.
بسم الله الرحمن الرحيم
( والفجر ( 1 ) وليال عشر ( 2 ) والشفع والوتر ( 3 ) والليل إذا يسر ( 4 ) هل في ذلك قسم لذي حجر ( 5 ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( 6 ) إرم ذات العماد ( 7 ) التي لم يخلق مثلها في البلاد ( 8 ) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ( 9 ) وفرعون ذي الأوتاد ( 10 ) الذين طغوا في البلاد ( 11 ) فأكثروا فيها الفساد ( 12 ) فصب عليهم ربك سوط عذاب ( 13 ) إن ربك لبالمرصاد ( 14 ) )
أما الفجر فمعروف ، وهو : الصبح . قاله علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي . وعن مسروق ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب : المراد به فجر يوم النحر خاصة ، وهو خاتمة الليالي العشر .
وقيل : المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده ، كما قاله عكرمة .
وقيل : المراد به جميع النهار . وهو رواية عن ابن عباس .
والليالي العشر : المراد بها عشر ذي الحجة . كما قاله ابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، وغير واحد من السلف والخلف . وقد ثبت في صحيح البخاري ، عن ابن عباس مرفوعا : " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام " - يعني عشر ذي الحجة - قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : " ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجلا خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع من ذلك بشيء " .
[ ص: 391 ]
وقيل : المراد بذلك العشر الأول من المحرم ، حكاه أبو جعفر بن جرير ولم يعزه إلى أحد وقد روى أبو كدينة ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وليال عشر ) قال : هو العشر الأول من رمضان .
والصحيح القول الأول ; قال الإمام أحمد :
حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عياش بن عقبة ، حدثني خير بن نعيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر " .
ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله ، كل منهما عن زيد بن الحباب ، به ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث زيد بن الحباب ، به وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم ، وعندي أن المتن في رفعه نكارة ، والله أعلم .
وقوله : ( والشفع والوتر ) قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة ، لكونه التاسع ، وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر . وقاله ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك أيضا .
قول ثان : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثني عقبة بن خالد ، عن واصل بن السائب قال : سألت عطاء عن قوله : ( والشفع والوتر ) قلت : صلاتنا وترنا هذا ؟ قال : لا ولكن الشفع يوم عرفة ، والوتر ليلة الأضحى .
قول ثالث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثني أبي ، عن النعمان - يعني ابن عبد السلام - عن أبي سعيد بن عوف ، حدثني بمكة قال : سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن الشفع والوتر . فقال : الشفع قول الله ، - عز وجل - : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) والوتر قوله : ( ومن تأخر فلا إثم عليه ) [ البقرة : 203 ] .
وقال ابن جريج : أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع ابن الزبير يقول : الشفع أوسط أيام التشريق ، والوتر آخر أيام التشريق .
وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر " .
قول رابع : قال الحسن البصري ، وزيد بن أسلم : الخلق كلهم شفع ، ووتر ، أقسم تعالى بخلقه . وهو رواية عن مجاهد ، والمشهور عنه الأول .
[ ص: 392 ]
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( والشفع والوتر ) قال : الله وتر واحد ، وأنتم شفع . ويقال : الشفع صلاة الغداة ، والوتر : صلاة المغرب .
قول خامس : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : ( والشفع والوتر ) قال : الشفع الزوج ، والوتر : الله - عز وجل - .
وقال أبو عبد الله ، عن مجاهد : الله الوتر ، وخلقه الشفع ، الذكر والأنثى .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( والشفع والوتر ) كل شيء خلقه الله شفع ، السماء والأرض ، والبر والبحر ، والجن والإنس ، والشمس والقمر ، ونحو هذا . ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) [ الذاريات : 49 ] أي : لتعلموا أن خالق الأزواج واحد .
قول سادس : قال قتادة ، عن الحسن : ( والشفع والوتر ) هو العدد ، منه شفع ومنه وتر .
قول سابع : في الآية الكريمة رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن جريج ، ثم قال ابن جرير : وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزبير : حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا زيد بن الحباب ، أخبرني عياش بن عقبة ، حدثني خير بن نعيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الشفع اليومان ، والوتر اليوم الثالث " .
هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ ، وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وابن أبي حاتم ، وما رواه هو أيضا ، والله أعلم .
قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وغيرهما : هي الصلاة ، منها شفع كالرباعية والثنائية ، ومنها وتر كالمغرب ، فإنها ثلاث ، وهي وتر النهار . وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل .
وقد قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن عمران بن حصين : ( والشفع والوتر ) قال : هي الصلاة المكتوبة ، منها شفع ومنها وتر . وهذا منقطع وموقوف ، ولفظه خاص بالمكتوبة . وقد روي متصلا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه عام ، قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو داود - هو الطيالسي - حدثنا همام ، عن قتادة ، عن عمران بن عصام : أن شيخا حدثه من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الشفع والوتر ، فقال : " هي الصلاة ، بعضها شفع ، وبعضها وتر " .
هكذا وقع في المسند ، وكذا رواه ابن جرير عن بندار ، عن عفان وعن أبي كريب ، عن عبيد الله بن موسى ، كلاهما عن همام - وهو ابن يحيى - عن قتادة ، عن عمران بن عصام ، عن [ ص: 393 ] شيخ ، عن عمران بن حصين وكذا رواه أبو عيسى الترمذي ، عن عمرو بن علي ، عن ابن مهدي وأبي داود ، كلاهما عن همام ، عن قتادة ، عن عمران بن عصام ، عن رجل من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين ، به . ثم قال : غريب ، لا نعرفه إلا من حديث قتادة ، وقد رواه خالد بن قيس أيضا عن قتادة .
وقد روي عن عمران بن عصام ، عن عمران نفسه ، والله أعلم .
قلت : ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا همام عن قتادة ، عن عمران بن عصام الضبعي - شيخ من أهل البصرة - عن عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره ، هكذا رأيته في تفسيره ، فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام [ الضبعي ] .
وهكذا رواه ابن جرير : حدثنا نصر بن علي ، حدثني أبي ، حدثني خالد بن قيس ، عن قتادة ، عن عمران بن عصام ، عن عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفع والوتر قال : " هي الصلاة منها شفع ، ومنها وتر " .
فأسقط ذكر الشيخ المبهم ، وتفرد به عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري ، إمام مسجد بني ضبيعة وهو والد أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي . روى عنه قتادة ، وابنه أبو جمرة والمثنى بن سعيد ، وأبو التياح يزيد بن حميد . وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وذكره خليفة بن خياط في التابعين من أهل البصرة ، وكان شريفا نبيلا حظيا عند الحجاج بن يوسف ، ثم قتله يوم الزاوية سنة ثلاث وثمانين لخروجه مع ابن الأشعث ، وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد . وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه ، والله أعلم .
ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر .
وقوله : ( والليل إذا يسر ) قال العوفي ، عن ابن عباس : أي إذا ذهب .
وقال عبد الله بن الزبير : ( والليل إذا يسر ) حتى يذهب بعضه بعضا .
وقال مجاهد ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومالك ، عن زيد بن أسلم وابن زيد : ( والليل إذا يسر ) إذا سار .
وهذا يمكن حمله على ما قاله ابن عباس ، أي : ذهب . ويحتمل أن يكون المراد إذا سار ، [ ص: 394 ] أي : أقبل . وقد يقال : إن هذا أنسب ; لأنه في مقابلة قوله : ( والفجر ) فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل ، فإذا حمل قوله : ( والليل إذا يسر ) على إقباله كان قسما بإقبال الليل وإدبار النهار ، وبالعكس ، كقوله : ( والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ) [ التكوير : 17 ، 18 ] . وكذا قال الضحاك : ( [ والليل ] إذا يسر ) أي : يجري .
وقال عكرمة : ( والليل إذا يسر ) يعني : ليلة جمع . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو قال : سمعت محمد بن كعب القرظي ، يقول في قوله : ( والليل إذا يسر ) قال : اسر يا سار ولا تبين إلا بجمع .
وقوله : ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) أي : لذي عقل ولب وحجا [ ودين ] وإنما سمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال ، ومنه حجر البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي . ومنه حجر اليمامة ، وحجر الحاكم على فلان : إذا منعه التصرف ، ( ويقولون حجرا محجورا ) [ الفرقان : 22 ] ، كل هذا من قبيل واحد ، ومعنى متقارب ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة ، وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها [ إليه عباده ] المتقون المطيعون له ، الخائفون منه ، المتواضعون لديه ، الخاشعون لوجهه الكريم .
ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين ، خارجين عن طاعته مكذبين لرسله ، جاحدين لكتبه . فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم ، وجعلهم أحاديث وعبرا ، فقال : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ) وهؤلاء عاد الأولى ، وهم أولاد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ، قاله ابن إسحاق وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا ، عليه السلام ، فكذبوه وخالفوه ، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم ، وأهلكهم بريح صرصر عاتية ، ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ) [ الحاقة : 7 ، 8 ] وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون .
فقوله تعالى : ( إرم ذات العماد ) عطف بيان ; زيادة تعريف بهم .
وقوله : ( ذات العماد ) لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد ، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا ، ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم ، فقال : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله [ لعلكم تفلحون ] ) [ الأعراف : 69 ] . وقال تعالى : [ ص: 395 ] ( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) [ فصلت : 15 ] ، وقال هاهنا : ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) أي : القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم ، لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم .
قال مجاهد : إرم : أمة قديمة . يعني : عادا الأولى ، كما قال قتادة بن دعامة ، والسدي : إن إرم بيت مملكة عاد . وهذا قول حسن جيد قوي .
وقال مجاهد ، وقتادة ، والكلبي في قوله : ( ذات العماد ) كانوا أهل عمود لا يقيمون .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : إنما قيل لهم : ( ذات العماد ) لطولهم .
واختار الأول ابن جرير ، ورد الثاني فأصاب .
وقوله : ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) أعاد ابن زيد الضمير على العماد ; لارتفاعها ، وقال : بنوا عمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد . وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة ، أي : لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد ، يعني في زمانهم . وهذا القول هو الصواب ، وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف ; لأنه لو كان أراد ذلك لقال : التي لم يعمل مثلها في البلاد ، وإنما قال : ( لم يخلق مثلها في البلاد )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا معاوية بن صالح ، عمن حدثه ، عن المقدام ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر إرم ذات العماد فقال : " كان الرجل منهم يأتي على صخرة فيحملها على الحي فيهلكهم " .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو الطاهر ، حدثنا أنس بن عياض ، عن ثور بن زيد الديلي . قال : قرأت كتابا - قد سمى حيث قرأه - : أنا شداد بن عاد ، وأنا الذي رفعت العماد ، وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحد ، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع ، لا يخرجه إلا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قلت : فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها ، أو أعمدة بيوتهم للبدو ، أو سلاحا يقاتلون به ، أو طول الواحد منهم - فهم قبيلة وأمة من الأمم ، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع ، المقرونون بثمود كما هاهنا ، والله أعلم . ومن زعم أن المراد بقوله : ( إرم ذات العماد ) مدينة إما دمشق ، كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة ، أو إسكندرية كما روي عن القرظي أو غيرهما ، ففيه نظر ، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ) إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان ، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ . ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم .
[ ص: 396 ]
وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية ، من ذكر مدينة يقال لها : ( إرم ذات العماد ) مبنية بلبن الذهب والفضة ، قصورها ودورها وبساتينها ، وإن حصباءها لآلئ وجواهر ، وترابها بنادق المسك ، وأنهارها سارحة ، وثمارها ساقطة ، ودورها لا أنيس بها ، وسورها وأبوابها تصفر ، ليس بها داع ولا مجيب . وأنها تنتقل فتارة تكون بأرض الشام ، وتارة باليمن ، وتارة بالعراق ، وتارة بغير ذلك من البلاد - فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين ، من وضع بعض زنادقتهم ، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك .
وذكر الثعلبي وغيره أن رجلا من الأعراب - وهو عبد الله بن قلابة - في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر له شردت ، فبينما هو يتيه في ابتغائها ، إذ طلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب ، فدخلها فوجد فيها قريبا مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها ، وأنه رجع فأخبر الناس ، فذهبوا معه إلى المكان الذي قال فلم يروا شيئا .
وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة ( إرم ذات العماد ) هاهنا مطولة جدا ، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ، ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك ، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج ، وليس كذلك . وهذا مما يقطع بعدم صحته . وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين ، من وجود مطالب تحت الأرض ، فيها قناطير الذهب والفضة ، وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير ، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها ، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء ، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ، ونحو ذلك من الهذيانات ، ويطنزون بهم . والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية وكنوزا كثيرة ، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله فأما على الصفة التي زعموها فكذب وافتراء وبهت ، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم ، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب .
