مذكرات نجيب محفوظ تسجل خمسين سنة سياسية وأدبية
فضفضة وبوح صادم يتجاوز الإشارات الخضراء، المسموح للكاتب أن يقف عندها، وإلا دقت الأجراس، ووشت بهذا الاختراق للمنصوص عليه في دفتر أحوال الكتابة الأدبية الرصينة، التي تمثل لدغدغة الحواس، وعدم إقلاق الساكن في حياتنا العربية الذاتية والعامة.
ولذلك يلجأ أدباء الشرق إلى كتابة مذكراتهم، وسيرهم الذاتية على نحو أخلاقي، مبتعدين عن منطقة التعري والبوح الذي يحقق صدمة الوعي والاكتشاف للآخر، ونزوات (الأنا)، وباستثناء حالات فردية في الكتابة العربية للذات، مثل «الخبز الحافي» للأديب المغربي محمد شكري، سنجد أن أدباءنا يلوذون بالكمون، فلا يظهر من جبل الثلج سوي قمته، بينما المسكوت عنه كثير، كثير. ولعل ما خلفته «مذكرات نجيب محفوظ» من ضجة وردود أفعال متباينة، هو المثال الحي لعدم ملاءمة (الفضفضة) لخصائص الذهنية العربية، فقد حوت السيرة أو المذكرات آراء محفوظ السياسية والأدبية والفكرية.
وذلك عبر خمسين ساعة سجلها الكاتب رجاء النقاش، الذي أملي عليه محفوظ مذكراته، وتعرض فيها لشخصيات أدبية وسياسية، وأخرى تمت له بصلة قرابة، مما دعا البعض إلى رصد التناقضات، واتهام محفوظ بضعف الذاكرة والنسيان والخروج عن المسموح به. خاصة تلك الآراء عن حرب الاستنزاف وفترة حكم عبدالناصر، وكذلك ما ذكره بشأن عائلته وآرائه الصريحة في بعض أفرادها، وما دعا أحدهم إلى رفع دعوى قضائية ضد نجيب محفوظ، ومن جانبه أكد أديبنا الكبير أن الردود التي قرأها معقولة في حدود المناقشة الموضوعية، بل قرأنا أنه أثني على رجاء النقاش وجهده في إخراج الكتاب على هذا النحو من السلاسة والتدفق. أما النقاش، فيرى أن «الضجة مفتعلة»، فالكتاب لم يأت بجديد على صعيد آراء محفوظ التي كثيرا ما عبر عنها في رواياته». ورغم اختلاف الروائي جمال الغيطاني على ما ورد في المذكرات بشأن حرب الاستنزاف وحسب قوله اختلافاً كبيراً، فقد عمل مراسلاً حربياً عدة سنوات داخل، الجبهة، ورأى بسالة الجندي المصري وشجاعته في الدفاع عن كرامة الوطن، كأعظم ما تكون الحروب، ولكن هذا لا يقلل عن كرامة الوطن كأعظم ما تكون الحروب، ولكن هذا لا يقلل من التقدير والمحبة التي يكنها لنجيب محفوظ كمبدع كبير وإنسان عظيم.
ويعلق الناقد محمود أمين العالم على هذه الضجة بقوله: إن السيرة الذاتية ما زالت لدي البعض هي السيرة الحسنة أو التضاريس الخارجية، أو سيرة (الأنا) الظاهرة، وحين تكتب السيرة من خلال التأمل العميق، وعندما تصبح ذاكرة حية، فإن هذا يقلق السائد بالطبع، وهناك أمثلة في تاريخ الأدب، اتسمت فيها السيرة الذاتية بطابع أخلاقي، وهذا يرجع إلى خشية المصارحة لانعدام الديمقراطية. ويضيف العالم: الكثير يغفل أن كشف العيوب ببساطة فضيلة كبيرة، فمثلاً مذكرات أحمد أمين كانت رصينة، وطه حسين لم يبح بحقائق كثيرة، والدليل على هذا ما جاء في كتاب زوجته سوزان (معك)، فقد تحدثت عن طه حسين بأنه شخص عصبي جداً، ومتقلب المزاج وهذا على عكس الطبيعة الهادئة التي كان عليها عندما يكتب أو يتحدث إلى جمهوره.
