أسرار الماء في القرآن الكريم
1- مقدمة:
خلق الله الإنسان والدواب وجميع الكائنات الحية من الماء، وأخرجه من الأرض، وأنزله من السماء عذبًا فراتًا طهورًا بقدرٍ في دورة طبيعية تحفظ كميته ثابتة كلَّ عام، مع اختلاف تصريفه من بلد إلى بلد.
أساله الله في الأودية بحسبها، يشربه الناس والأنعام، ويُحيي به الأرض بعد موتها، وأجراه في البحار المتجاورة؛ بحيث لا يطغى ماء بحر على ماء بحر آخر، وأوجد بينهما برزخًا وحاجزًا، أنزله الله من السماء وأسكنه في الأرض وَفق سنن مقدرة وسيره على حالات ثلاث في ظروف الأرض الطبيعية؛ سائل، وبخار، وجمد، ويزخرالقرآن الكريم بالإشارات العلمية الكثيرة حول خصائص ووظائف، وطرق إنزال الماء وحفظه، وتأثيره في كافة مخلوقات الله الحية وغير الحية.
وسوف نعرض خصائص الماء في القرآن والعلم الحديث في النقاط التالية:
أولًا: الماء أساس كل شيء حي:
يقول تعالى في محكم التنزيل: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [الأنبياء: 30]، وخلق كل شيء من الماء، وحفظ كل شيء بالماء، ومن الماء خلق الإنسان، وأدق تعريف للماء أنه سائل الحياة، وخلق الماء ليؤدي دوره في الحياة وَفْق سنن تُسيِّره فيما قُدِّر له، فسنن تجعله سُحبًا طائرة، وسنن تجعله قطرات متساقطة، وسنن تحوله أنهارًا جارية وعيونًا متفجرة، وسنن تدفعه في أغصان الشجر وأوراقه، وسنن تجعل الماء وسطًا كيماويًّا صالحا لأداء وظائف حيوية هامة، وسنن تحول الماء جزءًا من الدم الجاري في العروق.
والإنسان يبدأ من دفقة ماء؛ يقول تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴾ [الطارق: 5، 6]، وبعد 3 أيام يحوي الجنين 97 % من وزنه ماء، وعندما يصبح عمره 3 شهور تقل نسبة الماء في جسده إلى 91 % من وزنه ماء، وتصل نسبة الماء في الطفل المولود إلى 80 % من وزنه، وعندما يبلغ عامه الأول تكون نسبة الماء في جسمه 66% كما في البالغين، وتختلف نسبة الماء في كل عضو بحسب وظيفته، فخلايا الدماغ تتكون من 70 % من الماء، وتبلغ هذه النسبة 82 % في الدم، بينما تصل إلى 90 % في الرئتين، وسبحانه عز وجل يقول: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ [الفرقان: 54].
ثانيًا: الماء سائل عجيب: سلوك كثافة الماء:
للماء في كثافته سِرُّ فريد، فهو ينكمش بالبرودة كسائر السوائل الأخرى، وإذا كانت السوائل تزداد كثافتها كلما زادت برودتها، إلا أن الماء يسلك سلوكًا فريدًا عند درجة 4 مئوية؛ حيث يبدأ في التمدد ولا ينكمش كسائر السوائل، وحينما يتجمد عند درجة الصفر المئوي، تكون كثافته قد انخفضت بمقدار 10 % عن كثافته عند 4م، وحينما تقل كثافته يزداد حجمه، ولو لم تكن للماء تلك الخاصية الفريدة، لهبط الثلج الموجود في البحار المتجمدة إلى القاع، ويتراكم حتى السطح، وحينئذ يصبح البحر قطعة واحدة من الثلج، فتتجمد الأسماك وسائر كائنات البحار، ولكن الماء بتقدير من خالقه بتجمد عند السطح، ويظل الماء تحته سائلاً رحمة بكائنات تعيش في الماء.
