إصرار إمـرأة نعيمة الأيوبي.. أول مصرية ترتدي روب المحامـــاة.
منذ فترة طويلة ترجع إلى أكثر من 100 عام، ثارت قضية إلحاق فتيات مصريات بالجامعة التي كانت في هذا الوقت حكرًا على الرجال؛ ففي عام 1927م تقدمت خمس بنات من بينهن أ. نعيمة الأيوبي إلى أ. أحمد لطفي السيد - رئيس الجامعة آنذاك، ود. طه حسين - وزير المعارف - بطلب بقبولهن للدراسة بالجامعة، وتحقق لهن ما أردن، فالتحقت نعيمة الأيوبي بكلية الحقوق، وسهير القلماوي بكلية الآداب، وفاطمة سالم بقسم التاريخ اليوناني والروماني، وزينب عبد العزيز وفاطمة فهمي بالفلسفة، وهكذا انتصرت إرادة المرأة بعد حرب استمرت 4 سنوات لإثبات حقها في مواصلة التعليم الثانوي والجامعي. وفي هذا العدد، نتعرف على إحدى هؤلاء البنات وقصة التحاقها بكلية الحقوق لتتخرج منها وتكون أول امرأة مصرية تعمل بمهنة المحاماة...
البداية في الإسكندرية
ولدت نعيمة الأيوبي - ابنة المؤرخ المرحوم إلياس الأيوبي - بالإسكندرية، وتلقت تعليمها الابتدائي بمدرسة محرم بك الابتدائية بالإسكندرية، ثم التحقت بمدرسة البنات الثانوية بالحلمية الجديدة بالقاهرة، ثم التحقت بالقسم الإعدادي بالجامعة المصرية، وكان ترتيبها الأولى في كلية الحقوق، متقدمة بذلك على زملائها الطلبة، وقد مرضت قبل الامتحان الأخير (شهادة الليسانس)، لكنها جاهدت وقاومت المرض، واجتازت الامتحان بنجاح باهر، وبمرتبة الشرف الأولى لأول مرة منذ إنشاء مدرسة الحقوق، لكنها لم تكتفِ بالشهادة الجامعية، وأنها أول فتاة مصرية تلتحق بكلية الحقوق، وتتخرج فيها بتفوق، إنما قررت الخروج لميدان العمل بالمحاماة، وكافحت لنيل حقها في عضوية نقابة المحامين، فكانت أول محامية في النقابة، وعملت بمكتب أ. محمد علي علوبة، وتبعتها مفيدة عبد الرحمن، وعطية حسين الشافعي.
دفاعًا عن الحركة الوطنية
وكانت أول مرة تنزل فيها إلى المحكمة لتدافع عن ثلاثة رجال من رموز الحركة الوطنية ضد الاحتلال الإنجليزي، وهم: فتحي رضوان، وأحمد حسين - رئيس حركة مصر الفتاة، وحافظ محمود - نقيب الصحفيين آنذاك.
رحّب قضاء مصر بحضور أول محامية في ساحة القضاء والمرافعة عن الرجال، زارت غرفة المحامين بمحكمة الاستئناف والمحكمة الشرعية برفقة أ. عبد الله حسين المحامي، فرحب بها زملاؤها، فقالت لهم: "إنني لن أترافع إلا في قضايا المظلومين لأنتصف لهم من الظالمين، وسأخصص حياتي لخدمة المهنة التي شغفت بها منذ كنت طفلة، ومذ رأيت عمي محاميًا يفخر برداء المحاماة على أي شيء آخر في الحياة، فسرّهم هذا الشعار الأسمى الذي هو المثل الأعلى في المحاماة النزيهة، ورحّبوا بها زميلةً محترمةً جديدة في المهنة.
وهكذا كانت نعيمة الأيوبي أول محامية مصرية، وأول عضو نسائي في نقابة المحامين، وأول امرأة مصرية تمتهن عملاً كان حتى ذلك الوقت مقصورًا على الرجال؛ لما يرتبط به من احتكاك بالمتقاضين وتقدير الأتعاب والتنقل بين قاعات المحاكم والانكباب على وضع المذكرات؛ مما جعل البعض يراه فوق طاقة المرأة.
