بعد سنوات قليلة قامت وزارة الدولة للشؤون الخارجية في كوبا وعن طريق الأمم المتحدة بالإتصال بزوجة همنغواي الثالثة " ماري " لأخذ موافقتها على تحويل بيته الى متحف وهي بادرة دبلوماسية محترمة جاءت في ظل ظروف سياسية عصيبة عاشتها كل من أمريكا وكوبا ، وسمحت لها باسترداد بعض ممتلكاتها الشخصية في الوقت الذي قامت فيه الدولة الكوبية باستصلاح العديد من الأعمال الفنية بما في ذلك لوحتين للرسام خوان جريس وبول كلي ، وكذلك بعض الأوراق الشخصية والمخطوطات الخاصة بزوجها الراحل ، ولكن الجزء الأكبر من محتويات الأدراج والرفوف وآلاف الصفحات من المراسلات المتراكمة ظلت في مكانها لم يطلع عليها أحد مع انها اصبحت تحت تصرف الحكومة الكوبية .
بعد أربعين سنة تلقيت مكالمة هاتفية في يناير / كانون ثاني من فيليبس جيني وهي طبيبة نفسانية من ماساتشوستس حفيدة همنغواي شرحت لي فيها مسعاها هي وزوجها للكشف عن رسائل جدها في بيته بكوبا الذي تحول الى متحف وإمكانية تقديمها الى القراء في كل مكان كوثائق تاريخية وأدبية عرفانا منها لمكانة همنغواي ، مع انها سبقت وان التقت بالمستشار الأدبي لوزارة الثقافة الكوبية هناك الذي رحب بهذا المسعى ترحيبا كبيرا .
بعد عودتي الى بوسطن - اضافت جيني - قمت بزيارة الى مكتبة كينيدي التي تضم الجزء الأكبر من ثروة همنغواي الأدبية ، أوضحت لهم هذا الأمر وقلت ان المسؤولين في كوبا ليس لديهم الإستعداد لتقديم هذه الثروة الى القراء خوفا من ادعاء أمريكا بهذه الممتلكات واقترحت ارسال فريق صغير لإنقاذ هذه الرسائل والمخطوطات مع تحملنا لتكاليف هذه العملية وإفهام الجانب الكوبي اننا لانريد شيئا من متحف همنغواي بل المحافظة عليه مع طلبنا بإرسال نسخ ثواني مصورة من كل هذه الثروة الأدبية .
فيليبس جيني عرضت الأمر كذلك على عضو الكونغرس جيم ماكغفرن وهو ديمقراطي من ماساتشوستس ومن المدافعين عن حقوق الإنسان وتهمه مصلحة ان تعيد أمريكا علاقاتها مع كوبا وقد حصل على اجتماع مع وزير الثقافة الكوبي الذي وجد منه تقبلا لخطة جيني إرسال فريق لترميم وحفظ المستندات ، لكن الحصول على إذن بالسفر الى كوبا لم يكن بالأمر السهل في ظل إدارة بوش الجديدة ما يجعل من الصعب حتى التكلم بها ولم تكن هنالك ضمانات بأن الكوبيين سيسهلون لنا الوصول الى فينكا ، ونتيجة لصبرنا وحثنا المستمر لأعضاء الكونغرس تقرر بعد عام ان لدينا أربعة أيام للسفر الى كوبا التي وصلناها بعد عناء يوم الثلاثاء 12 / مارس آذار 2002 .
كانت زيارتنا الأولى بعد وصولنا الى كوبا مدرسة الصحافة ثم لقاؤنا بالمنسق الأول لمتحف همنغواي وبرئيس معهد خوسيه مارتي وآخرون ، ثم كان عشاؤنا في هافانا القديمة التي انطلقنا منها في اليوم التالي الى فينكا التي استغرق الوصول اليها 20 دقيقة لنقترب من ذلك النزل صباح يوم حار إلا ان اللون الأخضر الداكن الذي يلف المكان اعطانا شعورا بالبرد ووجدنا ان 150 من الزوار يدخلون المكان يوميا ولايسمح لهم بالتجوال داخله ويسيرون في محيطه ينظرون فقط الى غرفه الواسعة من نوافذه المفتوحة أمامهم .
رحبت بنا غلاديس وهي احدى الموظفات المشرفات على البيت ومعها عدد من الموظفين الذين تركوا لنا الباب الرئيسي له مفتوحا وكان من الواضح ان الكوبيون سمحوا لنا أخيرا بحرية التنقل داخله وقد وجدنا كل مافيه نظيفا مع حراسة دائمة حول موجوداته ، وشاهدنا في غرفة الصالون كرسي همنغواي الذي كان يفضل القراءة وهو مستلقي عليه مع طاولة صغيرة كانت توضع عليها كوكتيلاته المفضلة ، أما باقي غرفه فقد حوت خزائن الكتب واللوحات والملصقات التي كانت تصور مصارعة الثيران وجوائز تذكارية من أفريقيا والغرب الأمريكي غطت جدرانها ، وأذواق مختلفة من الموسيقى العالمية لتومي دورسي ، جلين ميلر ، باخ ، بيتهوفن ، برامز ، غراندوس من اسبانيا وبيني من كوبا ، وفي ركن من غرفة نومه عرضت آلته الكاتبة التي شهدت طباعة الكثير من أعماله منذ عام 1939حتى عام 1955 .