وتلعب الظاهرة تلك دورًا في تكسير الصخور في المناطق الجليدية، فحينما يتجمد الماء في الشقوق، يزداد حجمه ويولد ضغطًا على الصخر، فيكسره، فينتج من فتاة الصخر تربة تزرع، بل إن تجمد الماء وَفْق تلك الظاهرة تمثل إحدى العلامات تركها الله في الأرض؛ ليقدر بها العلماء درجات الحرارة في أزمنة ماضية، عن طريق قياس نسبة نظيري عنصر الأكسجين في بقايا القواقع والأصداف الموجودة كأحافير في الصخور القديمة؛ حيث تحتوي تلك الأحافير على قدر أعلى من نظير الأكسجين الأخف (أكسجين: 16)، بينما تحتوي جزيئات الماء المتجمد على نسبة أكبر من نظير الأكسجين الثقيل (أكسجين: 18).
ثالثًا: التوتر السطحي للماء:
تشد جزيئات الماء بعضها بعضًا بقوة تسمى قوة المط أو التوتر السطحي (Surface Tension)، تجعل قطرات الماء تتكور عندما تسكب على السطوح، ويترتب على تلك الخاصية ارتفاع الماء في الأنابيب الضيقة، وَفْق ما يعرف بالخاصية الشعرية التي تلعب دورًا هامًّا في صعود العصارات في النباتات، وحركة الماء في تربة الأرض، ولكل سائل شدة توتر سطحي تميزه وتختلف عن السوائل الأخرى، فللماء العذب شد يختلف عن شد الماء المالح الأمر يجعل بينهما برزخًا وحجرًا؛ يقول تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ﴾ [الفرقان: 53]، وسيأتي تفصيل لذلك فيما بعد.
والماء يتكون من جزيئات، وكل جزيء يتكون من ذرة أيدروجين وذرتين من الأكسجين (H2O)، تساهمان في تكوين رابطة قوية، وجزيء الماء قطبي على شكل يشبه قضيب المغناطيس، ويدور حول نفسه بسرعة كبيرة، وفي كوب الماء الواحد عدد من الأقطاب يفوق عدد سكان العالم اليوم، وتعكس قطبية الماء سر قوة تلاصقه، وهذه الخاصية تكسب الماء مقاومة ما للدخول إلى الخلايا والانسياب مع الجِبلَّة (السيتوبلازم).
ويثبت العلم الحديث أن الماء إذا ما عُولج بالطاقة بطريقة مخصوصة تنتظم جزيئاته وترتب أقطابه، ويكتسب مزايا عجيبة ذات فائدة في علاج الأمراض، وتشير الدراسات إلى أن تأثير الماء المُعالج بالطاقة في زيادة نمو الدجاج، وإنتاج البيض ومعدل نمو النبات، ولا عجب في ذلك ففي سُنة نبيِّنا محمد عليه الصلاة والسلام يُعَالج المعيون الذي أصابته العين بالاغتسال بماء استحمام أو وضوء الشخص العائن، ولولا أن هذا الموضوع خارج إطار حديثنا، لرأيت العجب في إعجاز أحاديث العين في السُّنة والعلم في أبحاث العالم الياباني هو شومو موتا ياما.
رابعًا: الماء خرج من الأرض:
يقول تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ [النازعات: 30، 31].
