الإنسان بين المادّة والرّوحّ
في الحقيقة إنّي لست من أهل هذا الميدان لأتحدّث عنه ، لكنّي أقتحِمه لجرأة دفعتني لأبيّن ولو القليل من الكثير حتّى أُوَضّح للإنسان ما عليه أن يفعل مع نفسه ليكون إنسانا كاملا يستحقّ التفضيلَ والتكريم اليوم وغدا. ولهذا أتوكّل على الحيّ القيّوم الّذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، فأقول ومنه أستمدّ القوّة والحوْل: إنّ هذا الإنسان يرجع تكوينه البشري إلى عنصرين:
1) العنصر المادّي.
2) العنصر الرّوحي.
فالعنصر المادّي: نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ¤ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ¤ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ¤ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ¤ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [12-16 المؤمنون].
الآية واضحة وجليّة لكلّ عاقل في كيفيّة النّشأة الأولى الّتي مرّت على مراحل وهي: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ¤ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[71-72 ص].
إذًا عُنصر الإنسان المادّي: مِن طين ، والطّين قطعة من تُراب سَوَّاه الله تعالى وَعَدَله بقُدرته وإرادته ، فتشكّل بشـرًا ، ثمّ نفخ فيه سبحانه وتعالى من رُوحـه فصار بشرًا سويًّا ، كاملاً وحيًّا.
وسيّدنا آدم عليه السّلام أوّل البشر ، وهو أبوهم جميعا ، ثمّ خلق له سبحانه وتعالى زوجةً له من ضِلعه وهي حوّاء أُمّ البشر كما جاء في الخبر ، غير أنّه لا علم لنا بكيفيّة هذا الخلق ، ولم نتوصّل إلى معرفة حقيقته.
ثمّ بقدرة الله تعالى وإرادته جعل التّناسل بين الزّوجين: آدم وحوّاء وغيرهم من نطفة وهي المعبّر عنها "بالماء المهين" - المنيّ -الّذي يظهر أنّه ضعيف وحقير لا يساوي شيئا.
والنطفة تمر على مراحل في قرار مكين: وهو الرّحم المحفوظ في بطن المرأة فتصير علقة ، ثمّ تصير مضغة ، ثمّ يخلق الله المضغة عظاما ، ثمّ يكسوها لحما ثمّ يبعث فيه الرّوح كما بعث في أبيه آدم. وسبحانه وتعالى يصوّر في الأرحام ما يشاء ذَكرا أم أنثى ، أبْيضًا أم أسْودًا ، طويلاً أم قصيرًا أم بين ذلك ، ويفعل في الأمْر ما يشاء ، تبارك الله أحسن الخالقين.
ونقول أنّ سُلالة خلق البشريّة هي دائما من طين. وكيفيّة ذلك أنّ البشر يتغذّى بمأكولات أصلها من طين كذلك ، وأنّ الله يكيّف التّراب بقدرته وإرادته وحكمته فتكون أنواعًا من المأكولات ، ومن هذه المأكولات تنتج النّطفة.
بعدما تحدّثنا عن عنصر الإنسان المادّي فنتحدّث الآن عن:
- العنصر الرّوحي: فنقول أنّ الرّوح هو عنصر معنويّ نوراني لا يُدرَكُ باللّمس الحِسّي ولا بالعقل ولا بالنّظر ولا بالسّمع ولا بأيّ شيء من الأشياء ، ولا يُدرك الرّوح إلاّ الرّوح.
وهذا الرّوح وجوده قديم أزليّ وهو سرّ نسبَهُ الله إليه بقوله تعالى: "فَإِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي" أي نفختُ فيه من سرِّي ، فـ "من" للتبعيض ، لأنّه ما قال نفختُ فيه روحي.
إذًا فلنفهم أنّ الرُّوح موجود قبل وجود الجسم ، ولا يفنى كما يفنى الجسم بل هو كائن غيببيّ حيّ ، ونعضد هذا القول بالآية التالية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [172 الأعراف].
عن أنس رضي الله عنه ، أنّ الله تعالى يقول: (... لأهون أهل النّار عذابًا: لو أنّ لك ما في الأرض من شيء كنتَ تفتدي به. قال: نعم ، قال: فقد سألتكَ ما هو أهون من هذا وأنتَ في صُلب آدم: أن لا تشرك بي ، فأبيتَ إلاّ الشّرك) [صحيح البخاري].
قيل أنّ الله سبحانه وتعالى أخذ من ظهر آدم أنسام أبنائه - أنسام الأرواح - الّذين سيُخلقُون من نسله ، وأخذ عليهم العهد وأشهدهم على أنفسهم بأنّه ربّهم ثمّ أعادهم إلى ظهره أو صلبه.
عن أُبيّ بن كعب في قول الله عزّ وجلّ: "وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ منْ ظُهُـورِهِمْ ذُرِّيَّتَهَمْ..." ، قال: (جمعهم فجعلهم أرواحا ثمّ صوّرهم فاستنطقهم فتكلّموا ثمّ أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قال فإنّي أُشهد عليكم السّماوات السّبع والأرضين السّبع وأُشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بـهذا اعلموا أنّه لا إله غيري ولا ربّ غيري فلا تشركوا بي شيئا وإنّي سأُرسل إليكم رسلي يُذكّرونكم عهدي وميثاقي وأُنزل عليكم كُتبي قالوا شهدنا بأنّك ربّنا وإلـهنا لا ربّ لنا غيرك فأقرّوا بذلك) [رواه أحمد في مسنده].
قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [85 الإسراء]. الرّوح شأنه عظيم ، وهو سرّ كلّ الكائنات وما أوتينا من العلم به إلاّ قليلا.