وقول ابن جرير : يحتمل أن يكون المراد بقوله : ( إرم ) قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تصرف فيه نظر ; لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة ، ولهذا قال بعده : (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) يعني : يقطعون الصخر بالوادي . قال ابن عباس : ينحتونها ويخرقونها . وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد . ومنه يقال : " مجتابي النمار " . إذا خرقوها ، واجتاب الثوب : إذا فتحه . ومنه الجيب أيضا . وقال الله تعالى : ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) [ الشعراء : 149 ] . وأنشد ابن جرير وابن أبي حاتم هاهنا قول الشاعر :
[ ص: 397 ]
ألا كل شيء - ما خلا الله - بائد كما باد حي من شنيف ومارد هم ضربوا في كل صماء
صعدة بأيد شداد أيدات السواعد
وقال ابن إسحاق : كانوا عربا ، وكان منزلهم بوادي القرى . وقد ذكرنا قصة " عاد " مستقصاة في سورة " الأعراف " بما أغنى عن إعادته .
وقوله : ( وفرعون ذي الأوتاد ) قال العوفي ، عن ابن عباس : الأوتاد : الجنود الذين يشدون له أمره . ويقال : كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها . وكذا قال مجاهد : كان يوتد الناس بالأوتاد . وهكذا قال سعيد بن جبير ، والحسن ، والسدي . قال السدي : كان يربط الرجل ، كل قائمة من قوائمه في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فتشدخه .
وقال قتادة : بلغنا أنه كانت له مطال وملاعب ، يلعب له تحتها ، من أوتاد وحبال .
وقال ثابت البناني ، عن أبي رافع : قيل لفرعون ( ذي الأوتاد ) ; لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت .
وقوله : ( الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ) أي : تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس ، ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) أي : أنزل عليهم رجزا من السماء ، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين .
وقوله : ( إن ربك لبالمرصاد ) قال ابن عباس : يسمع ويرى . يعني : يرصد خلقه فيما يعملون ، ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والأخرى ، وسيعرض الخلائق كلهم عليه ، فيحكم فيهم بعدله ، ويقابل كلا بما يستحقه . وهو المنزه عن الظلم والجور .
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا جدا - وفي إسناده نظر وفي صحته - فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا يونس الحذاء ، عن أبي حمزة البيساني ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معاذ ، إن المؤمن لدى الحق أسير . يا معاذ ، إن المؤمن لا يسكن روعه ولا يأمن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره . يا معاذ ، إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته ، وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله ، - عز وجل - فالقرآن دليله ، والخوف محجته ، والشوق مطيته ، والصلاة كهفه ، والصوم جنته ، والصدقة فكاكه ، والصدق أميره ، والحياء وزيره ، وربه ، - عز وجل - من وراء ذلك كله بالمرصاد " .
قال ابن أبي حاتم : يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان ، وأبو حمزة عن معاذ مرسل . ولو كان عن أبي حمزة لكان حسنا . أي : لو كان من كلامه لكان حسنا . ثم قال ابن أبي حاتم :
[ ص: 398 ]
حدثنا أبي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو ، عن أيفع بن عبد الكلاعي : أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول : إن لجهنم سبع قناطر - قال : والصراط عليهن ، قال : فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى ، فيقول : ( وقفوهم إنهم مسئولون ) [ الصافات : 24 ] ، قال : فيحاسبون على الصلاة ويسألون عنها ، قال : فيهلك فيها من هلك ، وينجو من نجا ، فإذا بلغوا القنطرة الثانية حوسبوا على الأمانة كيف أدوها ، وكيف خانوها ؟ قال : فيهلك من هلك وينجو من نجا . فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها ؟ قال : فيهلك من هلك وينجو من نجا . قال : والرحم يومئذ متدلية إلى الهوي في جهنم تقول : اللهم من وصلني فصله ، ومن قطعني فاقطعه . قال : وهي التي يقول الله - عز وجل - : ( إن ربك لبالمرصاد ) .
هكذا أورد هذا الأثر ، ولم يذكر تمامه .