هنا يقرر القرآن أن ماء الأرض خرج من الأرض بقدرة الله، والعلم الحديث يثبت ذلك، فحينما أخذت الأرض في التكوين كانت ساخنة بسبب الحرارة الناتجة من تصادم مكوناتها، وبسبب قوة ثقالتها (جاذبيتها) ونشاطها الإشعاعي، استمرت حرارتها في الازدياد لدرجة صهرت الحديد الذي غاص في باطن الأرض مكونَّا لُبَّ الأرض (Core)، وسادت ثورة البراكين، فأخرجت الأرض كميات هائلة من بخار الماء، وغازات أخرى غطت الأرض فيما يشبه بغلالة أرجوانية أحاطت بما يشبه "بحرًا" من الحمم الحمراء الساخنة، وبعد ذلك أخذت الأرض تبرد رويدًا رويدًا، وتصلبت الأرض ونشأت الجبال على سطحها، وحينئذ سُمح للسحب وبخار الماء بالتكثف وسقطت الأمطار، ونشأت المحيطات، ثم أصبحت مياهها مالحة نتيجة اتحاد الكلورين الموجود في الغازات البركانية بالصودوم الناتج من التجوية الكيميائية لمكونات قشرة الأرض؛ أي: إن مصدر الماء على الأرض أتى من باطنها، وحينما خرج لأول مرة صاعدًا في السماء من المنالظلم والطغيانات البركانية، اصطادته الأرض أمطارًا بعد أن برد سطحها، وتكوَّنت جبالها، فأحدثت توزعات في الضغط أسَهم في إنزال المطر.
ولنتدبر الترتيب المعجز في آيات سورة النازعات: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا *وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا *مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [النازعات: 27 - 33].
ونلحظ توافقًا عجيبًا بين تصريف ماء المطر في قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان: 50]، وبين جملة وردت في تعليق ثومبثون وآخرين في كتاب جيولوجيا الحقل (صفحة 222- شكل 10 –1) يكاد يصل إلى حد اقتباس المؤلفين أو استلهامهم للنص القرآني في جملتهم التي هذا نصها: (Percentages are proportions of total global water in different portions of Earths surface). بالتأكيد لم يكن أمام محمد صلى الله عليه وسلم مصدر أخبره أن إنزال الماء من السماء بقدر سوى الوحي من الله، فلم تكن هناك قياسات ولا تقديرات لكميات الأمطار وكميات البخار على مستوى الكرة الأرضية، بل كانت هناك في ذلك الوقت قارات كاملة لم يعرف الإنسان عنها شيء.
أشهد أنَّ الله حقٌّ، وأن القرآن حق، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي ورسول.
خامسًا: آية إسكان الماء:
يقول تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 74]، ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 18]، ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30].
ويتجلى في الآية الأولى وجهان من الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، الأول يتعلق بقساوة الحجارة، والثاني يتعلق بأساسيات حفظ الماء في الأرض، وتشير الآية الثانية إلى دورة الماء في الطبيعة، أما الآية الثالثة فتشير إلى ظاهرة غور الماء، ونتناول باختصار إلى بعض أساسيات حفظ الماء في الأرض.
أ- قساوة الحجارة: القسوة الصلابة والشدة واليبس، ومن العجيب أن تجد العلم يستخدم نفس المفردات وهو يشرح قساوة الصخر، وتلك الكلمات تمثل عنوان أحد الملاحق في كتاب جيولوجيا الحقل لمؤلفه روبرت كمبتون (Robert Compton)، وهو يصف قساوة الحجارة يستخدم تقريبًا نفس مفردات القرآن من مثل قساوة وصلابة الحجارة:
(Strength "Coherence" and hardness of rocks and sediments)
والآية السابق ذكرها من سورة البقرة تعني أن قلوب بني اسرائيل صارت قاسية بعيدة عن الموعظة، بعدما شاهدوا من الآيات والمعجزات، وقيل: إنما أراد الله أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، وقيل: أيها المخاطبون، لو شاهدتم قسوة قلوب بني إسرائيل، لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة في قسوتها.
