عين زبيدة - نموذج لعبقرية المهندس المسلم - مكة المكرمة.
قال الله عز وجل:
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الانبياء:30)
في المنطقة التي نعيش بها لا تتوفر أنهار جارية ولا مصادر دائمة للمياه ، مما أضطر ساكن هذه المنطقة لإبداع أسلوب مبتكر في نقل المياه عبر قنوات تحت الأرض من أماكن توفرها إلى المناطق الحاجة لها عبر أسلوب تقني مذهل يراعي ظروف البيئة العالية التبخر نتيجة للشمس الحارقة ويمنع تلوث المياه نتيجة نقلها لمسافات طويلة.
وتسمى هذه الأنظمة الفريدة في منطقة الرياض وفي عمان والإمارات العربية المتحدة الأفلاج جمع فلج وهو " عبارة عن قناة ناقلة للمياه محفورة في باطن الأرض أو على سطحها من قبل الإنسان وهذا النظام الناقل للمياه الجوفية يكون مصدره نبع ماء أو بئر يسمى بأم الفلج حيث تنساب المياه منه في الفلج وعادة ما تكون الأفلاج في المناطق الجبلية أو مناطق السهول عند أقدام الجبال حيث يرتفع منسوب المياه الجوفية هناك " ويصل عدد الأفلاج في عُمان الى أكثر من 4000 ، بينما في الإمارات يقدر عددها بـ 150 فلجا لا يزال يعمل منها حاليا 50 فلج يعتمد جريانها على معدلات الأمطار وعلى معدلات السحب من المياه الجوفية.
بينما تسمى " هذه الأنظمة في غرب المملكة بالعيون ، بعض هذه العيون تمد القطاع الحضري بحاجته من المياه كعين زبيدة في المشاعر المقدّسة ومكّة المكرّمة، وكعين الزرقاء في المدينة المنوّرة ، وعيني الوهط والوهيط بالطائف ، والعين العزيزيّة في جدة ، وبعضها الآخر في القطاع الريفي لري المزروعات ، كعيون أودية فاطمة وخليص والكامل والفرع وينبع والعلا وخيبر. " ولقد اندثرت أجّل هذه العيون (إن لم يكن كلها) في الجزء الغربي واختفت أغلب معلم هذه العيون.
بعض أجزاء من عين زبيدة الواقعة بجوار طريق الهدا - مكة المكرمة
ومع الوقت تهدمت العيون التي كانت تسقي مكة المكرمة جراء السيول والأمطار والإهمال ، وأصبح سكان البلد الحرام وزواره يعانون الأمرين ، قلة الماء وارتفاع الأسعار.
حين شعرت السيدة زبيدة زوج الخليفـة الصالح هارون الرشـيد - رحمهما الله - " أثناء حجها بمدى العنت الذي يعانيه الحجّاج والمعتمرون نتيجة شُح المياه، فأمرت - بإجراء عين وادي النعمان - إلى عرفة سنة 174هـ / 791م.
ووفقت لذلك أيما توفيق فوصل الماء زلالاً إلى عرفة ومزدلفة ، وأصبح قريباً من منى، فيما يُعرف ببئر زبيدة، وفي العصر العثماني ، عام 979هـ / 1571م، قيّض الله كريمة السلطان سليمان خان السيِّدة خانم سلطان - رحمهما الله - لإعمار العين، فوجهت المهندسين والفنيين والبنائين وكانوا قرابة (1000) شخص من مختلف الدول الإسلاميّـة لإعماره، فتمّ مد القناة من بئر زبيدة إلى الأبطح، لتلتقي بمياه عين حنين، أمام مبنى إمارة منطقة مكّة المكرّمة، ثمّ إلى المعلاة، ثمّ إلى الحرم، ثمّ يتوزّع الماء في شبكة حجريّة جميلة داخل أحياء مكّة المكرّمة ليصب في ثلاثة وثلاثين بازان، منتشرة في مختلف أحياء مكّة المكرّمة. وظل هذا المشروع يسقي الحاج والمعتمر والمقيم والمجاور لمدة تربو على 1200 عام.
وقيض الله لهذا المشروع العظيم من مد قنواته وأكملها لتتوزع مياهها على أحياء المدينة المقدسة ، تجلي هذه العين مدى عظمة الفكر الهندسي الإسلامي وتشهد له بالإبداع والتفوق كل منشآتها من حيث التصميم والتنفيذ ومراعاة الجوانب التي تحقق الإفادة منها على الوجه الأتم.
هذا مع عدم إغفال الجانب الجمالي ، في ظل رؤية اقتصادية واضحة تأخذ في الاعتبار الحصول على أكبر قدر من النفع بأقل ما يمكن من التكاليف ، مع ضمان ديمومة المشروع واستمرار عطائه ونفعه.
يستمد المشروع مياهه من مسايل أودية وادي نعمان المتاخم لمكة المكرمة، لتنساب عبر قنوات مغطاة بصفائح حجرية ثقيلة إلى عرفات ومزدلفة، ومن ثم إلى البلد الحرام، مندفعة بفعل جاذبية يصنعها الانحدار الطبيعي الذي استثمره فكر المهندس المسلم ليصب في ثلاثة وثلاثين بازاناً موزعة على أحياء مكة بلا تكلفة تذكر، اللهم إلا تكلفة الصيانة وهي بحول الله ميسره،
ولم يغفل هذا الفكر الهندسي الرائع إنشاء خرزات تفتح لهذا الغرض،
كما أعد المهندس المسلم عبارات لمياه السيول أسفل جسم القناة وحوائط ساندة لحماية القنوات المنشأة على سفوح الجبال ضماناً لسلامتها وعدم جرف السيول لأي من أجزائها.