وفي حالة نجيب محفوظ فإنه لم يقرأ عليه الكتاب قبل نشره، وكنت في زيارته مؤخراً، فقال لي إنه قرأ نصف الكتاب فقط، وفي تقدير العالم أن الكتابة ليست في التفاصيل الصغيرة، ولكن بدلالتها في البنية الكلية، وفي ظل السياق العام الذي يعطي دلالة على بعض الأحكام، ولذلك لو أتيح لنجيب محفوظ قراءة كاملة للكتاب، لعله كان يغير أو يبدل بعض التفاصيل التي وردت في المذكرات.
الماضي لم يمض
أما الروائي إدوار الخراط، فيرى أن من حق المبدع أن يعبر عما يريد أو أن يكتب ليعطي مساحة للاتفاق أو الاختلاف فالماضي لم يمض، وكتابة المذكرات أو السيرة الذاتية تأتي بعد عمر من العطاء ورصيد من التجربة الزاخرة، وبالنسبة لمحفوظ أرى أن الأديب هو الشخص الوحيد الذي من الطبيعي أن يكتب سيرته الذاتية.
وليس شخصا آخر يملي عليه، ولكن الذي حدث أن محفوظ لم يراجع ما أملاه على الكاتب رجاء النقاش. ويتفق الناقد إبراهيم فتحي على أن تصريحات محفوظ السياسية ليست بذات قيمة كبيرة، أما السياسة داخل أعماله الأدبية.
كطريقة للتفكير، وكمناخ فكري وباعث أو دافع للسلوك فهي التي تشكل قيمة، فهناك فرق بين التصريحات التي وردت في المذكرات، وهي لا تعنينا إلا كرأي فرد قد يغير رأيه، أو يختلف الآن عما كان في السابق، أما الأفكار السياسية، كمقوم في بناء الشخصية، وكأفق لمسار الأحداث، فهي التي تهمنا في الأفعال الفنية.
ويضيف فتحي: أن السيرة الذاتية قيمتها بالنسبة إلينا، لا تعني البوح الناقص أو البوح الكامل، ولا تعني استحضار شخص بكل تفاصيل مخه وقلبه وأمعائه الغليظة وإفرازاته، ماذا يعنينا في ذلك؟ ليس لذلك قيمة كبيرة، والمجتمع العربي محافظ، والذوق العام لا يقبل أن يتحدث الإنسان عن مباذله أو بعض الخطايا الصغيرة أو الكبيرة التي ارتكبها.
أما الروائي إبراهيم عبدالمجيد، فيقول: مهما كانت السيرة الذاتية في مصر أو العالم العربي، قد بلغت من الصراحة، لن تكون مثل السيرة الذاتية المكتوبة في أوروبا، وليس عندنا أحد يستطيع أن يكتب سيرة ذاتية، مثل جان جينيه أو أندرية جيد، أو كثير من الكتاب الذين كتبوا مذكراتهم أو سيرتهم الذاتية، فنحن نقيم معارك متخلفة جداً، لأن الأديب عندما يذكر أشياء في حياته، وغير متفقة مع الأعراف السائدة، فهو يذكرها ليعرف الناس الصواب والخطأ، وليس للمباهاة.
وحتي الآن للأسف السيرة الذاتية مدرسة تعليمية، ونحن غير قادرين على كتابة السيرة صحيحة مئة بالمئة، وذلك تحت اسم الأعراف أو الأخلاق أو غيره وبالنسبة لمسألة اللجوء القانوني ضد كاتب، فهذه مسألة خاطئة، لأنه من الممكن أن يكتب هذا أو ذلك ويرد على المعلومات، فمساحة الاختلاف والنقاش واردة، ولهذا فأننا في الشرق نكتب السيرة الذاتية (الأخلاقية) وفق المتاح والممكن، فالكاتب يضع في ذهنه مئات الضوابط والمحاذير، لتكون الكتابة دائماً ناقصة وغير مكتملة.
