عثمان محمد نائب المديرة
تاريخ التسجيل : 22/12/2011 العمر : 42 البلد /المدينة : فلسطين
بطاقة الشخصية المجلة: 0
| موضوع: نوفيلا , عودة الأرواح المهاجرة , إهداء لمحمود درويش 2/10/2012, 23:27 | |
| 1- الخروج
وصلت قبل نصف ساعة من موعد القطار العائد إلى مرسيليا. كم أحب الجلوس في محطة “جارده ليون” كلما عدت من باريس.
أشعر بأني أعيش حلم يقظة؛ فأنا في محطة باريسية فيها خليط من البشر يمر أمامي، جزائري، فرنسي، ومن شرق أوروبا وأفارقة.
أكثرهم من بلاد استعمرتها فرنسا ، قاوموها في تلك الفترة بضراوة حتى نالوا الاستقلال. وعندما تحرروا و غادرتهم فرنسا، ذهبوا إليها مهاجرين.
أحاول كل ليلة نسيان الماضي والعيش في مرسيليا، بين هذه الأفواه التي تنسيني لغة الراء، أسعى جاهداً أن أمحي من ذاكرتي كل ما يذكرني بالشرق، من مآسي الهجرة،الخوف، الضياع،الجوع….
منذ ذلك اليوم الأسود الذي سُمي يوم النكسة، صور كابوسية سوداء لا تغادر جفني كلما أغمضتها. يغلف الخوف وجه أمي الخائف، عيونها وهي تبكي وتلطم وتصرخ :
- ” راحت عكا راح الأهل راح “شقا العمر“
أبي يضع أساور أمي الذهبية بين يديه، لعلها تعطيه شيئاً من الأمان في مناطق لن يعرف كيف سيحصل على المال فيها .
لم يسمح لأمي بحمل أي قطعة من أثاث البيت، ردد :
- “المهم الولد يا فكرية، إنا ذاهبون إلى فلسطينيين مثلنا، لن نحتاج لأي لشيء.”
أبي يصوب نظره إلى بيوت حيفا ويبكي، أريد أن أجمع دموع أبي ، لأنها لم ترُ من قبل ولم تُر بعد ذلك.
عكا ووالدي غابا عني. عكا اغتصبها اليهود، وأبي لم يتمكن من استنشاق هواء غير هواء عكا، توفي وهو يهذي أ ن ذ ا ل .
موت أبي زرع بداخلي قوة الثأر من اليهود؛ ومن العرب أيضا لأنهم تخلوا عنا، من الذين نعتونا باللاجئين وكأننا غجر أقمنا على أراضيهم الجرداء، فألصقوا بنا تهمة أو طبقة اجتماعية جديدة تسمى “ابن مخيم”
حلمت بالانتقام، من كل شيء حولي من موظف الأمم المتحدة العربي الذي صرخ بوجه أمي، من المعلم الذي يضربنا ويجبرنا على العلم، من الخيمة التي ما كانت تحمينا لا صيفاً ولا شتاءً، من علب السردين ، من سقف الصفيح المثقوب بألف ثقب.
2-الأمل
في المخيم تعرفت على صديق جديد قادم من روسيا سيرافقني لسنوات طويلة بعدها..يدعى”كلاشنكوف”.
فقد تناقل الناس كلاماً يقول “إن الطريق الوحيدة لعودة فلسطين هي النضال الفدائي”.
بعت ما تبقى من حلي والدتي، واشتريت قطعة سلاح “كلاشنكوف”، عانقته وكأني أحضرت عروساً جميلة وثرية .
وكذلك كانت فرحة أمي عندما شاهدتني وأنا أفكه قطعاً مثلما تدربت قبل “النكسة” من أحد الشباب الفدائيين، وارتديت لباساً أخضر، صرت أمشي متباهياً رافعاً كتفي، أجلس مع الناس الذين يُحضرون فوراً أقداح الشاي، ويشجعونني على ألاَّ أذهب للعمل في دول الخليج وأنسى فلسطين.