وتنقسم قنوات العين إلى قسمين رئيسين: قسم مجمع للمياه في مناطق المطر والسيول، وقسم آخر ناقل لها إلى الأماكن التي ذكرت مع مراعاة الخصـائص الهندسية المطــلوبة لكل قســم منها في إبداع وإتقان.
يستغل هذا المشروع المبارك المياه المنحدرة من مسايل أودية وادي نعمان - الذي يقع متاخماً لمكّة المكرّمة من جهتها الجنوبيّة الغربيّة - التي تجد طريقها لتستقر في باطن المكامن الجوفيّة حيث تتسرب إلى داخل قنوات حجريّة أو أنفاق صخريّة أو شبه صخريّة تنساب بهدوء وطمأنينة لتصل إلى عـرفات ومزدلفة ومنى فمكّة المكرّمة رقراقة عذبة كالزلال، تسقي الحجيج والمعتمرين والمجاوريـن والمقيمين وقوافلهم ودوابهم، عبر أحواض وبازانات وبرك.
وما فاض عن حاجتهم وجهوه إلى مزارعهم، فاستفادوا منه فيما ينبت طعامهم وطعام دوابهم. تتراوح كميات هذه المياه بين عشرين وثلاثين ألف متر مكعب يومياً. بُنيت هذه القنوات لتمد المشاعر المقدّسة ومكّة المكرّمة بالمياه على مدار الساعة . نعم، قد يقل ماؤها إذا شحّ المطر، وقد يكثر إذا زاد ، فكلما ارتفع منسوب الماء عن منسوب سقف القنوات زاد ضخ العين .
وقد بُنيت قنوات العين عند مناسيب معينة ، بحيث يبقى منسوب الماء أعلى أو مقارباً لمناسيب هذه القنوات ، فلا تستنزف مياه الوادي مطلقاً .
وفي هـذا بـقاء مياه المخزون الجوفي للوادي ، مع تدفق مياه العين في الغالب ليتحقق مبدأ الديمومة، وتـلك نقطـة فنيـة هندسيـة، تُسمى الآن في علم تخطيط وإدارة موارد المياه بالتنميـة المستدامـة.
قنوات العين
وتتكون قنوات العين من جزأين رئيسين، الجزء المُجمِّع للمياه وهو مبنى تحت سطح الأرض ويبدأ من نقطة الأميّة، وهي نقطة تجمّع مياه جميع روافد وادي نعمان العلويّة المعروفة بعذوبته، والتي من أشهرها وادي عرعر، ووادي رهجان، ووادي الشر، ووادي مجاريش، ووادي يعرج، ووادي علق، خلال فتحات تسمح للمياه الجوفيّة بالانسياب إلى داخل القنـوات ونقلها بالإنحـدار الطبيعي إلى أماكـن الاستعمال - تقليلاً للتكلفة - ويبلغ الطول الكلي للقنوات قرابة 26 كيلاً.
الجزء الثاني فهو الجزء الناقل ومهمته نقل المياه فقط، وقد يكون فوق سطح الأرض مباشرة أو مُعلقاً فوق جسور عند اختراق القناة لبطون الأودية، أو تحت سطح الأرض، وهو مبني بالحجارة من الأسفل، أما قواعده وجوانبه فهي مملطة بالنورة لمنع تسرب المياه منه، ومسقوف بحجارة عريضة ثقيلة يصعب نقلها أو إزالتها وذلك للحفاظ على مياه العين من التلوث، وهذا بُعد بيئي مهم حيث يمنع البخر تمام، أو يمنعه إلى أبعد حد، كما حقق هذا الصنيع بعداً صحيّاً بتغطية القنوات حتى لا يسهل فتحها فتكون عرضة للعبث والتلوث - في الغالب - اللهم إلا في أماكن محددة يقوم بفتحها مسؤول إدارة العين عند الحاجة،
صورة تبين مجرى العين ، لاحظ إن الحجر المغطي العين مكسور لذا ظهر مجرى العين
ولم يغفل المهندسون الطابع الجمالي، فبرعوا في تنضيد الحجارة في القنوات المُعلقة، وأقاموا الأقواس على أعمدة حجريّة جميلة مطعمة بحجارة صغيرة غاية في الجمال والدقة، أخذت شكل الفسيفساء الجميلة، بألوان تتنـــاسب مع البيئة الصحراويّة المحيطة ، مما يُعطي منظراً خلاباً ممتع، حدا بعلماء البيــئة إلى ترشـــيحه كمــكان مناسب لعمل متنزه وطـــني. هذه كلها نقاط فنيّة هندســيّة رائعة تدل على رقي علميّ في الدراسة والتصميم والتنفيذ آنذاك.
صورة تبين خرزة ومدى عمقها ، لاحظ فتحات الدرج الذي يتستعمل للنزول لأسفل الخرزة
وقد تسببّ التحول من نظام عين زبيدة إلي نظام الآبار الارتوازيّة، إلى نسيان وإهمال منشآت العين فتهدم معظمه، وأزيل الكثير منها واندثر، حتى كادت أن تكون أثراً بعد عين، كما تسبب تعرض بعض القنوات الحجرية "الدبول" الخاصة بعين زبيدة في بعض أحياء مكة المكرمة، للكسر أو الدفن أو الإزالة، في عدم استمرار تدفق المياه خلال القنوات في هذه الأجزاء المتضررة، وارتفاع منسوب المياه في المناطق المحيطة بدرجة ملحوظة، كما أن بعض القنوات الحجرّية والخرزات أصبحت الآن في وسط الأحياء السكنيّة وأصبح بعضها في وسط الطريق السريع كما أصبح بعض العبّارات تحت الطرق مما يزيد من صعوبة صيانتها وتتبع مساراتها.