حمص .. أعرق مدن الشام في صك النقود.
ترتبط عملية صك النقود بمجموعة من الدلالات الفنية والاقتصادية والسياسة التي تبرز حال الدولة التي اصدرتها .وتختلف نظرة علماء الاقتصاد عن مثيلتها من علماء التاريخ حول هذه العملية فالاقتصاديون يرون أن قطع العملة الذهبية والفضية والنحاسية ماهي الا معايير مجردة للحفاظ على التبادلات التجارية المحلية والعالمية وبالنسبة للمؤرخين فإن أهمية النقود تستخلص من طبيعتها الرسمية لكونها تصك تحت حكم الدولة القوية و تعرض دلالات بارزة لقوة هذه الدولة وسلطتها ونفوذ حكامها.حمص .. أعرق مدن الشام في صك النقود
وأوضح الباحث والمؤرخ الحمصي فيصل شيخاني أن المصادر التاريخية تشير الى أن صك العملة بحمص يرجع الى القرن الأول قبل الميلاد على الارجح لكن المؤكد أن حمص كانت أول المدن التي صكت فيها النقود الإسلامية نظراً لأهميتها في تلك الفترة ومن المعروف بأنه لم يكن للعرب نقود خاصة بهم قبل الدعوة إلى الإسلام ولكن بعد الفتح الاسلامي وانحسار الدولة البيزنطية إلى شمال سورية وزوال الدولة الفارسية أصبح لا بد لهذه الدولة العربية الناشئة من نقود تميزها وتظهر هويتها.
وقال المهندس المعماري نهاد سمعان المهتم بمجال صك العملات القديمة حسب وكالة الأنباء سانا: "إن قصة المصكوكات في حمص تعود إلى نهاية الدولة السلوقية في القرن الأول قبل الميلاد عندما تمكن حكام حمص في تلك الفترة من ممارسة حكمهم بشكل شبه مستقل نتيجة لضعف الدولة المركزية فضربت في حمص نقود فضية تحمل صور الملك السلوقي ولكن مع الأسف لم يكتب عليها مكان ضربها"
وأضاف سمعان أن حكام المدينة المحليين استطاعوا أن يحتفظوا بحكمهم الذاتي حتى بعد دخول الرومان إلى بلاد الشام واستطاعوا بحنكتهم السياسية أن يحيدوا مدينتهم عن الصراعات الكبرى الدائرة في المنطقة ما زاد في ازدهار المدينة عمرانياً واجتماعياً واقتصادياً وأصبح معبدها معبد اله الجبل الذي يحتوي الحجر الأسود المقدس من المعابد المعظمة في الامبراطورية الرومانية ومنح حق الحماية واللجوء والاستقلال المالي .
ونظراً للأهمية الكبرى التي تمتعت بها حمص ضرب الأمبراطور الروماني أنطونينوس بيوس الذي حكم روما بين عامي138 و 161 م نقوداً ظهر عليها الحجر الحمصي المقدس يحمله نسر وكتب حوله ايمشيون ومعناها الحمصيون ثم ضرب نقداً آخر يحمل رسمه على الوجه وعلى الخلف رسم تخيلي لإله الشمس الحمصي وحول الرأس كلمة الحمصيون باللغة اللاتينية .
وبين سمعان أنه عندما استولى الحمصيون على مقاليد الحكم في روما بفضل حنكة ابنة حمص جوليا ميسا وبعيد جلوس إيلاغابال الحمصي على عرش الامبراطورية الرومانية أصدر الامبراطور الجديد نقوداً تذكارية خلد فيها ذكرى نقله للحجر الأسود الحمصي من حمص إلى روما حيث فرض عبادته على الناس هناك.
وعندما ضعفت الدولة الرومانية قامت دار ضرب العملات في حمص بضرب نقود من أروع ما أنتجته دور الضرب في بلاد الشام فبقيت المدينة لامعة في ظل الدولة البيزنطية وقيل انها وصلت الى أكبر توسع لها في تلك الفترة فكانت المدينة الثانية في سورية بعد انطاكيا وعندما جاء الفتح الإسلامي حافظ معاوية بن أبي سفيان على التقسيم الإداري البيزنطي فكانت حمص إحدى أجناد سورية الأربعة وأكبرها من حيث المساحة وعدد السكان فقد ضم جند حمص كلا من حلب وقنسرين شمالاً وبلغ شرقاً نهر الفرات وغرباً جميع المدن الساحلية حتى حدود فلسطين.
وبين سمعان أن عمليات تعريب النقود بدأت فعليا في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب حيث أضاف عام 17 هـ 638 م اسمه على فلس نحاسي يحمل صورة الملكين هرقل وقسطنطين الثاني فكان أول فلس في التاريخ يحمل حرفاً عربياً وفي عام 18 هـ أضاف عبارتي بسم الله وجيدعلى الدرهم الفارسي الذي يحمل رسم يزدجرد وأصبح هذا الدرهم أيضاً أول درهم يحمل حروفا عربية في التاريخ و لكن البحث لم ينته إلى معرفة مكان صك كل من هاتين الصكتين .
وذكر سمعان ان الفلس العربي الأول الذي يحمل اسم حمص ضرب في عام 30 هـ وكتب اسم حمص عليه باليونانية وكان الجديد فيه أنه يحمل عبارة بسم الله على يمين الأمبراطور هرقل وبعد فترة وجيزة ضرب في حمص التطوير الثاني للفلوس المعربة فظهر اسم حمص بالعربية على الوجه واسمها باليونانية على الخلف مع بقاء صورة الامبراطور كونستانس ببزته العسكرية وعلى رأسه صليب ويحمل بيده عصا الرعاية .
كما ضربت في حمص نقود جميلة في تلك الفترة منها ما تحمل صور إيلا غابال أو جوليا دومنا أوكاراكالا أوالكسندر سيفيروس وغيرهم ومنها قطع كشفت النقاب عن صورة الأمبراطور الحمصي الغامض أورانيوس الذي غفلت كتب التاريخ عن تخليد ذكراه فأظهرت النقود صورته للعالم بعد ألف وسبعمئة عام من حكمه.
الامبراطور الحمصي "أيلاغابال" ذو الأربع عشر ربيعاً
رسم "نسر" يقف على الحجر الحمصي المقدس وكتب حوله "الحمصيون"
أما المرحلة ما قبل الأخيرة في مسيرة التعريب فكانت في بداية تولي عبد الملك بن مروان فقد ظهرت صورته حاملاً سيفه على وجه الفلس وكتب حوله بسم الله عبد الملك أمير المؤمنين وعلى الخلف لا إله إلا الله وحده محمد رسول الله .
وبعد استكمال عملية التعريب ضربت دار الصكة بحمص عدداً كبيراً من الفلوس النحاسية الجميلة زين بعضها برسوم حيوانية مثل الفيل أو بدون صور.
واستمرت حمص في ضرب النقود في بداية الفترة العباسية لكن ولأسباب كثيرة بدأت قوة حمص الاقتصادية بالضعف والانحسار كأغلب مدن بلاد الشام في تلك الفترة و مع بداية الفترة الأيوبية عادت بوادر الازدهار الاقتصادي والنمو السكاني والعمراني إلى المنطقة وفي هذه المرة إلى مدينة حماه حيث ظهرت النقود الأيوبية وبعدها النقود المملوكية ممهورة باسم حماة زين بعضها برسوم النواعير بينما لم يعد لحمص ذكر في الحياة الاقتصادية المنطقة في تلك الفترة.