الأطفال كلما شاهدوني أيضا يسلمون علي ويمسكون “الكلشنكوف”، ويسألوني
- عمو متى ستعيد لنا فلسطين؟
وآخرون من “المطعونين” عمراً يحذرونني من العملاء الذين كثروا بعد تردي الأحوال المادية.
قررت الهروب من المخيم إلى مكان لا أخاف فيه من العملاء، مكان يشبه جبهة الحرب، أقضي وقتي أصوب الرصاص نحو اليهود.
لماذا أظل في المخيم؟ لا يوجد في المخيم أرض نفلحها، أو تجارة ، حتى أمي غادرت الحياة وهي تهذي “راح نرجع يا أبو ثائر” وأطبخ لك صّيادية سمك.
توفيت أمي بالسرطان. فقد كان يأكلها منذ أيام عكا وهي لا تدري، السرطان الذي التهم عكا، وسَرق منها بيتها ، وأخذ منها البحر المتوسط، ومن ثم امتد لزوجها وتركها عشرين عاماً بين القروح وصفائح المخيم التي تعزف لحن الفقر والذل كلما أمطرت الدنيا.
توفيت أمي بعدما تمزق جلدها من شمس الوكالة، وسخونة “الزينكو”.كنا نشرب الحليب ونأكل السردين بالذل، بعد ساعات من الوقوف على الطوابير، بينما كان والدي يسوق لنا كل شهر عربة خيل تحمل ألذ ما تحويه أسواق عكا.
ماتت أمي وهي تصف لي بيتها في عكا، وتطلب إلي أن أُسكن زوجتي في الغرفة الشمالية لأنها مطلة على البحر، ماتت أمي وهي تضع يدها على الكلشنكوف وتقول عندما تستعيد شيئا من صحتها :
- يا بني هذا مفتاح فلسطين، يا ثائر أعد عكا وبعدها تزوج، إياك أن تجعل زوجتك تعيش مثلي في بيت ضيق،عليه سقف (زينكو) ينقل البرد ويجمع حرارة الصيف، الفقر والذل والتشرد يفسد كل فرح ويقتله قبل أن يولد.
بعد أمي لم يبق لي في ذلك المخيم سوى ذخيرة من الأيام أضعها في فوهة الثأر لأصوبها على الذين اغتالوا الفرح في عكا.
غادرت إلى لبنان، كان كل الفلسطينيين يذهبون إلى هناك، التي أردت الذهاب لها قبل عامين لأدرس في الجامعة الأمريكية، مع أني سمعت شيخ المسجد يقول للمصلين، سوف نقاتل اليهود من ضفة النهر الشرقية.
3 - النبوءة
بيروت أجمل من المخيم بمئات المرات،مدينة تشبه الجنة التي حدثنا عنها شيخ المسجد. لم أصدق في البداية أن بيروت عاصمة للحرب؛ فتيات جميلات نصف عاريات في الشوارع، البحر مليء بالعشاق، الشباب يحتالون على الحياة فيحولون أيامها إلى أقداح خمر حتى لا يتذوقوا آلامها دون أن تضيع ساعة واحدة من اليوم دون أن يتمتعوا .
في شوارعها كل أشكال الحياة التي تختصر عشرات العواصم، بنادق، كتب، فقراء، أثرياء، رصاص يطلق في الزقاق بين أعداء وفي مرات أخرى يطلق مجاناً وكأنه ألعاب نارية.
لقد سببت لي بيروت إرباكً شديداً حتى نسيت النضال، وظلت الملابس المدنية، تشعرني بالخوف من أن أموت مدنياً.
في كل يوم عصراً كنت أذهب إلى صخرة الروشة أنظر للبحر المتوسط؛ يقولون لي أن هذا البحر يوصلني إلى عكا، ليتني سمكة أسبح لشواطئ عكا أُقبل حجارتها أعتذر لأسوارها دون أن تراني الزوارق الإسرائيلية.
