( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 44 هودحسن النسق :
يراد بالنسق أن تكون الكلمات المتتالية ذات تلاحم قوي ومحكم وسليم, بحيث إذا أفردت كل جملة منه قامت بنفسها, واستقل معناها بلفظها عن الأخرى.
إن هذه الآية مثال قوي على تجسيد هذا الفن البلاغي, فجمل الآية الشريفة جاءت مترادفة بواو النسق, بترتيب في غاية الجمال, فالهدف الأسمى هو أن ينطلق أصحاب نوح من السفينة إلى الأرض, وذلك لا يتحقق إلا بانحسار الماء عن الأرض, فلذلك تم توجيه النداء إلى الأرض أولا حيث أُمرت بابتلاع الماء, ثم وجه النداء الثاني إلى السماء بالإقلاع, ثم تلى ذلك مجيء خبر ( غيض المااء ) حيث انحسار الماء, وأعقب ذلك بيان ( وقضي الأمر ) والذي يوحي بهلاك القوم العصاة ونجاة القوم المؤمنين, ثم الإشارة إلى استواء السفينة واستقرارها ليالظلم والطغيان الأمن في أنفس النجاة, ثم اختتام المشهد بالدعاء على العصاة المكابرين.
يوجد تناسق قوي بين هذه الجمل المعطوفة.
لا حظوا أن كل جملة قائمة بذاتها, وبمكن أن تعطي معنى مستقلا منفردة :
" قيل يا أرض ابلعي ماءك"
" يا سماء اقلعي "
" غيض الماء"
" قُضي الأمر "
" استوت على الجودي "
"قيل بعدًا للقوم الظالمين "
فن الإشارة :
يراد بفن الإشارة دلالة اللفظ القليل على معان كثيرة.
في المقطع القرآني {وَغِيضَ ٱلْمَاء } مثال قوي على فن الإشارة, فلقد عبر هذا المقطع عن معان كثيرة, فالماء لا يغيض حتى تكف السماء عن المطر, وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض من ماء.
الإيجاز:
التعبير عن المعنى الكثير بأقل لفظ دون أن يؤدي ذلك إلى فساد المعنى.
( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 44 هودكي نفهم بشكل أعمق جانب الإيجاز في هذه الآية الكريمة, تأملوا معي تركيب الكلم في هذه الآية العظيمة :
استخدم جل جلاله صيغة المبني للمجهول " قيل " " قُضي" " غِيض " وفي هذا إيجاز حذف, حيث حُذف الفاعل, للعلم به.
قال الله تعالى " يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي " ولم يقل " يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ويا سماء أقلعي أقلعت ", فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء,, وفي هذا إيجاز .
تأملوا هذا المقطع مرة أخرى, " يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي " :
لم يذكر سبحانه وتعالى متعلق ( يا سماء اقلعي ) بغية للاختصار والإيجاز, وابتعادا عن حشو الكلام, حيث أن المراد هو ( أن تمسك السماء ماءها ), وذلك يفهم من سياق المقطع السابق ( يا أرض ابلعي ماءك ), فلم تعد حاجة لذكر الماء مرة أخرى.
كذلك قال
" وغيض الماء " ولم يقل " وغيض ماء الطوفان
وقال "
وقضي الأمر " ولم يقل " وقضي أمر نوح وقومه " فاستغنى عن ذلك بحرف التعريف ( أل).
وقال "
واستوت على الجودي " ولم يقل " وسويت على الجودي "
نلاحظ أن هذه الأفعال في هذه الآية قد جاءت بصيغة المبني للمجهول– قِيل, قُضي, غيِض - بينما جاء الفعل الفعل ( استوت ) بصيغة الماضي, وذلك لأن استواء السفينة واستقرارها مقابلٌ للجريان المنسوب إليها في قوله تعالى :
وهي تجري بهم في موجٍ كالجبال ..." – هود : 42وقال سبحانه " وقيل بعدا للقوم .. " ولم يقل " و قيل ليبعد القوم .. " طلباً للتأكيد مع الاختصار
- جاء سبحانه وتعالى بالمصدر " بعدًا" ليعطي نفس دلالة " ليبعدوا بعداً ".
- جاء بحرف اللام – للقوم - للدلالة على استحقاق أولئك العصاة الهلاك وما حل بهم من عقاب.
