تسير في الطريق الفسيح، وتتمتع بالمناظر الجميلة على جانبيه. تتوقف قليلا لتلوح بيديك لمن تراهم على الجانب الأيمن. فجأة، تحس بأن شيئا يتحرك أسفل قدميك. إنه خُلْد مزعج ظهر من حفرة على جانب الطريق. يطل من الحفرة تارة، ويختبئ تارة أخرى بشكل يفقدك أعصابك ويفسد عليك الاستمتاع بالمنظر. تكتشف أن لديك مطرقة خشبية كبيرة في يدك. تهوي بها عليه، فيرتد إلى حفرته مذموما مدحورا.
تكمل السير، وإذا به يظهر مرة أخرى على جانب الطريق الأيسر، فتعامله كما عاملته من قبل. ثم تكمل مسيرتك ظانا أنه ارتدع. يبدو أنه ارتدع فعلا، إذ لم يظهر منذ مدة. تسير مزهوا بانتصارك عليه، فتجد نفسك تهوي على الأرض متعثرا بشي ما. تعسا! إنه الخُلد المزعج مرة أخرى، لقد ظهر هذه المرة من بين قدميك دون أن تنتبه له، فأسقطك سقطة موجعة.
تنفض الغبار عن نفسك وتعود للسير، لكن هذه المرة ويداك مشدودتان على المطرقة. ويغمرك شعور عارم أنك محبوس داخل لعبة "Whac-a-mole" الشهيرة*. تعود لتستمتع بالمنظر الجميل على جانبي الطريق، تلوح للآخرين، وتكلمهم. لكن عينيك لا تستقران؛ تعاين بهما جانبي الطريق تارة، ومنتصفه تارة أخرى. أنت الآن تعلم جيدا أن هذا الخلد شبه الأعمى، هذا الكائن الصغير الحقير يمكن أن يظهر في أي وقت، وفي أي مكان. أحيانا يكون مزعجا، وأحيانا خطرا، وأحيانا قد يكون مميتا! والكارثة أنه لا يمكن ترويض هذا الكائن، ولا رشوته، ولا حتى قتله. كل ما تملك إزاءه هو أن تهدده بمطرقتك الخشبية، فينتهر وقتيا. يختفي هنالك تحت الأرض ليخطط كيف يحفر لك حفرة جديدة، وكيف يمكر بك بحيلة جديدة.
* * * * *
هكذا هي الحياة. لا بد أن يخرج لك منغص ما، من حفرة ما من حيث لا تحتسب؛ {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد : 4]. وهذه المكابدة ضرورية جدا، وهذا الخلد المزعج والمؤذي مهم جدا، ومفيدا جدا جدا، وضروري جدا جدا جدا! فبالله عليك، من غيره كيف تشتاق؟ كيف تشتاق إلى الجنة لولا هذه المنغصات؟ ألا تشعر بشيء من الامتنان لهذا الخلد؟ ألا تراه الآن كائنا لطيفا جدا وقد أسدى لك هذه المعروف؟ جرب مرة أن تمسح على رأسه عرفانا! كن حنونا معا قليلا لأنك لن ترى هذا الخلد الصغير المؤذي في جنة الخلد.
ما السبب الرئيس الذي يدفعك للشوق إلى الجنة؟ أهي الفاكهة والنخل والرمان وأسواقنا مترعة بها حتى في غير مواسمها؟ أهي أنهار اللبن والعسل والإنسان قادر على صنع شيء مشابه؟ هل السندس والإستبرق وهما وافران في الأسواق اليوم؟ يقول الدكتور جيفري لانگ في كتابه "حتى الملائكة تسأل" أن سكان الأسكيمو قد لا يروق لهم وصف نعيم الجنة بظلالها وغياب شمسها المحرقة {لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا}، ففكرة النعيم لديهم هي رمال دافئة وشمس مشرقة دائما. أتذكر أن هناك من كانت تستغرب أن الله خص الرجال بالحور العين في الجنة، وحرم النساء. وهنالك قلت في نفسي، ومن قال أنه حَرَم النساء؟ وهل عدم ذكر الكيوي أو الخوخ وكبد الإوز في القرآن الكريم يعني أنه محبيها لا يمكنهم الحصول عليها في الجنة؟ كل ألوان نعيم الجنة التي ذكرت في القرآن الكريم مجرد أمثلة، وعلينا أن نفهم فلسفة الجنة لنعرف أن الأمر أكبر من مجرد طبق فاكهة أو ما شابه. ما ذكر من نعيم الجنة هو مجرد تقريب للعقول وتطييب لها وتحبيب فيها، فما فيها حظه من الدنيا الاسم فقط. لذلك، يطل هنا سؤال جوهري ومشروع: هل التنعم هو فقط ما يدفعنا إلى الرغبة في الجنة؟ وكيف يكون هذا، والإنسان كلما تطور، كلما وجد وسائل أكثر توفر له الرفاهية والتنعم.
أرى أننا نرغب في الجنة لأمرين رئيسين:
1. البحث عن حياة بلا منغصات، حياة لا تضطر فيها إلى التلفت كل حين خوفا من الخلد المزعج الذي لا تعلم من أين يأتيك.
2. المشيئة! فالله أعطانا في الدنيا مشيئة (محدودة، لكنها تظل مشيئة) لنختار فيها رضوانه أو كفران نعمته. وجزاءنا في الجنة مشيئة أكبر، فالجزاء من جنس العمل. {... وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (فصلت:31). وتضييع الوقت في البحث في ماهية النعيم وتفاصيله عبث. فمن الغباوة أن يحاول أحدهم عمل جرد لمحتويات الجنة من النعيم، ويتجاهل أن ما فيها غير قابل للعد أو الحصر. ثم يصل على نتيجة أن الجنة غير مغرية له بما فيه الكفاية، فكل ما وصف في القرآن يكاد يكون متوفرا في يومنا هذا!
وأنت تسير في الطريق مترقبا لغزوات الخلد المشاكس، تذكر قوله تعالى "وهديناه النجدين". فاختر النجد الصحيح، لتفوز بالمشيئة. ولتصل إلى جنة الخلد، الخالية من صاحبنا "الخلد" المشاغب. أو لعله سيكون موجودا هناك، لكنه سيكون لطيفا، ظريفا، أليفا.
إغماضتان:
- الشيء الوحيد الذي قد لا تجده في الجنة هو "كلمة لا"!
- كلنا مبرمجون على الرغبة في الجنة. المكروب يريدها ملاذا، والمنعّم يريدها نعيما أبديا لا ينفد. هي مغروسة فينا ومغروزة.
حيات الياقوت