في بيروت بدأت أسمع بمسميات غريبة للنضال، تختلف عن فلسطين؛ ففي فلسطين كل من يحمل سلاحاً يسمى فدائياً فقط هكذا علموني، وبعدها صار هناك كلمة فتحاوي، ولكن في بيروت يجب أن أكون فدائياً حزبياً مقاتل له أيديولوجية ، لم أفهم ماذا يقصدون.
أعطاني كاظم كتاباً لميشيل عفلق وأخبرني عن البعث، وكلّما سألته :
- أليس البعث سيحصل بعد أن أموت شهيداً؟.
يضحك كاظم ويقول:
- كلا؛ البعث هو الطريق الأسلم للشهادة، وللعروبة، يجب أن تحيا الأمة قبل أن نموت شهداء وتردد (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ).
ذكرني كاظم بتجار المخيم، لأن جيبه كانت دوما تمتلئ بالمال مثل مكتبته، ولم أكن أعرف من أين يحصل على الكتب والمال ولأني أخاف من المبهمات، ولم أكن أريد أحزاباً تسعى لمصلحة دول.خاصمت “كاظم” وصديقه بالفكر “فادي” الذي كان يملك بعثاً آخر.
عبد الرحمن كان يقرأ لي دوما كتباً لسيد قطب، ويطالبني أن أصلح المجتمع العربي قائلاً بصوت جهور :
- (هذه جاهلية القرن العشرين يا صديقي ).
أنهره ما شأني وشأن العرب ومن قال لك أن هناك من يستقبلني في بلاده فسجونهم هي غرفة الضيوف التي يستقبلون من هو في مثل حالتي،فليذهب العرب للجحيم وليظلوا على جهالتهم .
صابر عكسه تماماً لا يُريد رجعيين دينيين، ويقول القومية هي التي سوف توحد العرب وتنهض بهم وتخلصهم من سطوة الاستعمار .
لم يفهمني صابر؛ لأني كنت أريد بيتي في عكا فقط، وأن أحصل على أسير يهودي وأجعله يبكي لأسترد دمعات أبي، فما لي وما للمجتمعات العربية ووحدتها، لم أر أي منهم في المخيم، ولم أر علماً عربياً واحداً على الشاحنات التي تحضر السردين، كنت أرى دوما أعلاماً زرقاء أحياناً تكون من الأمم المتحدة، وأحيانا تكون قوات إسرائيلية تأتي لتعتقل الشبان..
4- الولادة
كنت أتردد دوماً على المخيمات أجلس لأستمع للهجة الفلسطينية ، من الأفواه التي تحولت لمجامر ، لكثرة ما تحدثت عن فلسطين ،أشعر بينهم في أمان لا أجده في باقي المناطق، في إحدى ساحات مخيم برج “البراجنة” تعرفت إلى فتاة بيضاء البشرة ، ضعيفة الجسد تسريحة شعرها مثل الشباب، ترتدي بدلة خضراء -كتلك التي كنت أرتديها في المخيم- تُقلب مجموعة كتب معروضة على بسطة، تحدق في الكتب وترفع كل دقيقة كوفية فلسطينية ملفوفة على رقبتها، وقفت بجانبها أنظر لكل كتاب تتركه.
نظرت لي وضحكت :
- مناضل؟
- نعم
-رفيق أم أخ؟
- أي شيء يعيد لي فلسطين اللقب ليس مهماً ، حتى لو أسميتني بهلول!
ضحكت بشدة، جعلتني أشاهد أنوثتها الضائعة في البدلة العسكرية؟.
- أنا جوزفين .
- إذا كانت الألقاب الحزبية لا تهمك فأسمي ثائر نضال من عكا.
- عكا لم يتبق أحد فيها لقد هاجروا من النكسة.
- أقصد هاجرنا من عكا، ولكني قادم من مخيم، لا أريد أن ألصق نفسي بالمخيم حتى لا أنسى عكا، أنا الآن بلا وطن وجئت هنا لأسترد الوطن.
أرتاح وجهها وقالت بصوت خافت:
- لقد أخفتني نحن نتخوف من “عرب إسرائيل” نخشى أن يكونوا يهوداً يتقنون اللغة العربية.