كما زارت المجلس الحسبي، والمحكمة الشرعية لتبعث إلى الجميع رسالة مفادها أنها بصدد التخصص في قضايا الأحوال الشخصية، وأنها لا تعتبر عملها بالمحاماة منافسة للرجل، إنما هي خطوة في سبيل تحسين مستواها.
وقد شغلت قضيتها الرأي العام المصري، سواءً في إصرارها على دخول كلية الحقوق، أو الحصول على تصريح الاشتغال بالمحاماة، وخاضت الصحف في هذا الموضوع بالنقد والاحتجاج على النقابة في تباطُئِها في الموافقة على طلب أ. نعيمة الأيوبي بالانضمام إلى النقابة، مؤكدين أن هذا التباطؤ يتعارض تمامًا مع قاعدة المساواة بين المرأة والرجل وصيانة حقوق المرأة.
مؤامرة ناجحة
وعن تجربتها الثرية، كتبت أ. نعيمة الأيوبي تقول: "كنا خمس فتيات ظمئت نفوسنا إلى ارتياد مناهل العلم في الجامعة، غير أننا خشينا إثارة الرجعيين، ورأينا أن نلجأ إلى أستاذنا د. طه حسين بك، فما إن وقف على رغبتنا حتى وعد بتحقيقها، ونصح إلينا أن نلتزم الصمت، ونتجنب إذاعة الخبر؛ حتى لا تخوض فيه الصحف فيتعذّر عليه السعي.
وعملنا بنصيحة أستاذنا، وكانت مؤامرة ناجحة؛ إذ فوجئ الرأي العام بنبأ قبولنا في الجامعة، ولكن بعد أن أصبح القبول نهائيًا.
كان الجو الجامعي غريبًا علينا، وكنا غرباء فيه كان الجميع يرقبون حركاتنا وسكناتنا.. كأننا مخلوقات عجيبة تظهر على الأرض للمرة الأولى.
وكنا نتحاشى أن نتحدث إلى الطلبة، أو نقترب من الأماكن التي يكثر وجودهم فيها، وإذا حيّانا أحد تجاهلنا التحية، وهكذا أمضينا وقتًا طويلاً في شبه عزلة، حديثنا همس، وخطواتنا استراق.
كانت المرة الأولى التي سمع فيها الطلبة صوتي حينما اعتدت السلطات على استقلال الجامعة، فثرت مع الثائرين، ووقفت أخطب في نحو 1800 طالب، وبدت الدهشة على وجوه الطلاب، وهم يسمعون صوتي للمرة الأولى، وراحوا يتضاحكون قائلين: (نطق أبو الهول).
وتوليت قيادة الطلبة خارج حجرات الدراسة، واستمر الإضراب عن تلقي الدروس زهاء 3 أسابيع، وكم كانت غبطتي حينما دعاني العميد ذات يوم، وطلب إليَّ أن أعمل على إعادة الطلبة إلى الجامعة، كما عملت على إخراجهم بعد أن زالت أسباب الإضراب.
والآن، وبعد أن خضنا الحياة؛ حلوها ومرها، أستطيع أن أقول: "إن اختلاط الطلبة بالطالبات لا ينجم عنه أي ضرر، بل على العكس؛ إنه يكسب الفتاة حصانة ومناعة؛ إذ إن الحجر لا يحمي الفتيات ولا يصونهن، ويجب أن تشعر الفتاة أنها مسؤولة عن نفسها، وأن لها من أخلاقها خير حصن".
ويمكن اعتبار هذه الكلمات رسالة إلى كل فتاة لمراجعة إدراكها لمفهوم الزمالة في (الحرم الجامعي)، وضرورة ضبطه بالقيم والأخلاق الإسلامية التي لا تحظر الاختلاط في ذاته، لكنها تحرم الخلوة غير المشروعة، والاختلاط المنفلت من القيم والأخلاق والدين.