جميل بثينة..عشق وفراق
قصة مثل الكثير من قصص العشق التي تنتهي بالفراق، تأتي لنا قصة جميل وبثينة لتنضم لموكب شهداء الحب، العاشق هو جميل بن عبد الله بن معمر العذري نشأ في قومه بني ربيعة بوادي القرى بين مكة والمدينة، أما العاشقة فهي بثينة بنت يحيى من بني ربيعة أيضاً.
عشق جميل بثينة منذ الصغر فلما كبر خطبها فمنعه أهلها عنها، فأنطلق ينظم الشعر فيها فجمع لها قومها جمعاً ليأخذوه إذا أتاها فحذرته بثينة فاستخفى وقال:
فلو أن الغادون بثينة كلهم
غياري وكل حارب مزمع قتلي
لحاولتها إما نهاراً مجاهراً
وإما سرى ليلٍ ولو قطعت رجلي
وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ عامل المدينة، فنذر ليقطعن لسانه فلحق بجذام وقال:
أَتانِيَ عَن مَروانَ بِالغَيبِ أَنَّهُ
مُقيدٌ دَمي أَو قاطِعٌ مِن لِسانِيا
فَفي العيشِ مَنجاةٌ وَفي الأَرضِ مَذهَبٌ
إِذا نَحنُ رَفَّعنا لَهُنَّ المَثانِيا
وَرَدَّ الهَوى أُثنانُ حَتّى اِستَفَزَّني
مِنَ الحُبِّ مَعطوفُ الهَوى مِن بِلادِيا
بقى جميل هناك حتى عزل مروان عن المدينة، فأنصرف على بلاده وكان يختلف إليها سراً، كان لبثينة أخ يقال له حوَّاش عشق أخت جميل وتواعد للمفاخرة فغلبه جميل، ولما اجتمعوا لذلك قال أهل تيماء: قل يا جميل في نفسك ماشئت، فأنت الباسل الجواد الجمل، ولا تقل في أبيك شيئاً فإنه كان لصاً بتيماء في شملة لا تواري لبسته، وقالوا لحواش قل، وأنت دونه في نفسك وفي أبيك ما شئت فقد صحب النبي "صلى الله عليه وسلم".
قال كثير: قال لي جميل يوماً: خذ لي موعداً مع بثينة، قلت: هل بينك وبينها علامة؟ قال: عهدي بهم وهم بوادي الدوم يرحضون ثيابهم، فأتيتهم فوجدت أباها قاعداً بالفناء، فسلمت، فرد وحادثته ساعة حتى استنشدني فأنشدته:
وَقُلتُ لَها ياعَزَّ أَرسَلَ صاحِبي
عَلى نَأيِ دارٍ وَالرَسولُ مُوَكَّلُ
بَأَن تَجعَلي بَيني وَبَينَكِ مَوعِداً
وَأَن تَأمُريني بِالَّذي فيهِ أَفعَلُ
وَآخِرُ عَهدٍ مِنكَ يَومَ لَقيتَني
بِأَسفَلِ وادي الدَومِ وَالثَوبُ يُغسَلُ
فضربت بثينة جانب الستر، وقالت إخسأ، ولما تساءل والدها، قالت: كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء هذه الرابية، قال: فأتيت جميلاً وأخبرته أنها وعدته وراء الرابية إذا نام الناس.
كما يروي ابن عياش قائلاً: خرجت من تيماء فرأيت عجوزاً على أتان - أنثى الحمار- فقلت من أنت: قالت: من عذرة، قلت: هل تروين عن جميل ومحبوبته شيئاً فقالت: نعم، إنا لعلى ماء بئر الجناب وقد أتقينا الطريق واعتزلنا مخافة جيوش تجيء من الشام إلى الحجاز، وقد خرج رجالنا في سفر، وخلفوا عندنا غلماناً أحداثاً، وقد أنحدر الغلمان عشية إلى صرم لهم قريب منا ينظرون إليهم، ويتحدثون عن جوار منهم فبقيت أنا وبثينة، إذا انحدر علينا منحدر من هضبة حذاءنا فسلم ونحن مستوحشون فرددت السلام، ونظرت فإذا برجل واقف شبهته بجميل.
فدنا فأثبته فقلت: أجميل؟ قال: إي والله، قلت: والله لقد عرضتنا ونفسك شراً فما جاء بك؟ قال: هذه الغول التي وراءك وأشار إلى بثينة، وإذا هو لا يتماسك فقمت إلى قعب فيه إقط مطحون وتمر، وإلى عكة فيها شيء من سمن فعصرته على الأقط " الجبن"، وأدنيته منه فقلت: أصب من هذا وقمت إلى سقاء لبن فصببت له في قدح ماء بارد وناولته، فشرب وتراجع فقلت له: لقد جهدت فما أمرك؟ فقال: أردت مصر فجئت أودعكم وأسلم عليكم، وأنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ليال أنظر أن أجد فرصة حتى رأيت منحدر فتيانكم العشية، فجئت لأحدث بكم عهداً، فحدثنا ساعة ثم ودعنا وانطلق، فلم نلبث إلا يسيراً حتى أتانا نعيه من مصر.
وهكذا مات جميل ومات معه حبه ولكن يظل شعره ينبض بالحياة ويروي لنا قصة عاشق
لَقَد ذَرَفَت عَيني وَطالَ سُفوحُها
وَأَصبَحَ مِن نَفسي سَقيماً صَحيحُها
أَلا لَيتَنا نَحيا جَميعاً وَإِن نَمُت
يُجاوِرُ في المَوتى ضَريحي ضَريحُها
فَما أَنا في طولِ الحَياةِ بِراغِبٍ
إِذا قيلَ قَد سوّي عَلَيها صَفيحُها
أَظَلُّ نَهاري مُستَهاماً وَيَلتَقي
مَعَ اللَيلِ روحي في المَنامِ وَروحُها
فَهَل لِيَ في كِتمانِ حُبِّيَ راحَةٌ
وَهَل تَنفَعَنّي بَوحَةٌ لَو أَبوحُها