أطلّي على طرفي الدامع
خيالاً من الكوكب السّاطعِ
ظلاً من الأغصن الحالمات
على ضفّة الجدول الوادعِ
و طوفي أناشيد في خاطري
يناغين من حُبّيَ الضائع
يفجِّرُنَ من قلبي المستفيض
و يقطرْنَ في قلبي السامع
لعينيكِ ، للكوكبين اللذين
يصبان في ناظريّ الضياءْ
لنبعين ، كالدهر ، لا ينضبان
و لا يسقيان الحيارى الظماء
لعينيك ينثال بالأغنيات
فؤاد أطال انثيال الدماء
يودُّ ، إذا ما دعاك اللسانُ
على البُعدِ ، لو ذاب فيه النداء
يطول انتظاري ، لعلي أراك
لعلي ، ألاقيكِ بين البَشَرْ
سألقاكِ . لا بد لي أن أراك
و إن كان بالناظر المحتضَرْ
فديْتُ التي صوّرْتها مناي
و ظلُّ الكرى في هجير السَّهرْ
أطليِّ على من حباك الحياة
فأصبحت حسناء ملء النظرْ !
أطليّ فتاة الهوى و الخيال
على ناظرٍ بالرؤى عالقِ
بعشرين من ريُّقات السنين
عَبَرنَ المدرات في خافقي
بعشرين كُلاَّ وهبتُ الربيعَ
و ما فيه ، من عُمري العاشقِ
فما ظلَّ إلا ربيعٌ صغير
أُخبِّيه للموعد الرائقِ
سأروي على مسمَعيكِ الغداةَ
أحاديث سمّيتهُنّ الهوى
و أنباءَ قلبٍ غريق السراب
شقي التداني ، كئيب النوى
أصيخي.. فهذي فتاة الحقول
و هذا غرامٌ هناك انطوى
أتدرين عن ربّة الراعيات ؟
عن الريف ؟ عما يكونُ الجوى ؟
هو الريف هل تبصرين النخيل ؟
و هذي أغانيه ، هل تسمعين ؟
و ذاك الفتى شاعرٌ في صباه
و تلك التي علَّمته الحنين
هي الفنُّ من نبعه المستطاب
هي الحبُّ من مُستقاه الحزين
رآها تغني وراء القطيع
ك(بَنلوب) تستمهل العاشقين
فما كان غيرُ التقاء الفؤادَينِ
في خفقةٍ منهما عاتيه
و ما كان غيرُ افترارالشفاه
بما يشبه البسمةَ الحانيه
و كان الهوى ، ثم كان اللقاء
لقاء الحبيبَين في ناحيه
فما قال : أهواكِ ، حتى ترامى
عياءً على ضفة الساقيه
و أوْفى على العاشقَين الشتاء
و يومٌ دجا في ضُحاه السحاب
خلا الغابُ ما فيه إلا النَّخيل
و إلا العصافير ، فهو ارتقاب
و بين الحبيبين في جانبيه
من السَّعف في كل ممشى ، حجاب
فما كان إلا وميضٌ أضاءَ
ذُرى النخل ، و انحلّ غيمٌ و ذاب
و يا سدرةَ الغاب كيف استجارا
بأفنانك الناطفات المياه
رآها و قد بلّ من ثَوْبها
حياً زخّ ، فاستقبلَتها يداه
على الجذع يستدفئان الصدور
على مَوعدٍ ، كل آهٍ بآه
سلي الجذع كيف التصاق الصدور
بهزّاتها ، و ابتعادُ الشفاه ؟
أشاهدتَ يا غابُ رَثص الضياء
على قطرةٍ بَينَ أهدابها ؟
تُرى أهي تبكي بدمع السماء
أساها و أحزان أترابها ؟
و لكنها كلُّ نوْر الحقول
و دفءِ الشذى بين أعشابها
و أفراحُ كلِّ العصافير فيها
و كلِّ الفراشات في غابها
و ذاك الخصام الذي لو يُفدّى
لفدّيتُ ساعاته بالوئام
أفدِّيه من أجل يومٍ ترفّ
يدٌ فيه أو لفتةٌ ، بالسلام
و من أجل عينين لا تستطيعان
أن تظرا دون ظلّ ابتسام
تذوب له قسوة في الأسارير،
كالصحو ينحلُّ عنه الغمام
خصاماً و لّما نعلّ الكؤوس ؟
أحطَّمتِها قبل أن نسكرا ؟
خصاماً ، و ما زال بعض الربيع
نديّاً على الصيف مخضَوْضراً ؟
خصاماً ؟ فهل تمنعين العيونَ
إذا لألأَ النُّور ، أن تنظرا ؟
و هل تُوقفين انعكاس الخيالِ
من النهر ، أن يملك المعبرا ؟
أغانيُّ شبّابتي تَستبيكِ
و تُدنيكِ مني ، ففيمَ الجفاء ؟
كأنّ قوى ساحر تستبدُّ
بأقدامك البيض ، عند المساء
و يُفضي بك الدَّرْب حيثُ استدار ،
إلى مَوْعدي بين ظلِّ و ماء
على الشطِّ ، بين ارتجاف القلوع
و همس النخيل ، و صمت السماء
و حجّبتِ خدّيك عن ناظريّ
بكفّيكِ حيناََ ، و بالمِروَحات
سأشدو ، و أشدو ، فما تصنعين
إذا احمر خدّاكِ للأغنيات ؟
و أرخيتِ كفيكِ مبهورَتين
و أصغيتِ ، و اخضلَ حتى الموات
إلى أن يموت الشعاعُ الأخيرُ
على الشرق ، و الحب ، و الأمنيات
وهيهات ، إن الهوى لن يموت
و لكنّ بعض الهوى يأفلُ
كما تأفل الأنجمُ الساهرات ،
كما يغرب الناظِرُ المُسبَلُ ،
كم تستجمُّ البحارُ الفساح
مليّاً ، كما يرقد الجدول
كنَوم اللظى ، كانطواء الجناح
كما يصمتُ النايُ و الشمألُ !
