من القائل : إن الله يمهل ولا يهمل ؟
الحمد لله العزيز الوهاب، القاهر القابض الغلاب، يمهل الظالم ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، أحمده تعالى وأشكره على سوابغ نعمه، وأسأله أن يدفع عنا أسباب سخطه ونقمه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى يمهل الظالم إلى وقت عذابه لكنه لا يهمله؛ ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(هود:102)، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}(الحج:48).
قد يغتر الظالم بظلمه سنوات، يظلم عباد الله، والله يمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له، يتمادى الظالم في غيه وجبروته، وينسى أن الله يمهل ولا يهمل، ينسى كيف انتهى الجبابرة الطغاة الظالمون؟ وكيف انتهى الأكاسرة والقياصرة والفراعنة؟
فأين من دوخوا الدنيا بسطـوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان
أين الجبـابرة الطاغون ويحهمـوا وأين من غــرَّهم لهو وسلطان
هل خلَّد الموت ذا عـز لعــزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان مـن عدم الكل يفنى فـلا إنس ولا جان
فمن يستطيع أن يفلت من قبضة الله جل وعلا إن أخذه؟
إن الظلم مرتعه وخيم، ودعاء المظلومين مستجاب ولو بعد حين جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري (1425) ومسلم (19)
لا تظلمن إذا ما كنت مقتــدراً فالظلم مرتعه يفضي إلى الندمِ
تنام عينك والمظلــــوم منتبه يدعـو عليك وعين الله لم تنمِ
والله يمهل الظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه لم يفلته: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}(الفجر:14) قال ابن عباس رضي الله عنه: "يسمع ويرى يعني يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والأخرى، وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور"2، فلا يعذب أحداً بغير ذنب: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الجاثية:22)، {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}(العنكبوت:40)، {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً}(نوح:25) أي بسبب ذنوبهم أغرقوا.
ومن حكمة الله عز وجل أن جعل العقوبات التي أصابت الأمم المعذَّبة تفاوتت بتفاوت جرائمهم وعصيانهم لله عز وجل يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم وجرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك، والرجم بالحجارة من السماء، وطمس الأبصار، وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال ... ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً، وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد، وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن، واستهان بحرمات الله؛ علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون.
وقال ابن سعدي رحمه الله: "{فَكُلاً} من هؤلاء الأمم المكذبة: {أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} على قدره، وبعقوبة مناسبة له، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} أي عذابا يحصبهم كقوم عاد حين أرسل اللّه عليهم الريح العقيم، و{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}(الحاقة:7)، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} كقوم صالح، {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ} كقارون، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} كفرعون وهامان وجنودهما، {وَمَا كَانَ اللَّهُ} أي ما ينبغي ولا يليق به تعالى أن يظلمهم لكمال عدله، وغناه التام عن جميع الخلق {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} منعوها حقها التي هي بصدده، فإنها مخلوقة لعبادة اللّه وحده، فهؤلاء وضعوها في غير موضعها، وأشغلوها بالشهوات والمعاصي، فضروها غاية الضرر من حيث ظنوا أنهم ينفعونها.
ولكن من لطف الله بعبده الظالم أن يمهله لعله يتوب؛ ويؤخره لعله يقلع، فإذا ما تمادى في ظلمه فربما أخَّره ليزداد في الأثم؛ ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ لأنه قد استحق العقوبة يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر وأرباب المناصب أنهم يشربون الخمور، ويفسقون، ويظلمون، ويفعلون أشياء توجب الحدود، فبقيت أتفكر أقول: متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً؟ فلو ثبت فمن يقيمه؟ وأستبعد هذا في العادة؛ لأنهم في مقام احترام لأجل مناصبهم، فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم؛ حتى رأيناهم قد نكبوا، وأخذوا مرات، ومرَّت عليهم العجائب، فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم، وأخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل، والقيد الثقيل، والذل العظيم، وفيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة، فعلمت أنه ما يهمل شيء، فالحذر الحذر، فإن العقوبة بالمرصاد.
فالحذر الحذر من الظلم، ولنتب إلى الله تعالى ونعود إليه، والله نسأل أن يتوب علينا، وألا يؤاخذنا بسوء فعالنا، ولا بما فعله السفهاء منا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.