- لا لا تخافي لم أدخل معسكراً في يوم من حياتي، ولكني هنا كي أكون فدائياً، ولم أتوقع أن أجد كل هذه الفصائل والمسميات.
- ما رأيك في أن تُصبح شيوعياً، مثلي وتصبح الرفيق ثائر.
- شيوعي ؟! لطالما حذرني أهل المخيم منهم، وأخبروني أنهم كفار وحطب لجهنم.
- أخرجت من جيبها اليمين مصحفا، ومن الشمال إنجيلاً، وقالت نحن لسنا ضد الدين ولكننا نريد تحييد المتدينين، خلاف أيديولوجي لا أكثر.
- ماذا قلتي لم أفهم هذه الكلمة الأخيرة ؟
- تحتاج إلى “فت خبز” أسمع يا ثائر يجب أن تسعى لهدف سياسي وليس عسكرياً فقط. كن شيوعياً أو حتى اشتراكياً تقدمياً تسعى إلى نهضة هذا الشعب ونشر العيش الحسن بينهم، هناك أعداء لنا غير اليهود لا نريد أن تعود فلسطين للأغنياء والبرجوازيين .
- محارب تقدمي ؟ أتقصدين مثل غسان كنفاني الذي استشهد حديثا.
- نعم، جيد أنك تعرف غسان كنفاني ،أتقرأ له؟
- قلت لك لست حزبياً ولكني لم أقل لك أني غير مثقف.
- ما رأيك يا رفيق ثائر أن تنتسب إلينا ،نحن نخطط وندرب وستكون فدائياً بطلاً.
- كلامك مقنع يا جوزفين، ولكن لا أريد أن أكون شيوعياً أريد أن أكون اشتراكياً تقدمياً.
- كوب شاي قد يُسهل علََّي الحديث معك، ولكنك سوف تحتاج لبعض الكتب قبل التدريب العسكري.
- عليك أن تختار اسماً حركياً غير اسمك العادي، هذا أفضل لك.
- حسننا أريد اسم “عربي”.
- من أين أتيت بهذا الاسم الغريب؟
- إنه بطل رواية “أنت منذ اليوم” للكاتب الأردني تيسير السبول.
- إذن أنت منذ اليوم الرفيق عربي.
غيرت تلك الجلسة مسار حياتي واسمي الذي صار معروفاً بالرفيق عربي، فقد سمعت كلاماً غريباً على طريقة تفكيري البسيطة، جوزفين أقنعتني أن الأثرياء هم أعداء الثورة، وهم أقرب الناس إلى الاستعمار، وأن العالم مقسم إلى شيوعي وإمبريالي، أي فقير وغني، مستعمر ومستعبد.
أعجبني كلام جوزفين خاصة أن مصدر كلامها من تلك البلاد التي تصنع الكلشنكوف، السلاح الذي ساعد مناضلي فلسطين كثيراً، عند الهجوم على المستعمرات، لقد أصبحت أؤمن أن يعود الناس مع بعضهم البعض شركاء، في الحياة. الحّراث والصياد والمختار يأكلون مثل بعضهم، ستعود الأرض للجميع الكل يزرع والكل يأكل .
لقد كانت جوزفين جسداً شيوعياً يتحرك على الأرض، لا تلبس ثياب النساء الفاخرة ولا تأكل من المطاعم الفخمة، تصلي وتدعو الله ليلاً، وإلى الاشتراكية نهاراً، تقول أريد دوماً أن أكون شيوعية مؤمنة!!
تدربت في معسكر خاص وكانت جوزفين تدربني أيضاً، إنها أشبه ما تكون ببطلة ساموراي.
أحببتها رغما ًعني فمن دماء الجراح تولد القصص العاطفية، قررت أن أتزوجها، وصارحتها، ولكنها ضحكت وقالت :
- غريب أمركم أيها الرجال تقطعون أحلامكم دوماً عندما تشاهدون امرأة ما !! يا ثائر مثلنا لا يصلح للزواج، نحن نعانق الموت في كل يوم ولكنه يهرب منا ليوم آخر.