عنفوان الكتابة
ويضيء الروائي العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي: أوجه الالتباس في النظر إلى كتابة السيرة الذاتية أو الاعترافات، موضحاً أن كثيراً من السياسيين العرب والأدباء كتبوا ما يشبه السيرة الذاتية، وكل هؤلاء لم يقتربوا من المناطق المحرمة، وأنهم دائماً كانوا في موقف الدفاع والتبرير لأنفسهم بينما يصبح الآخرون متهمين، والبريء الوحيد هو كاتب هذه المقالات والمذكرات.
ويوضح الربيعي: بالنسبة لمحفوظ، فهو لم يكتب سيرته الذاتية، هو كتب أصداء السيرة ولكن رمزها أما كتابه مع رجاء النقاش من خلال حوار، قال أشياء كثيرة كان من الممكن أن يكتبها في سيرته الذاتية، وهناك نصوص إبداعية ونصوص في الرواية العربية، كانت نصوصا في السيرة الذاتية بشكل أو بآخر.
ولكن الكتاب لم يحاولوا أن يسموا الأشياء بأسمائها، وإنما منحوها أسماء أخرى، فالمجتمع العربي في وضعه الآن، وفي محرماته وفي كل ما يتعرض له المواطن العربي من قبل يجعل الكاتب خائفاً من خوض مغامرة السيرة الذاتية.
ويؤكد أن المشكلة الموجودة الآن مع نجيب محفوظ في كونه أصبح سلطة بالإرادة الإنسانية والعالمية، وعندما يصبح «الرمز» ثقة إنسان تلك هي المصيبة الكبري عندهم، فهم يريدون أن يكون الرمز فارغاً كي لا يؤذي، لأنه حين يكون إنسانياً، يصبح مؤذياً ويلحق ضرراً بهم، فهم يقولون لماذا يكتب في مذكراته؟ ولماذا يجعل صورته تهتز؟
هم يفكرون عن بيوتهم، يفكرون عن أبنائهم، ومن هنا تكمن جوهرية موقف ونجيب محفوظ، وخاصة أن تنشر هذه الكلمات وهو حي يرزق، لكي لا تصبح هناك تقولات عليه، نجيب محفوظ هكذا يفارقنا حتى نمتلكه كإنسان من جديد.
أشواك الورد
يقول الروائي التونسي حسن بن عثمان: أتصور أن نجيب محفوظ هو قدوة كبيرة للأمة العربية جميعاً، ولكتابها خصوصاً، والجرأة التي يتميز بها الرجل في إبداعه، وخاصة في كتابه الذي سجله رجاء النقاش، فهو لم يرد أن يحرم هذه اللغة العربية، وهذه الأمة العربية من كل تفاصيل حياته، وأراد أن يضيء لنا من سلوكه بعضا من آدابه، وبجرأة نادرة.
إضاءة
الهجوم على محفوظ عار من الصحة، لأنه لا ينتمي لهذه العائلة ولا لمصر ولا لتونس ولا للأمة العربية فحسب، بل ينتمي للإنسان الذي يريد أن يتعرف على طور معين في مجتمع معين.. بتاريخه كيف عاش؟ وهذا ما قدمه لنا نجيب محفوظ في مذكراته من دروس فالقضية محفوظة ببعض الانزلاقات، وبعض سوء الفهم الذي ربما يأتي هنا أو هناك، مثلاً من عائلته، فما الذي يضر هؤلاء القوم؟ وهل كانوا يريدون أن يقطفوا الوردة دون أن تجرحهم الأشواك؟!
القاهرة ـ خالد محمد غازي
البيان