بعد جولة قصيرة في المنزل سألنا عن أوراق همنغواي خطاباته ورسائله أين يمكن لنا ان نراها ، اقترحت علينا غلاديس رودريغيز زيارة الطابق العلوي الذي يمكن ان يكون الورشة الرئيسة لعمله ، لكننا وبعد جولة هناك لم نر أية أوراق تركها وربما يكون الكنز الدفين الذي نبحث عنه موجود في الطابق السفلي الذي يقع فيه المرآب ، لكننا أصبنا بخيبة أمل أخرى ولم نجد ورقة واحدة منه وقضينا ظهر ذلك اليوم نجول في باقي غرف المتحف عدنا بعدها الى الفندق بعد ان قاربت الشمس على المغيب لنرتاح بعد عناء يوم دون أن نعثر على شيئ .
بحلول الصباح أخبرونا من المتحف أنهم عثروا على رزمة من الأوراق فسارعنا الى فينكا ، هناك فوجئنا انها لاتعود الى همنغواي بل هي في الواقع قوائم جرد تفصيلية مكتوبة بخط اليد لمقتنيات المتحف من قبل القيمين عليه على مر السنين ، شكرناهم لأنهم مهتمون فعلا بكل مايخص هذا المكان واتصلنا بغلاديس لنشكرها ايضا ، لكنها قالت ان المهمة لم تنتهي بعد فستصحبنا بعد قليل للعودة الى المرآب لأن هناك باب صغير أسفل الدرج المؤدي اليه في الطابق السفلي لم يتم فحصه بعد وتود ان نراه .
ونحن ننزل درجات السلم الحادة فوجئنا فعلا بوجود باب صغيرلايعلو اكثر من 6 أقدام يفضي الى قبو فأحنينا رؤوسنا عند دخوله بينما كان فرانك ينظر الى اثنين من المشرفين الذين سبقونا بالدخول مشيرا الى اثنين من مكيفات الهواء المحمولة نوع سامسونك التي بإمكانها أن تزيل الرطوبة منه وقد لاحظنا وجود فتحة في أعلى الجدار تسرب منها الضوء وهذا يعني دخول الحشرات والغبار والمطر منها كذلك ، ولهول المفاجأة وجدنا ان هذا القبو قد تكدست فيه خزائن عديدة كان بداخلها ملفات كثيرة فضلا عن قطع متنوعة من الأسلحة النارية ورؤوس لحيوانات الغزال الجبلي بقرونها الكبيرة وصور فوتغرافية مختلفة ، وقد خمن زملاؤنا ان تلك الملفات قد تكون مراسلات الروائي الأشهر التي لم يطلع عليها أحد .
انطلقتُ وبشكل محموم أقلب تلك الملفات التي احتوت على رسائل حب كانت قد أرسلت الى إرنست همنغواي من ماري خلال الحرب تتعلق بالزواج وعندما قلبت ملفا آخرا وجدت كلمات له أذهلتني ، فبعد أقل من عشرة سنوات يتساءل فيما إذا كان ينبغي قبول ماري أو التخلي عنها ؟
همنغواي قال عنها كذلك وأنا اقلب رسالة أخرى من رسائله : ( أو إذا ما كان ينبغي لي السير في هذا الإتجاه أو عدم إعطاءه أي اهتمام ) ، وقد الحقها برسالة أخرى يقول فيها : ( يمكن لأفكاري هذه توضيح شيئ في رأسي ) .
حينما أتينا كوبا كنا نتصور اننا سنعثر على قطع أدبية نادرة قليلة لكننا وجدنا أنفسنا وسط حفرة كبيرة منها تحيط بها أشياء رائعة ، وقد حددت بالفعل مساحة واسعة من وقتي للبدء في فهم همنغواي على ضوء ما عثرنا عليه في فينكا ، عدنا الى هافانا مرة اخرى لتقرير النتائج التي توصلنا اليها ومناقشة مستقبل الوثائق ، حينها لم يسعني سوى التفكير بهذا العملاق الذي عاش هناك بصورة انفرادية محكوم بخرافة من يختال لتحقيق شيئ ما ، كانت الكتابة مع هذا الشيئ في أفضل حالاتها .
الآن وبعد اكثر من 50 عاما على وفاة همنغواي يجري تأهيل فينكا وحماية حيازاتها لأكثر من 3000 صفحة من الوثائق التي وجدناها في القبو ، وقد تم بالفعل حفظها بطريقة رقمية واتاحتها للجمهور وحملنا نسخا ثانية منها الى مكتبة جون كنيدي ، رسائله هذه قد تكون السجل الأكثر صدقا في رحلة الحياة التي عاشها وأصدق من أي وقت مضى .