قلت لها يوما لم تخبريني يا جوزفين من أي بلد في فلسطين أنت وأين أهلك؟
- أنا لست فلسطينية ، بل لبنانية.
- أصبت بدهشة ! فاللبنانيون، يكرهوننا، بل يعتبرون، أننا أحضرنا لهم وباء الحرب!
- أنت تدافع عن فلسطين لتثأر لأرضك ولوالدك، وأنا مثلك مات أبي في فلسطين وهو يحارب مع الجيوش العربية، كنت في بطن أمي ولدتني أمي وهي لا تجد ما يطعمني، فهي أرمينية ليس لها أقارب في هذا العالم سوى أبي الذي تزوجها عن غير رضا أهله، عملت أمي خادمة في المنازل لتطعمني، وعندما كبرت، وضعفت قدرتها على العمل، قذفوها في الشارع مثل أكياس القمامة، لن أنسى تلك الصرخات، التي كانت تلاقيها من أجلي، تعمل من الصباح إلى المساء من أجل حفنة من الليرات، ماتت أمي بعدما مزقت عظامها التهابات المفاصل، قررت أن أنتقم لأبي ولأمي من اليهود الذين قتلوا أبي وتركوا أمي وحيدة في هذا العالم تعمل عند الأغنياء أصحاب المال الذين أذلوها.
بكت يومها جوزفين وهي تخرج هذه الذكريات من صندوق ذاكرتها، وكنت لأول مرة أشاهدها طفلة صغيرة تبكي، لقد كانت رجلاً بشكل أنثى لا يغادر السلاح يدها إلا عندما تمسك بكتب الشيوعية والتي لا تمل منها، مجلدات كثيرة من كتب لينين وماركس ، وماوتسي تنج.
لطالما أشعرتني أنها لا تحب الحياة، ولا تشتاق للفرح الذي غادرها منذ زمن طويل، كانت جوزفين تتعاطى النضال كما يتعاطى المدمن الحشيش.
جوزفين مثل كل فلسطيني مشرد، عندما طُرد من موطنه وبيته شعر أنه تيتم وفقد والديه، فالمخيم أشبه ما يكون بكابوس يحاصر ليلك ونهارك، إنه مستقبل مخيف مجهول، يجلس الفقر على مفاصل الأيام يتفشى بك، ويمزق أحشاءك وكأن أيام الحياة طعام مسمم، ماذا تعني الحياة وأنت تشاهد أخوتك الصغار يرتدون في العيد ثياباً بالية، تشاهد عظامهم تئن من برد الشتاء، وبطونهم تكاد تصرخ اشتياقاً للحم، ويودون كسر أطباق العدس الذي ملته بطونهم.
الضياع
مضت سنوات عديدة ونحن نحارب اليهود دون أن نتقدم، ولم نصبح تقدميين، والجبهة لم تعد محصورة في الجنوب، صارت تمتد إلى بيروت، في ذلك اليوم المشؤوم الذي قتل المسيحيون ركاب حافلة فلسطينية، ورد الفلسطينيون عليهم بعملية أخرى وكأننا بحاجة إلى خصام.
بكت حبيبتي جوزفين وقالت:
- اسمع يا عربي لقد تعودت أن أدافع عن نفسي، ولكن لم أعتد أن أقاتل أبناء جنسي، سوف نغادر إلى الجنوب لن أقاتل سوى اليهود.
خفت أنا أيضاً أن يأتي يوم أقاتل فيه جوزفين وتقاتلني هي أيضاً من أحد الأزقة، فالحرب الأهلية أصبحت أمراً واقعاً، ومن جهة البحر كنت أشاهد أرواحاً بيضاء تغادر البحر، وتأتي أرواح سوداء، والبحر الأزرق لونه يصبح أحمر.
لقد أحببت بيروت مثلما أحببت عكا، بيروت جميلة لا تستحق سوى التقبيل، إنها فتاة حسناء، كيف ستتحمل أصوات الرصاص ورؤية الدماء.
