مازلت أذكر ذلك الشهر شهر أغسطس من عام 1997 حين نعت إلينا جريدة "الحياة" اللندنية رحيل شاعر العربية الكبير محمد مهدي الجواهري ، وهكذا أسدل الستار برحيل الجواهري على آخر عمالقة الشعر الكلاسيكي من طراز بدوي الجبل وبشارة الخوري وعمر أبو ريشة وغيرهم. كنت حينها بمدينة جنيف السويسرية ولم تستطع جنيف ببحيرتها الخلابة ولابنهر الرون وجسوره الأخاذة ولابجزيرة روسو الجميلة أن تبدد الحزن الذي غمر نفسي والأسى الذي سكن روحي وأنا أقرأ الخبر في جريدة الحياة.
عاد الجواهري إلى دمشق ليموت فيها بعد العاصمة التشيكية براغ وغيرها من المنافي، كما عاد البياتي من منافيه في موسكو أو مدريد وغيرهما ليرقد رقدته الأبدية إلى جوار الشيخ محي الدين بن عربي وكأن جلق صارت بالنسبة إلى شعراء العراق جسر العبور إلى العالم الآخر، ينفحهم بردى والجامع الأموي بنفحات العروبة ويسمح مابأنفسهم من ألم الغربة وأوجاع المنافي الأروبية . وفي أدباء العراق –كتابه وشعرائه- ميزة لاتخطؤها العين وظاهرة لايختلف بشأنها اثنان ألا وهي ظاهرة الرفض والتمرد وما ينجر عنهما من نفي وتشرد في بلاد الدنيا.
فالروائي العراقي غائب طعمة فرمان مات طريدا ودفن شريدا في موسكو، وفي أحد أعداد مجلة العربي الأخيرة حدثنا الدكتورسليما ن العسكري عن انتحار أديبة عراقية أجبرت على البقاء في العراق قبل سقوط بغداد وكانت تريد الخروج من العراق إلى بلاد الله فلما استعصى عليها ذلك خرجت من الدنيا بقتل نفسها .
والعراق أو أرض السواد كما أسماه أسلافنا حالة فريدة بين بلداننا العربية، فبالرغم من كونه أرض الخصب والنماء وأرض الرافدين، والبلاد التي عرفت أقدم الحضارات وأعرق الشرائع، وما أرض السواد إلا دلالة على كثرة النخيل التي تظلل الأرض والأفق فحيثما امتد بصر الإنسان رأى سوادا وماذاك إلا فأل خير وبشارة يمن.
ولقد ظل البلد على الرغم من بوادر اليسر وسيمات اليمن أرض الفتن والخصومة والإنقلابات، فالإمام علي – كرم الله وجهه- قتل بالكوفة . وفي كربلاء سقط الإمام الحسين شهيدا . وفي العراق نبه ذكر الحجاج بن يوسف واستشاط أمره وتلطخ بالدماء سيفه،بعد أن دوى بالتهديد لسانه، وسواءا أكان العراق ملكيا أو جمهوريا في العصر الحديث فلقد كان بلدا قائما على الرمضاء ومستقرا على بركان وما تهدأ فتنة حتى تقوم فتنة وإن هدأت فبفوهات البنادق وشفرات المقاصل .
والعراقيون مهما تعددت أطيافهم وتباينت نحلهم يميلون إلى الحرية ويأبون الضيم وتعاف نفوسهم الخسف فيثورون وفي كل ثورة تسيل الدماء وتقطع الرؤوس .
وفي هذا البلد وفي النجف الأشرف ولد محمد مهدي الجواهري عام 1900 في بيت علم ودين وآل الجواهري أسرة عريقة نبغ فيها شعراء وأئمة وعلماء كلام، وفي بيت والده أتم حفظ القرآن وعلى يد مشايخ النجف النابهين أتم علوم اللغة والدين. غير أنه آنس من نفسه القدرة على قرض الشعر، وتهيأت ملكاته الفطرية لذلك، فجادت قريحته بالشعر منذ عهد الصبا وفي عام 1927 صدر الجزء الأول من ديوانه.