- جاء بالكلمة ( الظالمين ) دون تقييد بل بشكل مطلق, للدلالة والتأكيد على فظاعة سوء اختيار العصاة من قوم نوح حيث كذبوا نبيهم, وظلموا أنفسهم بإعراضهم عن دعوته.
(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) 44 هودالتسهيم :
المقصود من التسهيم هو دلالة الكلام المتقدم على الكلام المتأخر, أو بالعكس, و نجد ذلك في هذه الآية حيث أن أول الآية يدل على آخرها.
التهذيب:
ويراد منه أن تكون الألفاظ حسنة, وكل لفظة سهلة مخارج الحروف, بعيدة عن الغرابة والتنافر.
إن كل كلمات هذه الآية ذات تهذيب, فهي ألفاظ جميلة و سهلة النطق, وذات معان واضحة, فالسامع لا يشكل عليه شيء في استيعاب المعنى المراد.
ائتلاف اللفظ والمعنى :
قيل أن ألفاظ هذه الآية الشريفة تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها, حيث يوجد انسجام قوي, وائتلاف محكم بين الألفاظ ودلالتها بحيث أنه لا يصلح في موضعها غيرها, وهذا يدل على حسن اختيار الألفاظ المعبرة عن المعنى المطلوب.
قال " يا أرض " ولم يقل " يا أيتها الأرض " قصداً إلى الاختصار واحترازا عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة غير المناسبة للمقام.
اختير لفظ الأرض والسماء - ولم يتم اختيار الألفاظ الأخرى الدالة عليهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء- لكونهما أخف وأكثر استعمالا.
تأملوا اختيار الكلمة ( ابلعي ) بدلا من ( ابتلعي) رعاية للاختصار, وتحقيقا للتناسق اللفظي بينها وبين الكلمة ( اقلعي ).
لم يورد القرآن الكلمة ( غيض ) المشددة بدلا من ( غيض ) رعاية للاختصار.
" وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " 44 هود رد العجز على الصدر :يراد برد العجز على الصدر" أن تتكرر كلمتان متماثلتان : إحداهما في صدر الكلام, والأخرى في عجزه "
تكرر مجيء الكلمة ( قيل ) في بداية الآية وآخرها.
بداية الآية :
" وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي " عجز الآية :
" وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " من الشواهد القرآنية الأخرى حول هذا الفن : " استغفروا ربكم إنه كان غفارا" – نوح : 10 جاءت الكلمة ( استغفروا ) في أول المقطع القرآني, و ( غفارا ) في آخره.
" وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " 44 هود جاء التعبير بالكلمة ( قِيلَ ) على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سبباً لوقوع القول في الجملة.
في المقطع " يا أرض ابلعي " استعارة مكنية, حيث جاءت الكلمة (ابلعي ) للإشارة إلى غور الماء في الأرض.
في المقطع " يا سماء اقلعي " استعارة مكنية, حيث دلت اقلعي على احتباس الماء.
( وترى الناس سكارى وماهم بسكارى و لكن عذاب الله شديد )النص قال لنا أولاً ( وترى الناس سكارى )قالها على نحو المجاز ، دون أن يفجأنا بعد ذلك بأنهم ليسوا بسكارى . فوضعنا أمام الإستعارة
أولاً ، ثم نفاها عنّا ، وقال : بأن المسألة لا استعارة فيها ، و لكن عذاب الله شديد ، ولذلك ترى الناس وكأنهم سكارى .
هنا ينبغي أن نلتفت إلى هذا النحو من أساليب الفن المدهش الممتع ، فإذا كان الهدف من التشبيه أو الإستعارة ونحوها هو : تعميق المعرفة وتوضيحها ، فإن الفارق حينئذ ينتفي بين ما هو حقيقي و ما هو مجازي إذا قدر أن يستخدم نحو من التعبير الذي يحقق الهدف المذكور ، فإذا قال النص : " و ترى الناس سكارى " مكتفياً بذلك فإن السامع سيختلص سريعاً بأن السكر نابع من الهول ، فإذا قال النص : " ماهم بسكارى و لكن عذاب الله شديد " فإن السامع سيتضاعف إحساسه بهذا المعنى ، لا لأن الاستعارة لا تحقق له هذه المضاعفة ،
بل لأنه - أي النص - قد لفت نظره مباشرة إلى أن السكر هو من الهول .