حاولنا الهرب وخططنا له ولكننا لم نعد نخاف رصاص اليهود وحسب مثلما يحدث في الجنوب، فبيروت لم تعد تمطر ماء بل رصاصاً، لا أعرف هل نحن الذين لم نحترم أرض بيروت أم هي التي لم تستسيغنا.
جوزفين قررت جدياً الذهاب للجنوب :
- سيأتي اليهود قريباً ولن أغسل قلادتي التي تحمل صورة “جيفار” إلا من دماء الأعداء.
بعد عامين قُتل زعيم الحزب، وبعده بعام صدقت نبوءة جوزفين هاجم اليهود الجنوب اللبناني، قاتل الجميع، وجلست جوزفين في خندق يجمعنا مع البعض، كانت الدبابات تأتي بكثافة الطيور المهاجرة، وجوزفين تحولت إلى نسر يطير في السماء، وعندما شاهدت الجنود المعادين، لم تخف بل فرحت وقالت لي:
- بعد الآن سأعود إلى بيروت؛ إما منتصرة أو لن أعود.
أما أنا فقد تخيل لي أن البحر الذي في عكا قد وصلت أمواجه إلى هنا والخندق الذي أنا فيه يقع على أسوار عكا، كانت جوزفين تقاتل بضراوة وكأن والدها جريح على بعد أمتار، وتريد إنقاذه.
استشهدت جوزفين أمام عيني بشظية مزقت أحشاءها وبترت ساقيها وتركت فيها رمقا محدود الحياة لبعض ثوان تلك التي أحبت الحياة أن تقدمها لها عوضاً عن أيام حياتها السابقة .
كانت وهي تموت تبكي الشظية في جسدها وتسألني :
- يا ثائر )تعمدت اللفظ بالاسم الحقيقي) الشظية عربية أم يهودية.
- إنها شظية يهودية يا جوزفين (كذبت عليها لأول مرة في حياتي فقد كانت الشظية قادمة من مدفع هاون عربي ولكني لم أرد أن أعذبها وهي تحتضر)).
- ثائر، ضع على يدك، كمية من دمي واصبغ بها الأرض أريد أن أرى لوناً أحمر؛ يرسم الحرية على هذه الأرض، وأريد أن تدفنني في هذا الخندق، وألا تضع شاهداً على قبري، ضع الكلشنكوف، واجعل فوهته إلى الأعلى!! لم أستطع أن أقهر اليهود، ولا أن أنتقم من الذين أذلوا أمي وأسحبهم مكبلين بسلاسل نحو قبرها لأعدمهم هناك.
كانت جوزفين آخر معاقل الطهارة، لقد حققت لها ما تريد، عمدت جثتها بدموعي، لقد كان موت جوزفين أقسى من كل ما عايشته، أصعب من مغادرة عكا أذل من طابور الوكالة، أشد ضيقا من أزقة المخيم، أبرد من سقوف المخيمات، دفنتها في الخندق نفسه ووضعت إلى جانبها الكلشنكوف لم أخرج فوهته كما طلبت، خوفا أن يحمله مقاتل دنس.
لم أخن فلسطين، ضاع الوطن وضاعت الحبيبة، وقضيت سنوات عمري التالية في سجون عملاء إسرائيل، الذين استعاروا بعض السنوات من جهنم وقدموها لي في معتقلات الأسر.
خرجت بعدها بأربع سنوات عندما هاجمت إسرائيل لبنان، واجتاحت بيروت، ولم استعد عافيتي، حتى غادر المناضلون الفلسطينيون بعدما أن سقوا أرض لبنان من دمائهم، بدل دماء الأعداء. ودعت ببيروت ، تنفست آخر شهيق من هواء قادم من فلسطين، فقد ظننا أننا سوف نحارب اليهود فقط، ولكننا كما قالت يوما جوزفين “أننا نحارب العالم أجمع” ، ولم أزر قبر جوزفين، كم هي سعيدة لأنها لم ترنا نعود خائبين إلى البحر، دون أن نسحق يهودياً أو برجوازياً.
