الورق .... الذاكرة الثانية للإنسان.
لم يجد الإنسان طوال تاريخه المعروف، سنداً لإثبات إنسانيته مثل الورق، منذ أن كان مجازاً في جلد وحجر وصلصال، إلى أن أصبح حقيقة تستعصي على الزوال،
ظل الورق يؤكد على جدارته بلقب الذاكرة الثانية للإنسان في مقابل مخاوف النسيان وأحلام الخلود. رافق الإنسان والكتابة منذ عهد مبكر، وما زال يلوّن حياة مليارات البشر في العالم، يحفظ لهم تاريخهم، يشكل حاضرهم، ويؤثر على مستقبلهم. مثلما كان رفيقاً للكتابة كأرقى نشاط إنساني، فهو إلى الآن قرين للذهب والفضة كأغلى ممتلكات الناس.
صديق القواميس
تبدو قواميس اللغة كريمة على الورق، تكيل له كل معاني الجلال والبهاء والكمال، كيف لا وهو الذي تكفل باحتضان كلمات القاموس في صدره الذي كان حنوناً وما زال، فالورق هو بهجة الدنيا وزينتها كما يقول المعجم الوسيط لا بل هو الدنيا نفسها، مثلما أن ورق الشباب هو أنضره وورق القوم أحسنهم.
إسعاف لغوي لحياتنا اليومية
ولكي يثبت الورق بطولته في حياتنا، وصداقته الدائمة للمعاجم اللغوية، ما زال يرفد القواميس المعاصرة بآخر وأحدث استخداماته اللغوية الشائعة بين الناس، وفي هذا الخصوص نجده يبتعد عن الورق في ذاته ليتعلق بالأشخاص، فلو كشف أحدهم ورق الآخر فهذا يعني أنه أماط عنه لثام الحقيقة وفضحه أمام الملأ؛ أما من يكشف منا أوراقه عن طيب خاطر فهو يقصد أن يُعْلن عن نياته وأغراضه، بينما يُطلق معجم اللغة العربية المعاصر (الورقة الأخيرة) كتعبير على من أخرج آخر ما عنده، والذي يعيد النظر في خططه فهو الذي (يعيد ترتيب أوراقه)، وإذا شبه أحدهم أمراً بحبر على ورق فهو يقصد الضد من اندلاق الحبر على الورق بأمر غير قابلٍ للتنفيذ، أمرٌ رهينٌ بالأمنيات، مسجون في الورق ولا يستطيع النفاذ إلى الواقع.
ونهب في حياتنا اليومية (ورقة الضغط) لمن كان في موقف أقوى من غيره بما يملكه من إمكانات أو نفوذ أو معلومات، وعندما تتقاصر دراساتنا البحثية عن حجم الكتاب نطلق عليها (ورقة بحث) وعندما نعصف أذهاننا لأمر ما نترجمه إلى (ورقة عمل ولم يسلم الورق من الدلالات السلبية التي جعلت الوصف بالورق ملازماً للضعف وسلب الإيجابية، مثل قولنا: ( نمر من ورق، رجال من ورق، كلام على الورق، …إلخ).
بدايات قديمة مشرقة
يتقاسم المصريون والصينيون الأقدمية في ابتكار وصناعة الورق على مر التاريخ، حيث ينُسب إلى قدماء المصريين أول استخدام للورق في عمر البشرية عن طريق ورق البردي، أما الصينيون فيرجع إليهم الفضل في التصنيع الحديث للورق بشكله القريب من الورق الذي نستخدمه اليوم في حياتنا.
وقد حاز الورق اتفاقاً شبه مؤكد لبداية مسيرته التاريخية منذ أن ظهرت أول أنواعه في الألف الثالث قبل الميلاد حوالي 2700 ق.م . من المؤكد أن الكتابة سبقت ظهور الورق لكن كان لاختراع الورق عظمة لا تدانيها إلا عظمة اكتشاف الإنسان للكتابة نفسها، فبعد أن كان الناس في عصور ما قبل الميلاد يستخدمون الأثقال في الكتابة مثل الحجر والطين والجلود انتقلوا بفضل المصريين القدماء إلى الكتابة في ورقة البردي المصنوع من سيقان وأوراق نبات البردي الذي كان ينمو بكثرة في مستنقعات الدلتا وأصبح فيما بعد أسهل وأرخص وسيلة للكتابة، واحتفظ ورق البردي بانتشار واسع في منطقة البحر الأبيض المتوسط حتى القرن الحادي عشر الميلادي. وما زال تاريخ ورق البردي حتى الآن حاضراً في كثير من اللغات الغربية التي استمدت كلمة ورق paper من كلمة بردي papyrus.
