ماذا لو كان لديك هذا الزر الذي عندما تضغطه تفقد ما تريد من ذكريات؟! ماذا كنت ستفعل حينها.. هل ستمحو كل الذكريات التى آلمتك. هل كنت ستفعل...؟
إذن، فكر لدقائق. وحاول الإجابة ثانية.
كلنا مررنا بتجارب مؤلمة. وتجارب فاشلة. وتجارب قاسية. كلنا مررنا بأيام لا زلنا نجرجر ذيولها وتؤرقنا وتغير أمزجتنا وتقلبها إلى نمط سوداوي. تشعرنا بالتعاسة بالإحباط. إلخ، ولكن هل الحل هو المحو؟
في فيلم رائع للنجم جيم كاري والنجمة كيت وينسلت كان اسمه (Eternal Sunshine Of The Spotless Mind) وكان بطل الفيلم وبطلته قد مرا بتجربة عاطفية انتهت بخلاف نشب بينهما.. فقامت بطلة الفيلم بالذهاب إلى عيادة تقوم بمحو الجزء من الذاكرة الذي يريد العميل أن يمحوه.. وعندما علم زوجها بذلك (يلعب الدور الممثل جيم كاري) يذهب هو أيضا إلى الطبيب ليمحو من ذاكرته الجزء نفسه المتعلق بعلاقتهما منذ بدايتها.. وفي أثناء عملية المحو تمر الذكريات على عقل جيم كاري والمواقف الجميلة والرائعة التى مرا بها سوياً، فيرغب أن يتوقف الطبيب عن محو هذه الذكريات.. ولكن الطبيب كان قد أكمل عمله ومحا كل ذكرياته..
الجميل في هذا الفيلم ـ الذي يعرض فكرة تشغلنا وهي محو الأجزاء التى نريدها من ذاكرتنا والذكريات المؤلمة والتجارب الفاشلة ـ هو أن المؤلف جعل البطلين يلتقيان من جديد ويتعارفا من البدهلاية ويقعان في قصة حب مرة أخرى..
وكما شعر بطل الفيلم بالندم على محو الذكريات كذلك شعرت البطلة.. في البداية تقبلت ذلك وقالت: ما دامت امحت فهي لم تكن ذكريات عزيزة إذن.. لكنها بعد ذلك تشعر بالندم!!
أحيانا تكون لدينا رغبة في محو كل ما مر بنا نتيجة شعورنا بالألم.. ولأننا نفكر في النتيجة التي وصلنا إليها.. والتي من الممكن أن لا تكون نتيجة نهائية.. إلا أننا أوقفنا عقلنا عندها.. ونسينا أجمل أيام عمرنا التي مررنا بها.
وأحياناً نتيجة تعظيم الألم تزداد الرغبة في محو تلك الذكريات.. بطلة الفيلم هنا نتيجة الشجار الذي وقع بينهما قررت إجراء عملية المحو.. وأيضاً تحت إلحاح الغيظ والكبرياء والرد بمنطق يفكر الزوج (إذا استطعت فعل ذلك فأنا أيضاً سأفعل ذلك وأمحو ذكرياتك)، ويتهور الزوج (جيمم كاري) ويخضع للعملية ويمحو ذكريات زوجته..
لكن في وقت ما وفي منطقة ما وعندما تبدأ حالة الغضب بالتلاشي تكتشف أنك قد عشت أياماً جميلة حتى لو كانت نهايتها عكس ذلك.. كنت تفكر في النجاح وتشعر بالسرور طوال الطريق، وتقابل أناساً في غاية الجمال يؤثرون فيك.. ولكن للأسف لم تحظ بالنجاح أو الوظيفة أو الهدف الذي كنت تفكر فيه.. ولأنك حكمت على آخر جزء من الرحلة وسحبت الحكم على الرحلة كلها.. هذا لا ينفي أنك قابلت أناساً في منتهى الجمال،.. وأنك استمتعت وضحكت من كل قلبك.. ومع هذا قمت بأعمال مجنونة.. إلخ.
الجميل في الفيلم أنه يعطينا فرصة للتفكير.. هل تريد أن تمحو كل ما مررت به والذي كانت له نهاية مؤلمة أم لا! ولو كنت تريدى حقاً أن تمحو كل هذا.. فإنك ستمحو أيضاً الأوقات السعيدة التي عشتها.. سوف تمحو الدروس التي تعلمتها طوال رحلة الألم.. ستمحو كل الذي ترتب على هذا الألم..
فكر ما الذي ينبغي أن تقوم به مع مثل هذه الذكريات!! عندما تريد أن تنسى أشياء أو مواقف أو خبرات مرت بك.. أو حتى ذكريات مؤلمة يكون أمامك خياران:
الأول هو أن تعاني من هذه المواقف والذكريات المؤلمة وتحاول نكرانها ورفضها.. وبالطبع لن تنتهي، وسوف تظل فيما يسمى في علم النفس بالصراع.. وهو المعاناة والحيرة بين اختيارين قد يكون أحلاهما سيء.. وهو أن ترفض هذه الذكريات.. هذا هو الخيار الأول في الصراع، ومع هذا فهي لن ترفض ولن تدفن..