بنيت قبراً صغيراً وضعت فيه الهوية الثورية لعربي، وبعدها ذهبت إلى تونس، وهناك غادرت إلى فرنسا، ومن ذلك اليوم وأنا أشعر أني كريستيان ولست ثائراً، وأن برج إيفل مزروع بخاصرتي.أشعر أني طوال تلك السنوات الخالية لم أفهم معنى الوطن.
6-الشتات
ها أنا أعيش في مرسليا حراً أمشي في كل شوارعها، أنظر إلى عماراتها مستمتعا دون أن أخشى قناصاً يخرج فوهة بندقيته ليرسل لي تحية الموت.
في مرسيليا يعيش كل إنسان بمفرده، لا يتكلم مع أحد، ولا ينتظر حاجة أحد أو مساعدة أحد، لأنك لا تحتاج أحداً، في مخيم خان يونس كان الجميع يحبون بعضهم بعضاً ويتناولون الجوع مع بعضهم.
لقد حققت الاستقلال، لأولادي ،العلم ،الحرية ،الأمان، يأكلون أشهى أنواع الطعام، أضحك دوما كلما اصطحبتهم إلى مطاعم “سان ميشيل” ليتناولوا الوجبات السريعة، أتذكر أمي عندما شكوت لها طعام السردين، فتواسيني :
- هذه لقمة شرف لا يوجد أشهى منها!
من قال أن السردين لذيذ في أي مكان كان !.
أتذكر دكانة “أبو محمد” التي لا تحتوي سوى على شاي وسكر وبعض أنواع السكاكر، كيف كنت أشعر بفرح لا يوصف عندما تعطيني أمي “تعريفة “لاشتري منه.
في باريس يدخل أولادي لأسواق “مون مارت” الشهيرة ويجدون كل ما في هذا العالم من منتجات… لا ينقصهم إلا قطعة أرض تدعى الوطن!!!!.
لقد فشلت أن أكون يسارياً و تقدمياً لشعبي، ولكني حققت التقدم لنفسي ولأولادي.
هل ترى لو عاشت معي جوزفين، أكانت سوف تغادر بيروت مثلي، وتصبح ليبرالية مثلي، أم راهبة كنيسة تربي الأيتام.
وهل سينهار جدار برلين، وكأنه جدار بيت دجاج ويتمزق العلم الأحمر بشظايا الإتحاد السوفيتي، وتذهب أحلام انتقامها سدى في أوسلو، أكانت ستأتي معي إلى باريس أم ستعتبرني خائناً أو رجعياً أو مرتدا؟
7- العودة
كنت جثة ملقاة على ذلك الدرج،بعد أن غادر قطار مرسيليا ،فقد أخبرته الأرض أن جسدي الآن محرم على أرضها، تراكض الناس حولي وشاهدت من وراء جفوني المسدلة، حمالة ترفعني ، ومحاولات بائسة لإعادة قلبي لينبض من جديد، لم أشعر بتلك الصدمات الكهربائية التي تعرض لها جسدي ليس لأني عربي بليد ، بل لأن المشوار انتهى، تمنيت أن يصطحبوني إلى قبر جوزفين ،ولكني لم أفكر إلاّ بمذكراتي الموجودة في محفظتي .
حاولت أن أحرك يدي لأقذفها خارج السيارة لتتطاير بين أرصفة باريس ،وتتشتت كما تشتت سنوات عمري، ولكن كل أعصابي أعلنت الانقلاب، كل هذا التاريخ المخفي بين غرف ذاكرتي سيصير مكشوفا، الآن.
يا للسخرية سوف يعرف الفرنسيون أني أنا الليبرالي، ثائر ومناضل سابق ،حملت هذا السلاح نفسه الذي أهاجمه بكل مقالاتي ،وارتديت “الأفرهول” الأخضر الذي أصفه برداء الرجعية.