أعامٌ مضى و الهوى ما يزالُ
كما كان ، لا يعتريه الفتور ؟
أهذا هو الصّيفُ يوفي علينا
فنلقاه ثانيةً ، كالزهور ؟
و لكنّهن زهور الخلود
فلا أظمأتْ ريّهنّ الحرور
و لا نال من لونهن الشتاءُ
و لا استترَفت عطرَهُنّ الدهور
أغانيّ ، و الغاب قفرُ الوكون
حبيس النسائم تحت الدوالي
ترى ماءه ، لا تّقاد الهجير ،
حريقاً بما فوقه من ظلال
و فو التعاشيب ، حيث الغصون
ينئُون بأفيائهن الثقالِ ،
لها مضجعٌ هدْهدْته العطور ،
أأبصرت كيف اضطجاع الجمالِ ؟
أأمسيتُ أستحضر الذكرياتِ
و ما كان بالأمسِ كلّ الحياه ؟
أضاعت حياتي ؟ أغاب الغرامُ ؟
أماتتْ ، على الأغنياتْ ، الشفاه ؟
أنمسي ، و ما زال غابُ النخيل
خضيلاً و ما زال فيه الرعاه ،
حديثاً على مَوقد السامرين :
أحبّا ، و خابا ، فوا حسرتاه ؟
أُناديكِ ، لو تسمعين النداء
و أدعوكِ _ أدعوك ؟! يا للجنون !
إذا رنّ في مسمعَيك الغداة
من المهد صوتُ الرضيع الحنون
و نادى بك الزوّجُ أن ترضعيه
و نادى صدىً أخفتته السنون
فما نَفعُها صرخةً من لهيبٍ
أدوِّي بها ؟ من عساني أكون ؟!
أعفَّرتُ من كبرياء النداء ؟
و أرجَعتُ آمادي القهقرى ؟
نسيتُ التي صوّرتها مُناي
و نادَيتُ أنثى ككل الورى ؟!
و أعرضتُ عن مسمَعٍ في السماء
إلى مسمع في تُراب القرى !
أتُصغي فتاةُ الهوى و الخيال
و أدعو فتاة الهوى و الثرى !؟
و ودَّعتُ سجواءَ بين الحقول
و دنيا عن الشرّ في معزل
و خلفتُ ، في كلّ ركن خضيلٍ
من الريف ، ذكرى هوىً أوّلِ
قصاصات أوراقيَ الهاساتِ
بشِعري ، على ضفّة الجدول
و جِذْعاً كتَبتُ اسمها الحُلوَ فيه
و ناياً يغني مع الشمألِ
فمنْ هذه المسترقُّ القلوبَ
صبىً ملؤها روحُه الطافره
أما كنتُ ودّعتُ تلك العيونَ
الظليلات و الخصلة النافرة ؟
كأني ترشَّفتُ قبل الغداة
سنى هذه النظرة الآسرة !
أما كان في الريف شيءٌ كهذا ؟
أما تُشبه الربّة الغابرة ؟!
مشى العُمرُ ما بيننا فاصلاً
فمن لي بأن أسبق الموْعدا ؟
و لكنه الحبُّ منه الزمانُ
ثوان ، و مما احتواه المدى
أراها فأنفض عنها السنين
كما تَنْفِضُ الريحُ بَردَ الندى
فتغدو و عمري أخو عُمرها
و يستوقفُ المولِدُ الموْلدا
و هل تسمع الشعرَ إن قُلته
و في مسمعيها ضجيجُ السنين
أطلت على السبعِ من قبل عشر
ين عاماً ، و ما كنت إلا جنين ؟
و أمسى_ ولم تدرِ أنت الغرام_
هواها حديث الورى أجمعين
لققد نبَّأوها بهذا الهوى
فقالت : و ما أكثر العاشقين ؟!
أمن قَبلهِ انثال هذا النشيدُ
إليها ، إلى الذئبة الضاريه ؟
و لو لم يكن فيه طعمُ الدماء
ما استشعرت رنة القافيه
و ما زالت تسبيه غمّازتان
تبوحان بالبسمةِ الخافيه
و ما زالتا تُذكران الخيال
بما كان في الأعصَر الخاليه:
و بالحُب و الغادة المستبد
صباها به ، يلعبان الوَرَقْ
و كيف استكان الأله الصغير
فألقى سهام الهوى و الحَنَقْ
رهانٌ ، رمى فيه غمّازتيه
وَ وَرْدَ الخدود ، و نور الحدق ،
لكِ اللّه ، كيف اقتحمت القرونَ
و لم يخب في وجنتيكِ الألق ؟
كأن ابتسامتها و الربيعَ
شقيقان ، لولا ذبولْ الزَّهرْ
أآذارُ ينثر تلك الورودَ
على ثغرها ؟ أم شُعاع القمر ؟
ففي ثغرها افترَّ كلُّ الزمان
و ما عُمرُ آذار إلا شَهرَ
و بالروح فدّيْت تلك الشفاهَ
و أن أذكرَتْني بكأس القدر !
أطلي على طرفيَ الدامع
خيالاً من الكوكب الساطع
و ظلاً من الأغصن الحالمات
على ضفة الجدول الوادع
و طوفي أناشيد في خاطري
يناغين من حبيَّ الضائع
يفجّران من قلبي المستفيض
و يقطرن في قلبي السامع