والخيار الثاني في الصراع هو أن تتركها موجودة وتبقى تعاني من تبعاتها كلما تذكرتها..
وهناك خيار آخر يكون ناتجاً عن الصراع يتصرف فيه العقل اللاوعي بدلاً منك ويتخذ قراراً بفقدان الذاكرة إما بشكل جزئي لهذه المواقف فلا تتذكر عنها شيئاً ـ ويحدث هذا في الذكريات المؤلمة التى ترتبط بموقف صادم أو بموقف عنيف أو حالة انفعالية زائدة،.. أو يحدث فقدان للذاكرة بشكل كلي ومؤقت فيما يسمى بالشرود الإنشقاقي وفيه تنسى كل شيء عن هويتك الأصلية وتظل لفترة هائماً وقد تصنع حاضراً جديداً ثم تعاود تذكر الماضي بما فيه.. فتدخل في متاهات..
ولعلك قد شاهدت فيلم العذاب امرأة للنجم محمود ياسين حينما يمر بصدمة انفعالية مع زوجته التى تقوم بدورها الممثلة نيللي.. حينما تشككه في أبوته لطفله.. فيحاول ايجاد أدوار اخرى في الحياة من البداية إلى أن يتعرف على هويته الأصلية.. وهذا يختلف عن ازدواج الشخصية الذي يوجد فقط في التراث النظري ونادراً ما يوجد في الواقع..
على كل هذه الخيارات التى تكون أمامنا عندما نحاول رفض أو كبت أو دفن هذه الذكريات غير المرغوبة والماضي المرير الذي لا نرضى عنه.. وقد يعانى البعض من أرق وصداع نصفي من جراء هذا الرفض..
والغريب أنك طوال الوقت تحاول أن تضحك على نفسك وتقول إنك بخير.. أنت في أحسن حال.. مسحت الماضي ونسيته.. ولكن جسدك في الحقيقة يرفض كذلك بالأرق والصداع وعدم الشعور بالراحة.. وبأشكال كثيرة.. تماما كبطل الفيلم الذي تحدثنا عنه..
إذن ما الحل!!
الحل أن الماضي قد حدث بما فيه من أخطاء.. من آلام.. من واقع قد يكون سوداوياً.. قد تكون شريكاً في هذا الماضي.. وقد تكون ضحية.. وقد تكون الجاني..
وفي كل هذه الأحوال يجب أن تتعلم مما مضى وتسعة نحو التغيير.. ولكن هذا الأخير ليس إلا مجرد خطوة تأتي بعد الإعتراف.. يجب أن تعترف أن هذا ماض قد مضى.. ثم تقبل هذا الماضي بأخطائه..
نحن لا نصمم موقفا الكترونيا فنصنع فيه الكمال المنشود.. نحن نعيش حياة تتداخل فيها إرادتنا مع إرادة الآخرين.. مع إرادة الخالق جل وعلا.. وبالتالي لسنا متحكمين في كل النتائج بالشكل الكامل.. ويجب أن نقبل ذلك.. قد تختلف في ذلك ولكن في النهاية هناك قوى تفوق قدراتك.. وبالتالى الحل لهذا الماضي هو القبول.. أن تقبله.. وأن تقبل أن فكرة اجتراره ورفضه لن تجدي نفعاً.. وطوال الوقت سوف يظهر لك الماضي الذي تحاول قتله أو وأده من ذاكرتك ليقول لك: أنا موجود.
إذن، عش في الماضي. ضع في وعيك. ضعه أمام عينيك. دعه يتأبط ذراعك وامش معه.. وأثناءها أخبره أنك تعلمت منه الكثير وأنك شاكر لوجوده. ولا تظل منكراً لوجوده فتعاني تحديداً كما يعاني من يريد أن يغلق الباب على أصبعه فيظل يتألم ولا يغلق الباب. هكذا الماضي هو جزء منك. جزء من وقتك. من حياتك.
كيف تريد أن تمحوه. أن تمحو حياتك. حتى إن كان فيه أشخاص أضروك أو أساءوا إليك. أو آلموك. في النهاية أنت أيضاً كنت في هذا الماضي. وفيه جزء منك. هل تحاول بتر ذراعك حينما يظهر فيه (دمل) أو تصاب بحساسية ما!!
لذلك أنا معك قررت أن اقبل الماضي بكل سيئاته وحسناته. بكل شروره وخيراته. بكل آلامه وسعادته. بكل ما فيه من أشخاص مرغوبين ومرفوضين. بدلا من الصراع غير المنتهى. ومع من! مع جزء مني..