لقد عكفت الدكتورة بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن) على تحقيق ودرس (رسالة الغفران) للمعري في مدى سبع سنوات طوال حتى نالت بها درجة الدكتوراه في الآداب من مرتبة الشرف الأولى .
وتعتبر الدكتورة حجة في نص (رسالة الغفران) إذ أن كل ما نشر من الغفران قبلها ربما كان مشوها مبتوراً غير محقق لذلك اهتمت دوائر المستشرقين بهذا النص المحقق الذي نشرته بنت الشاطئ على أحدث وأدق واضبط مناهج النشر وجمعت لأجله كل مخطوطات الغفران في العالم وقامت برحلات إلى (الإسكوريال) بإسبانيا وإيطاليا (بلددانتي) وانكلترا (بلدنيكلسون) كما استحضرت فيلماً لمخطوطة الغفران في مكتبة (كوبريلي زاده بتركيا) وهو أصل المخطوطات المعروفة للغفران .
في حوالي عام 424 ه¯ كان أبو العلاء المعري يملي في بلدته (معرة النعمان) رسالة أدبية كتب لها أن تخلد مع روائع الآثار الباقيات, وأن تشغل في الأدب العالمي مكاناً لا نعرف أن رسالة أخرى في أدبنا قد حازت على هذه الشهرة وهذا الانتشار ... وحقيقة الأمر أن أبا العلاء قد أملى هذه الرسالة رداً على رسالة أخرى بعث بها إليه أديب حلبي من أدباء عصره هو (علي بن منصور) المشهور ب¯ (ابن القارح) .
وكان أبو العلاء إذ ذاك قد جاوز الستين من عمره , حيث أنضجته الأيام بتجاربها وكشفت له عن أشواقه المكبوتة وأحزانه المطوية وجراحه التي لم تندمل قط ...
ولذلك رأيناه يستطرد في المقدمة فيمضي بصاحبه في رحلة عجيبة إلى العالم الآخر حيث يطوف بالقارئ إلى الجنة والجحيم كما تمثلها أبو العلاء .
ثم يخطر لابن القارح أن يتنزه فيركب نجيباً من نجب الجنة ويمضي بين كثبان العنبر متمثلاً ببيتين للأعشى فيهتف هاتف : أتشعر أيها العبد المغفور له , لمن هذا الشعر فيقول ابن القارح : أجل حدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم أن هذا الشعر لميمون بن قيس (الأعشى) فيقول الهاتف : أنا ذلك الرجل , مَنَّ الله عليَّ بعدما صرت من جهنم على شفير ويئست من المغفرة, فيلتفت إليه الشيخ هاشاً باشاً مرتاحاً فيجده قد صار شاباً أحور , معتد القوام ويسأله : بم غفر له, فيروي الأعشى أن الزبانية سحبته إلى سقر , لكنه استشفع للرسول بقصيدته التي كان قد نظمها فيه ومضى ليسلم لولا أن صدته قريش وحبه للخمر , إلا أنه كان يؤمن بالله والحساب وأيده بأبيات من شعره فشفع له الرسول وأدخل الجنة على ألا يشرب فيها خمراً .
ويستأنف الشيخ رحلته فيرى في رياحن الجنة قصرين منيفين على أحدهما لافتة مكتوب فيها : هذا القصر لزهير بن أبي سلمى وعلى الآخر : هذا القصر لعبيد بن الأبرص فيلتمس لقاءهما ليسألهما : بم غفر لهما ? فيجد (زهيراً) كالزهرة الجنية كأنه ما عرف الشيخوخة ولا سئم تكاليف الحياة !
ويتنادمان حيناً ثم يمضي ابن القارح للقاء (عبيد بن الأبرص) فيقول له :
(لعلك تريد أن تسألني بم غفر لي ? أخبرك أني دخلت الهاوية وكنت قلت في أيام الحياة :
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
وسار هذا البيت في آفاق البلاد فلم يزل ينشد ويخف عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد إلى أن شملتني الرحمة ببركة هذا البيت وإن ربَّنا لغفور رحيم .
فإذا سمع الشيخ ما قاله هذان الرجلان طمع في سلامة كثير من الشعراء ويسأل عن (عدي بن زيد) فإذا لقيه سأله بم غفر له ? فيجيب : إني كنت على دين المسيح ومن كان من اتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه, وإنما التبعة على من سجد للأصنام ...) .
ويتحاورون ساعة, ثم يستأنف ابن القارح نزهته فيلتقي بشابين جميلين هما : النابغتان الجعدي والذبياني ويسألهم بم غفر لهما , ثم يتبع ذلك بحوار أدبي شائق لا يلبث أن يشترك فيه المازني والشيباني وأبو عبيدة والأصمعي حيث تنشب معركة أدبية بين الرواة وبين الشعراء تعقبهما معركة أخرى حامية بين الأعشى والجعدي يتعايران فيهما ويتنابذان حتى يثب الجعدي على الأعشى فيضربه بكوز من ذهب أو إذ ذاك يتدخل النابغة ليصلح بينهما قائلاً : (لا عربدة في الجنان ...) .
ثم يبدو لابن القارح بعد ذلك أن يقيم مأدبة في الجنة يدعو إليها كل من فيها من الشعراء واللغويين والرواة والمتأدبين فينشئ الله رحىً من در وعسجد تدور على الكوثر لطحن البر ويجيء غلمانه من الولدان المخلدين بالجداء والطواويس والحمام والدجاج والبقر والغنم والإبل وتذبح دون أن تمس أي ألم , ويجتمع طهاة حلب الذين في الجنة فيصنعون أشهى الأطعمة وتوضع الموائد من الذهب وصواني الفضة ثم يجيء السقاة بأصناف الأشربة .
والآن لا أريد أن أدع القارئ والتاريخ دون أن أشير إشارة عجلى إلى ما تحمل جنة الغفران وجحيمها من طابع علائي خاص متميز بتفردها عن سواها من صور العالم الآخر في الأديان أو الأدب, وما أظن أن القراء بعد أن وعوا العرض الوجيز والسريع مما قدمناه أن يفوتهم أن يلحظوا أثر الكبت والعزلة والحرمان والعمى في هذه الحياة الأخرى التي رسمها أبو العلاء , الأديب الضرير المحروم المكبوت المقيد الحبيس الذي أمضى نصف قرن في محبسه الضيق !
كما أنه من المناسب بأن يصحح رأي الذين اختلفوا فمنهم زهد أبي العلاء وظنوه قد كره الدنيا وترفع عن لذاتها المادية بملء حريته وإرادته واختياره فهذه هي جنته كما أرادها له حرمانه, فتتفنن في تصوير المتع المادية تفنناً مؤثراً ومثيراً ولا نرى الجنة جنة, إذا لم يكن فيها سحر ومنادمة وحوار أدبي وحركة وانفعال ورقص وغناء ولحم شهي وأنهار من الخمر وأسراب من القيان والحور العين .