الجزء الاخير
***
لا بد لمعرضي أن ينتهي، لننتبه أننا نعرف بعضنا من أسبوعين فقط، وليس منذ أشهر كما كان يبدو لنا. فكيف فرغنا من ذاكرتنا في بضعة أيام؟ كيف تعلَّمنا في بضع ساعات قضيناها معاً، أن نحزن ونفرح ونحلم بتوقيت واحد؟
كيف أصبحنا نسخة من بعضنا.. وكيف يمكن لنا أن نغادر هذا المكان، الذي أصبح جزءاً من ذاكرتنا؟ كيف..؟ وهو الذي وضعنا لعدة أيام، خارج حدود الزمان والمكان، في قاعة شاسعة، يسكنها الصمت ويؤثثها الفن، وربع قرن من المعاناة والجنون؟
كنّا لوجة وسط عدة لوحات أخرى.
كنا لوحة متقلّبة الأطوار، متعدّدة الألوان، رسمتها المصادفة يوماً ثم واصلت رسمها يد الأقدار. وكنت أتلذذ بوضعي الجديد ذاك وأنا أتحول من صاحب ذلك المعرض، إلى لوحة من لوحاته لا أكثر.
لم يحدث، مثل تلك المرة، أن شعرت بحزن وأنا أرفع تلك اللوحات المعلّقة على الجدران، لوحة بعد أخرى، وأجمعها في الصناديق لأترك القاعة فارغة لرسَّام آخر، سيأتي بلوحاته.. بحزنه وبفرحه وبقصص أخرى لا تشبه قصّتي.
كنت أشعر أنني أجمع أيامي معك.
فجأة، توقفت يدي وهي على وشك أن ترفع تلك اللوحة التي تركتها للآخر.
تأملتها مرة أخرى، شعرت أنها ناقصة. لم يكن على مساحتها سوى جسر يعبرها من طرف إلى آخر، معلّق نحو الأعلى بحبال من طرفيه كأرجوحة حزن.
وتحت الأرجوحة الحديدية هوّة صخرية ضاربة في العمق تعلن تناقضها الصارخ مع المزاج الصافي لسماء استفزازية الهدوء والزرقة.
لم أشعر، قبل تلك اللحظة، أن هذه اللوحة في حاجة إلى تفاصيل جديدة تكسر هذا التضاد، وتؤثث عري اللونين اللذين ينفردان بها.