بالصمت أو بالكلام، محرك من محركات الإبداع عند هم، و مصدر مهم من مصادر
الإلهام. ورغم كل ما قلنا فإن الشعر الذي تناول التورة الجزائرية في
الجزائر كما في العالم العربي كثير لا تحصى قصائده. فقد تعددت أفكاره من
تمجيد للشهداء، و رفض لأساليب المختل الغاصب، و حث للشعب الثائر على الصمود
و المواجهة، و ذم لجرائم الاستعمار ضد الإنسانية و غيرها. و بقدر ما
تشرفت ثورتنا المجيدة بجهود الشعراء، فقد تشرفوا هم كذلك بها، و هذه هي
النتيجة الطبيعية لتلاحم الشعر مع الأحداث الجليلة.