ويصف مقياس قساوة الحجارة (Rock Stiffness) حالات ثلاثة للحجارة: حالة المرونة (Elastic State)، وفيها يستجيب الحجر سريعًا للإجهاد المؤثر عليه، ويعود إلى حالته عند زوال القوى المسببة، وحالة اللدونة (plastic Static)، وفيه يتأثر الحجر بالإجهاد المؤثر عليه، ويتغير عن وضعه الأصلي حتى بعد زوال القوى المسببة، والحالة الثالثة يكسر الحجر (Rupture State) من تأثير القوى الفاعلة، وهنا يتجلى روعة النص القرآني في المقارنة بين قسوة القلوب وقسوة الحجر؛ حيث تتباين استجابة القلوب حينما تعرض عليها دعوة الله، كما تتباين استجابة الحجارة لما تتعرض عليه من إجهاد، فهناك قلب مَرِن يستجيب للدعوة سريعًا، وقلب يلين للدعوة بعد فترة، وقلب معاند لا يستجيب للدعوة، ولا رجاء فيه ولو كسر، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في سنده والطبراني في الصغير عن أبي سعيد الخدري: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس، فقلب المنافق عرَف ثم أنكر، وأما القلب المصفح، فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدها الماء الطيِّب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القَيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى، غلبت عليه)؛ أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج /17، والطبراني في الصحيح عن أبى سعيد الخدري.
ب- صفات خزائن المياه: المسامية والنفاذية (شكل:2): من الحجارة ما يحتوي على فراغات تسمى المسام (Pores)، ومنها ما لا يحتوي على فراغات أو مسام، وتسمى غير مسامية أو صماء (non –Porous)، وهنا يتجلى إعجاز علمي في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا ﴾، بمعنى: ليس كل الحجارة، ولكن بعضها؛ لأنه ليست كل الحجارة مسامية، وليست كلها صمَّاء، ولكن بعضها هكذا وبعضها هكذا، والمسامية وهي خاصية وجود فراغات في الصخر، هي العنصر الأول في تخزين الماء تحت الثرى، والنفاذية هي العنصر الثاني، وتعبر عن وجود قنوات أو ممرات كالشقوق، تمر خلالها المياه في خزائن المياه الجوفية، ولو لم توجد بالحجارة مسام أو شقوق، وأي نوع آخر من أنواع الفتحات - ما خُزِّنت مياه، وما احتفظت الحجارة بأهم مصدر للطاقة، يعتمد عليها الإنسان في حياته من نفط وغاز طبيعي، وما أمسكت التربة بالماء، وما نبت فيها كلأ، فالماء الذي يصب على الأرض لا يمكن تخزينه إلا في وجود شقوق، ويقول الحق تبارك وتعالى مُمتنًّا على عباده: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ﴾ [عبس: 24 - 26]، وحينما يسقط المطر على الأرض، يتحرك جزء كبير نسبي منه لأسفل؛ ليسكن تحت الثرى، فيمر بحزام التربة، فيتشرب بالماء، ثم يتركه مخترقًا نطاقًا، تكثر به الشقوق والمسام، يسمى نطاق التهوية أو النطاق غير المتشبع بالماء، ثم يتحرك الماء إلى أسفل؛ ليسكن نطاق التشبع، وهو الذي يكون خزان الماء الجوفي (شكل: 3).
ويحفر الإنسان الآبار في الصحراء القاحلة ذات الأمطار النادرة جدًّا، فيخرج الماء، ويسقي الأنعام، وتُروى الزروع، ولا يسأل الإنسان نفسه: مَن الذي أوجد في الحجر الشقوق أولاً؟ ومَن الذي خزَّن الماء فيها؟ إنه الله.
سادسًا: ماء بقدر (دورة الماء):
يقول تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 18]، ويقول أيضًا: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الفرقان: 50]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ [الزخرف: 11].
ثلاث آيات محكمات، نعرف منها أن الماء نزل من السماء بقدر، وأنه مُصرَّف بين الناس بتقدير العزيز العليم، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ورد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بأن ليس عام بأمطر من عام، ثبت لك وجه رائع من روائع الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في لفظة واحدة "بقدر" التي عبَّرت بوضوح عن دورة عجيبة هي دورة الماء في الطبيعة.
وسأكتفي بذكر أرقام وردت في معرض الحديث عن دورة الماء - (الدورة الهيدرولوجية) - في مرجع علمي اسمه الأرض بين الحاضر والماضي.
