بيروت: كارولين عاكوم في منطقة الأشرفية البيروتية الراقية والهادئة يرقد ذلك البيت التراثي بجدرانه الصخرية المنتصبة في وجه المباني الشاهقة التي تتضاعف أعدادها يوما بعد يوم في مناطق العاصمة وأحيائها. في هذه المنطقة التي كانت ساحة شاهدة على المعارك اللبنانية وخطوط تماس حروبها الأهلية، لا يزال مقهى ومطعم «Time out» بهندسته التراثية التي تعود إلى القرن الثالث عشر يستقطب روّاد هذا العصر. فهذا المكان الذي تملكه عائلة «تابت» اللبنانية كان من أول المطاعم التي افتتحت أبوابها في المنطقة للمرة الأولى في عام 1976، بعدما أصيب بأضرار جسيمة جراء الحرب اللبنانية. في ذلك العام، قرر أصحابه أن يكون ترميمه وتحويله إلى مطعم مرتكزا على أساس خطة تحافظ على هندسته الداخلية والخارجية القديمة من دون تعديل يذكر أو يؤثر على طابعه الخاص. وهذا ما يشير إليه صاحبه ومديره جاك تابت في حديث لـ«الشرق الأوسط»، بقوله: «إن طابع المكان القديم وهندسته وأجواءه جعلت منه مطعما يتميز عن غيره، في ظل فورة المطاعم الحديثة».
وكما كانت الحرب سببا في وجوده، كانت أيضا سببا في توقفه عن العمل في عام 1986 لمدة ست سنوات قبل أن يعود ويرمم مرة جديدة لينطلق في العام 1993. وهنا أيضا حرص أصحابه على صورته الأصلية وأجوائه التراثية المميزة. الجالس في أروقة «Time out» والمتنقل بين غرفه يشعر بما يقوله تابت عن خصوصية هذا المكان، فهو مؤلف من طابقين لكل منهما طابعه الخاص، وإن جمعتهما روح التراث المشتركة؛ ففي الطابق الأرضي يواجه الزائر بابه الحديدي الأرجواني، الذي يعود إلى مئات السنين، عندما كان إسطبلا للأحصنة، وبيتا للعائلة في الوقت ذاته، وهو الأمر الذي لا تزال القناطر الصخرية شاهدة عليه، إذ إنها هي التي تشكل جدران ما كان يسمى بـ«القبو»، أو تلك الغرفة التي كانت تبنى في الطابق السفلي من البيت بمساحة صغيرة، وتستعمل كغرفة جلوس للعائلة في فصل الشتاء.
وكي تكتمل صورة الهندسة الداخلية مع الهندسة المعمارية حرص تابت على الاستعانة بكل ما من شأنه أن يجعل هذا المكان مختلفا عن الخارج المحيط به، من المقاعد الخشبية القديمة إلى الستائر واللوحات والرسوم الكاريكاتيرية القديمة التي تزين الجدران، إضافة إلى الإضاءة الخافتة المنالظلم والطغيانة من الثريات ذات الطراز القديم المتدلية من السقف.
أما الطابق العلوي الذي يعتبر أكثر حداثة بالمقارنة، فقد شيده أجداد تابت منذ نحو 270 سنة، واستخدموه كفندق صغير لاستقبال أصدقائهم التجار الأجانب والعرب الذين كانوا يمرون من لبنان عبر المرفأ للانتقال بعدها إلى البلدان المجاورة. هنا، وعلى الرغم من اتساع الطابق وغرفه المنفتحة على بعضها، فإن كل واحدة تتميز بخصوصيتها وانفصالها عن الأخرى، فهي تتوزع على ما يشبه الأربع غرف؛ لكل منها جلستها الخاصة.
في واحدة تلون النوافذ الخشبية الكبيرة التي تصل إلى أسفل الحائط بستائرها الزهرية، المكان إلى جانب طاولة الطعام الخشبية بطرازها القديم التي انفردت بإحدى الزوايا لتشكل جلسة خاصة بحد ذاتها. وفي غرفة ثانية، تمتد مرآة على طول أحد الجدران بزخرفتها المميزة إلى جانب تحف أخرى تزين زوايا الغرف الأخرى، من القنديل القديم إلى الساعة الكبيرة وسلال القشّ الموزّعة على الأرض، أما الطاولات فهي عبارة عن صناديق خشبية كانت تستعمل قديما إما لنقل جهاز العروس أو لتخزين الأسلحة، لكن هنا في «Time out» ارتأى تابت أن يجعل وظيفتها جمالية، مستعيضا بها عن الطاولات الخشبية ذات الحجم الكبير، لا سيما أن ارتفاعها يتناسب مع المقاعد المستخدمة، التي بدورها تتميز بجلستها المريحة وارتفاعها المتوسط.
ولأن موقع «Time out» هو في منطقة الشرفية التي اكتسبت اسمها من طبيعة تكوينها الجيولوجي لوجودها على الهضبة العالية التي تقع إلى الشرق من العاصمة، كما أنها كانت تعرف منذ القدم بأنها عبارة عن مزرعة في ضواحي بيروت ينتشر فيها أشجار التوت والفاكهة والزيتون والليمون، ولا تزال الحديقة المجاورة للطابق العلوي بمزروعاتها المنتشرة والمتدلية من كل الجهات تشهد على هذا التاريخ الأخضر، وتستقبل روادها في معظم أيام السنة باستثناء الشتوية منها، وتقدم لهم فرصة الجلوس وتمضية أوقات ممتعة لا تختلف عن تلك الأجواء الجبلية بهوائها العليل.