مارس الجواهري التعليم في الكاظمية ، ولكنه تركه ليتفرغ للصحافة فأصدر جريدة " الفرات" عام 1930 ، ثم " الانقلاب" ولما عطلت هاتان الصحيفتان ولاقى الشاعر من الحكومة القهر والعنت عاد إلى التعليم وفي سنة 1935 أصدر الجزء الثاني من ديوانه ، وفي سنة 1947 دخل المجلس النيابي نائبا عن كربلاء ، وقام برحلة إلى فرنسا وبولونيا ، ولا شك أن هذه الرحلة تركت في نفسه أعمق الأثر فلقد قارن ماينعم به الأروبيون من عدل ومساواة وتقدم وحرية وعصر صناعي بما يقاسيه الشعب العراقي من جور وطبقية ورجعية وعصر حجري وفي سنة 1953 أصدر الجزء الثالث من ديوانه ، ولما قامت الثورة وأنهيت الملكية في العراق طمح الشاعر إلى الحرية و الديموقراطية والمساواة ، ولم يستطع السكوت فأصدر جريدة " الرأي العام " ليجهر برأيه ويصدع بأفكاره التي تعارضت مع فلسفة الحكم والنظام القائم فاختار المنفى سبع سنوات في براغ بتشيكوسلوفاكيا وعاد بعدها إلى العراق ، ولكنه كان كدأبه ناقما على الجور أبيا للخسف عصياعلىالهوان متعطشا إلى الحرية،تواقا إلى العدل ، شغوفا بالمساواة ، طامحا إلى وثبة حضارية ونهضة علمية تدخل بلاده في ركاب الحضارة كغيرها من دول العالم المتمدن، فلاقى من كل الأنظمة الجهامة والتضييق على حريته وهو الشاعرالحر- الذي سجن في العهد الملكي جراء جهره بمعارضته وإبداء مخالفته لفلسفة الحكم القائم إلى أن رحل عن دنيانا نظيف اليد، صادق الوعد، سليم النية، مخلصا لعقيدته في الحياة .
فالجواهري من الشعراء الذين آمنوا برسالة الشعر وأمانة الشاعر التي استودعها عنده الشعب، ألا وهي اتخاذ الكلمة مصباحا يبدد الظلام ، وسيفا في وجه الجور ومنجنيقا يحرق بنيرانه الظلم والظالمين، والشعر كما يصلح لوصف النهود والأرداف، وتباريح الجوى، ونشوة المدام يصلح معلما هاديا ومنارة حق، وسوطا يلهب حماسة الخانعين من أبناء الشعب، وسيفا يقطع رقاب الظالمين من الحاكم وحاشيته .
إنه ما يدعوه جون بول سارتر بالإلتزام ، وقد التزم الجواهري – وهو صاحب عقيدة اشتراكية- بقضية وطنه الراسف في أغلال الإستبداد، النائم في مغارة التاريخ الساكت على نهب خيراته وتجفيف ضرعه.
اسمعه يخاطب المستبدين من حكام بلده :
ماتشــــــاؤون فـاصنعوا
فرصـة لاتــضيـــع
فــــرصة أن تحـــــكموا
وتحطــوا وتـرفعوا
وتــــدلوا على الرقـــاب
وتــعطوا وتــمنعوا
لــكم الرافدان والـــزاب
ضرع فــــأضرعوا
ماتشـــاؤون فـــاصنعوا
الجمــــاهير هطـــع
مــــــا الذي يســتطيعــه
مستضامـــون جوع؟
فهي صيحة صريحة لا كناية فيها ولاتعمية لغتها مشبعة بالتحدي والرفض ، لغتها شديدة الإيحاء بمعاني الجور والظلم والنهب لخيرات البلد من جهة الحكام ، والخنوع والاستسلام من جهة المحكومين .
والجواهري يتصرف في اللغة تصرف الواثق من نفسه المطمئن إلى ملكاته فلا تعاني لغته الكلال أو الفتور، ونفسه طويل لا يعرف الإرهاق ولاغرو في ذلك فهو قد امتلك زمام اللغة فأسلست له القياد وتشبعت روحه بفلسفة الحداثة ، وتعمقت ثقافته بالوعي التام بمعاني الحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية ، وزادته قناعته اليسارية ثباتا في الموقف وحرنا على الفكرة فلم يعرف نضاله الكلال أو الاضطراب لكأنه الرصاصة تمشي إلى هدفها بنفس القوة وفي نفس الخط بغير نكوص أو فتور .
وهذا التصرف في اللغة تصرف الواثق من نفسه ، والقدرة على ايصال الفكرة سليمة معافاة ، وحسن اختيار اللفظ الموحي بالمعنى المقصود كل هذه العوامل أشعرت الشاعر بحريته التي زهت بها نفسه فلم يجد ما يدعوه إلى التخلي عن الشعر العمودي واللجوء إلى شعر التفعيلة استزادة من الحرية في القول و الأصالة في المعنى .