قد أصبح من المؤكد أن الماء يدور بانتظام بين البحر والبر والغلاف الجوي، وتلك هي الأرقام بواسطة العلماء:
• الماء النازل من السماء على البحار (Precipitation) = 409 ألف كيلو متر مكعب سنويًّا.
• الماء المتبخر من البحار (Evaporation) = 455 ألف كيلو متر مكعب سنويًّا.
• العجز المائي في البحار = كمية البخر - كمية المطر = 455 -409 = 46 ألف كيلو متر مكعب سنويًّا.
• الماء النازل من السماء على اليابسة = 108 ألف كيلو متر مكعب سنويًّا.
• الماء المتبخر من اليابسة = 62 ألف كيلو متر مكعب سنويًّا.
• الوفر المائي على اليابسة = كمية المطر – كمية البخر = 108 – 62 = 46 ألف كيلو متر مكعب سنويًّا.
وما يحدث هو أن الماء الزائد على اليابسة يصب في البحار؛ حتى تنتظم الدورة المائية، ولربما اختلفت الأرقام من مرجع علمي إلى مرجع علمي آخر، ولكنها تتفق جميعًا على أن مقدار ما يسقط على الأرض من الأمطار كل عام مقدار ثابت، واللفتة الإعجازية الثانية المتعلقة بدورة المياه في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفرقان: 50]، تشير إلى اختلاف النِّسَب باختلاف الأماكن، مع ثبات كمية الماء المصرف، ويزداد الإنسان عجبًا لو علم أن ذلك الماء يمثل بقايا ماء نزل من السماء منذ ملايين السنين، وكل ما عمله الإنسان أنه حفر بئرًا، وحصل على الماء.
هنا يلزم تدبُّر قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 21، 22]. ويحصل سكان شبه جزيرة العرب على الماء من عشرات خزائن الماء التي خزن بها الماء قبل أن يسكن الإنسان الأرض؛ يقول تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13].
سابعًا: غور الماء والمخروط الأعظم:
يقول تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30]، ويقول أيضًا: ﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴾ [الكهف: 41].
الماء في البحار له مستوى يسمى مستوى سطح البحار، ومستوى سطح البحر هو الصفر نتخذه مرجعًا لقياس الارتفاع فوقه أو الانخفاض تحته، والماء الذي يجري في الأنهار والبحيرات له مستوى يختلف من مكان إلى مكان، والماء المخزن في باطن الأرض له أيضًا مستوى مرجعي يسمى مستوى الماء الجوفي، ويختلف ذلك المستوى أيضًا من مكان إلى مكان آخر، وينعم الإنسان باستخدام الماء العذب، طالما أنه يحصل عليه بيُسر وسهولة، فإذا ما غار الماء في النهر أو البحيرة، أو خزان المياه الجوفية، فإنه من الصعب على الإنسان وفي حالات كثيرة يستحيل الحصول عليه.
وغور الماء ظاهرة معروفة ومسجلة عبر الزمن؛ سواء في البحار، أو الأنهار، أو الماء الجوفي، وقد تكرَّر ارتفاع وانخفاض مستوى البحر عبر تاريخ كوكب الأرض، وتوالى طغيان البحر وانحساره عن اليابسة خلال العصور الجيولوجية المختلفة.
وعلى سبيل المثال، فإنه في خلال الأربعين ألف سنة الماضية، انخفض سطح البحر حتى وصل في انخفاض مستواه إلى 140 مترًا عن مستواه الحالي، ولما ينخفض مستوى سطح البحر يغور مستوى سطح الماء في الأنهار التي تصب في البحار، ويغور معه أيضًا مستوى الماء الجوفي نتيجة تسرُّب الماء الجوفي إلى الأنهار التي غار ماؤها.
سلسلة مترابطة من المستويات المتعلقة بعضها ببعض، ومن رحمة الله بخلقه أنه يخزن المياه في جوف الأرض بكمية تبلغ أكثر من ثلاثين ضعف مياه أنهار وبحيرات العالم مجتمعة، وتعكس نسب توزيع الماء في الأرض حكمة إلهية بالغة.