كم أتمنى أن يمسك محفظتي رجل ، لا يعرف أي حرف من العربية ويقذفها إلى الحاوية، لا أريد أن تعرف مذكراتي بعد موتي، كنت أود أن أمهد لهذه الحقيقة بعدة مقالات.
حملق بي الطبيب جيداً ،من سوء حظي أنه عربي مهجر من العراق ،طلب من الممرضة أن تحفظ كل حاجياتي بخزانته،وأخبرها أني كاتب صحفي مشهور من أصول عربية.
أدخلوني إلى غرفة باردة جداً ،يا ه لا أشعر بالبرد نهائيا ،مع أن درجة الحرارة تقترب من الصفر. تمنيت لو تبقى لي شيء من الدموع لسكبتها كنخب فرح من أجل والدي وأمي، فهما لم يشعرا بالبرد بعد أن غادرت أرواحهما ،ما أدفأ الموت عندما يحمينا من برد العالم الخارجي !!
دخلت زوجتي وابنتاي الفرنسيتان،بكت الزوجة وأشاحت ابنتي عينيها ،علها اشمأزت ربما من جسدي العاري ! ؟فأنا معرى منذ ما يزيد على نصف قرن .
كنت أستمع لذلك الطبيب العراقي وهو يُخبر زوجتي عن مجموعة من الأوراق المهمة التي وجدت في محفظتي وأنها في غاية الأهمية لمن يهتم بالقضية الفلسطينية .
وافقت زوجتي على إعطائه حق التصرف بما يشاء بالأوراق شرط أن يعطيها نسبة من الأرباح،إن حصل على أي ربح،سألها الطبيب العراقي عن مكان الدفن فأخبرته أنها سوف تتصل مع مكتب لدفن الموتى من أجل الاتفاق معه على مراسيم دفني ، ولا تريد البحث عن أي قريب لي في لبنان أو فلسطين حتى لا يطول أمر الدفن.
قبل أن تغادر أخبرت الطبيب العراقي أنها وجدت ورقة مكتوبة في اللغة العربية ،لعلها وصية وطلبت إليه أن يترجمها لها .
كانت الورقة تحوي وصية أن ُأدفن في فلسطين .
زوجتي كانت تعتقد أن روحي ستلاحقها إن لم توف بوصيتي، فبذلت جهداً كبيراً، لدفني في فلسطين بعد أن حرفت الوصية وكتبتها باللغة الفرنسية ، وأثبتت أني أرثوذوكسي أريد أن أدفن في”أورشليم” .
خلعت خشب التابوت ونظرت من خلال النافذة إلى أرض فلسطين وهي تحتي، شاهدت سور عكا، وعنب الخليل وبحر غزة.
هناك اصطحبوني إلى مقبرة مسيحية وقبل أن يهيلوا التراب فوق جثتي ،حُمل تابوتي من جديد عبر أكتاف تتحدث لغة عربية مختلطة بلهجة فرنسية ، ومن ثم حملوني إلى عكا.
يا لك من زوجة مخلصة حققت ما عجز عنه كل العرب وأعدت لي حق العودة ولو على هيئة جثة .
دُفنت في عكا وشعرت أن أرضها دافئة جداً ،وأقسمت أن لا أغادرها حتى يوم البعث……
كتبها عمر شاهين | |
|
دكتورة.م انوار صفار Admin
تاريخ التسجيل : 04/04/2010 البلد /المدينة : bahrain
بطاقة الشخصية المجلة:
| موضوع: رد: نوفيلا , عودة الأرواح المهاجرة , إهداء لمحمود درويش 2/10/2012, 23:48 | |
| قصص او خواطر رائعة جدا سلمت يداك لنقلها وسلم قلم عمر شاهين والمهدى له محمود درويش | |
|
دكتورة.م انوار صفار Admin
تاريخ التسجيل : 04/04/2010 البلد /المدينة : bahrain
بطاقة الشخصية المجلة:
| موضوع: رد: نوفيلا , عودة الأرواح المهاجرة , إهداء لمحمود درويش 2/20/2012, 18:28 | |
| انتقاء اكثر من رائع شكرا لك لما قدمت لنا | |
|