ورق البردي عند المصريين
نقلة كبيرة في الكتابة والورق حققها اكتشاف المصريين للبردي. ومنذ ذلك الحين بدأت تختفي الكتب الحجرية والصلصالية الثقيلة وغير العملية، وبدأت تظهر شرائح البردي الطولية، كانت توضع متعارضة، في طبقتين أو ثلاث، فوق بعضها ثم تبلل بالماء وتضغط. وكان يصنع كصفحات منفصلة، ثم تلصق هذه الصفحات الواحدة في الأخرى؛ وتراوح عرض شرائح البردي من ثلاث أقدامٍ إلى 18 قدماً. ويقول علماء الآثار إن أطول ورقة بردي موجودة هي بردية هاريس ووصل طولها إلى 133 قدمًا وعرضها إلى 16 قدمًا.
استحوذ المصريون على صناعة الورق المصنوع من البردي لفترة طويلة من الزمن، ويؤكد كثيرون أن الفراعنة كانوا يحتكرون إنتاج ورق البردي حتى العصر البطلمي وكانت تصدّره عبر الإسكندرية لبقية العالم. وكان ورق البردي هو السائد بعد دخول الإسلام لمصر، ويقال إن المصانع المصرية كانت تنتج سبعة أصناف من ورق البردي كان أجودها وأغلاها يستخدم في الدواوين حتى أن الخليفة عمر ابن عبد العزيز أمر بالاقتصاد في استعمال الورق بسبب ارتفاع أثمانه.
وكان العرب يطلقون كلمة «قراطيس» على أوراق البردي، وقد وردت القراطيس في القرآن الكريم ومنها الآية التي جاءت في سورة الأنعام ترد على طلب مشركي العرب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم بمعجزة }وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ{- الأنعام أية 7.
وكانت مصانع القراطيس البردية تتمدَّد حول الإسكندرية وشرق الدلتا والفيوم، ثم أصبحت الفسطاط أهم مركز لإنتاج الورق من البردي وكان العرب يشيدون مساكنهم حول مصانع القراطيس، أما آخر ما وجد من ورق البردي فيعود لبدايات الدولة الإخشيدية سنة 323هـ.
ورق الكاغد عند الصينيين والعرب
من بعد المصريين القدماء حمل الصينيون الراية، وبدؤوا يصنعون الورق من لحاء الأشجار والنباتات في القرن الثاني الميلادي، ويعود الفضل في ذلك للصيني تسي آي لون الذي استطاع في العام 105 بعد الميلاد أن يتوصل إلى تصنيع ورق من لحاء الأشجار، ثم تواصل التقدم الصيني في صنع الورق عندما تم التوصل إلى طريقة حشو سطح الورقة بالغراء والجيلاتين للحد من انتشار الحبر وكان ذلك في العام 700 بعد الميلاد، ثم انتشر بعدها تصنيع الورق في كوريا واليابان وانتقل إلى العرب والمسلمين عندما دخلوا سمرقند في العام 93هـ/712م وكان للعرب والمسلمين بعد ذلك فضل تعريف العالم الأوروبي بالورق، وكانت بغداد أول مدينة تحتضن أول مصنع للورق في بلاد العرب في عهد هارون الرشيد، وقد أسس هذا المصنع الفضل بن يحيى في العام 178هـ/794م ثم انتشرت صناعة الورق بعدها في كل أرجاء العالم الإسلامي ودخل أوروبا عن طريق الأندلس.
وبعد أن كثر الورق أمر الخليفة هارون الرشيد، بترك الكتابة في الورق القديم المصنع من الجلد والبردي وغيره والانتقال للكتابة في الورق الصيني الذي أطلقت عليه العرب «الكاغد» حتى صارت المقولة التي يسير بها الركبان: «كواغد سمرقند عطلت قراطيس مصر».