توزيع الماء في الأرض | % |
المحيط | 97.2 |
الثلاجات والجَمَد | 2.15 |
الماء الجوفي | 0.61 |
البحيرات العذبة | 0.009 |
البحيرات المالحة | 0.008 |
رطوبة التربة | 0.005 |
الغلاف الجوي | 0.001 |
الأنهار | 0.000
|
ومن المفارقات أن يخزن الله الماء في خزائن عديدة وأزمنة مديدة لأقوام يشربون منها ولا يشكرون! والماء الجوفي نعمة كبرى؛ نظرًا لوفرته وطول فترة تخزينها؛ نظرًا لبطء حركتها، فيستفاد منها في فترات الجفاف، إضافة إلى أنها في بعض المناطق قد يأتي مصدرها من مناطق رطبة بعيدة؛ لتسري إلى مناطق صحراوية قاحلة، ومن بديع صنع الله أن مستوى المياه الجوفية يتبع تضاريس سطح الأرض، يعلو مع المرتفعات وينخفض مع المناطق المنخفضة، فيستفيد منه ساكنو الجبال كما يستفيد منه ساكنو السهول والصحاري.
ثامنًا: الغور الأكبر (The Big Hole):
ويغور الماء بفعل الإنسان في حالة السحب الجائر للمياه بمعدل أكبر وأسرع من تغذية المياه الجوفية، بمعنى أن السحب يكون على المكشوف، فمن يعوض الرصيد من يأتي بالماء إن أصبح غورًا؟ الجواب الذي لا جواب سواه … الله؛ يقول تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30].
وتلك هي باختصار وصف ظاهرة في أمريكا يسمونها الغور الأكبر (Big Hole)، ويطلقون عليها أيضًا مخروط سحب الماء الأعظم (The great depression in Ground Water). فقد غار الماء غورا شديدًا في شمال الليونيز (Illinois)، ففي منطقة مترو شيكاغو؛ حيث انخفض مستوى الماء الجوفي من 250 مترًا فوق مستوى سطح البحر إلى 30 مترًا تحت مستوى سطح البحر، وتَكون مخروط سحب (قمته لأسفل كالقمع) عملاق، وفي خلال السنوات العشر الأخيرة فقط، انخفض المستوى 30 مترًا بمعنى آخر انخفض سطح الماء في جوف الأرض 280 مترًا؛ أي: إن أنبوب البئر القديم يلزم أن يزداد في عمقه قرابة 300 مترًا، ويعد هذا الانخفاض في مستوى سطح الماء الجوفي أمرًا مدهشًا؛ لأنه يحدث في منطقة رطبة مطيرة تغذي الخزان سنويًّا، وليس في منطقة جافة، ويعتقد العلماء الأمريكيون أن التوازن المائي المفقود حاليًّا ربما يتوقف حتى في حالة الامتناع عن سحب الماء من جوف الأرض في تلك المنطقة، فهل يستطيع القوم أن يسحبوا الماء باستخدام وسائل التكنولولجيا المتقدمة التي يمتلكونها؟ لا يستطيعون لأنهم إن فعلوها هبطت الأرض من تحت أقدامهم، فمن يأتيهم بماء معين؟ فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وحبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يفسر قوله تعالى: ﴿ بِمَاء مَّعِينٍ ﴾، بأن المعنى فمن يأتيكم بماء عذب، وفي قوله هذا إشارة إلى أن غور الماء يقلل أو يذهب عذوبة الماء المعين، يقال: ماء معين، وهذا علم سبق علماء اليوم، فالغور السريع للماء يقلل الزمن اللازم لتنقية الماء فلا يرشح جيدًا، كما أن الغور الشديد للماء قد يغير اتجاه سريان الماء، فيذهب إلى منطقة أخرى، ويؤدي أيضًا غور الماء، خاصة في المناطق الساحلية، إلى تداخل الماء المالح مع الماء العذب، فيصير الآخر أجاجًا.
د. حسني حمدان الدسوقي حمامة