في رسالة الى والده مؤرخة في العام 1918 وهو يعيش الثامنة عشر من العمر نجدها مفعمة بالأحاسيس ويغلب عليها الفرح مع الألم نتيجة العمل الشاق في ستارسيتي كنساس ، متجاهلا حضور كليته لسعيه بدلا من ذلك متابعة مهنة الصحافة التي كان قد بدأها في ترابيز صحيفة مدرسته الثانوية الأسبوعية متبنيا أسلوب النثر التعريفي المقتضب الذي أراده أن يبقى ملازما لبقية حياته كما يقول في رسالته تلك .
من مدينة ميلانو الإيطالية وجدنا رسالة له مؤرخة في العام 1917 وهو يعيش أجواء الحرب موجهة الى ذويه يقول فيها : ( أنا في نيسان عام 1917 عيني اليسرى سيئة وغير مؤهلة للخدمة هنا على الرغم من أنني دخلت متطوعا كسائق سيارة اسعاف في الصليب الأحمر الأمريكي ) .
في عام 1918 وعلى الجبهة الإيطالية أصيب همنغواي في ساقيه نتيجة لسقوط قنابل هاون على أحد الخنادق والتي خلفت 200 قطعة من الشظايا داخلها اضافة الى اصابة ركبته اليمنى برصاص أحد المدافع الرشاشة مما تطلب نقله مع جندي إيطالي الى الخطوط الخلفية من المعارك ومن هناك دخل مستشفى الصليب الأحمر الأمريكي في ميلانو ليتعافى .
في اليوم الأول لدخوله المستشفى أرسل برسالة الى والدته يقول فيها : ( ليس هناك لوم عليّ في الكتابة لأن التي اصيبت ساقاي وليست يدي وسأبقى في السرير مدة شهر ، الجراح يقول ان ساقي جيدة لكنه يخطط لعملية جراحية في الركبة يوم 15 أغسطس / آب واتمنى ان يتعجل لأني على يقين كم هو متعب رقاد السرير مع ساقين في الجبائر .
في هذه الفترة كانت هناك ممرضة أمريكية وقع في حبها وأفرد لهذا الحب صفحات من روايته " وداعا للسلاح " عام 1929 بعد عودته الى الولايات المتحدة كبطل حرب أشادوا به كأول أمريكي يصاب في إيطاليا ، قضى همنغواي صيف عام 1919 في الصيد ميشيغان بين اصحابه خاصة هاول جينكينز وهو من سكان شمال وسط الولايات كان قد خدم معه في الصليب الأحمر وكثيرا ما كانا ينطلقان في ميشيغان الشمالية يمارسان في هوائها الطلق هوايتهم المحببة الصيد ، من هنا أوحت تلك المشاهد له بمجموعة قصص قصيرة صدرت عام 1929 تحت عنوان " إثنان ونهر وقلب كبير " جاءت بعضها لتسرد عن ما يشعر به الشباب من اضطراب في حياتهم حينما يعودون من الحرب منطلقين الى البرية للتعافي من أيامها المجنونة .
همنغواي وبعد ان أفرغ في ميشيغان كل عقده من نزهات وتناوله للشراب انتقل الى شيكاغو حيث صحبه صديق طفولته بيتوسكي الى منزل عائلته ، هناك قدم اليه هادلي ريتشاردسون 28 عاما وهي من مواطني ولاية ميسوري جاءت الى ميشيغان بعد وفاة والدتها فتعارفا وبحلول ديسمبر / كانون الأول من عام 1920 كانوا يتبادلون الرسائل بشكل شبه يومي ، وخلال هذا التودد القصير استطاعا أن يعيشا فترة من السعادة وصلت مراسلاتهم فيها الى أكثر من 1000 صفحة فقدت اغلبها في ظروف غامضة وقد يكون السبب انها أحرقت معظمها بعد طلاقهما عام 1927:
الى هادلي ريتشاردسون
23 / ديسمبر 1920
سأكون كثير السعادة وأنا محتفظ بلقب واحد من ألقابك " دارلنج " ، ولايمكنني أن آتي المنزل أو التقيكم في عيد الميلاد وأنا كسير محرج ، مع أن من السهل أن أكذب عليك كثيرا ، لاأريد أن أقبلك قبلة وداع ، أريد أن أقبلك في كل ليلة قبلة جديدة ، أفكر فيك ، أنا أحبك بالطبع ، أنا أحبك في كل وقت ، عندما استيقظ في الصباح أخرج من سريري لأدخل في اختبار جديد للمحبة .... أحبك .
همنغواي كان يتوق للعودة الى أوربا وحاول اقناع المشرف على تورنتو ستار حيث كان يعمل بالقطعة إرساله الى إيطاليا ليكون مراسلها هناك ، وعندما تعرف على شيروود أندرسون وربطت بينهما صداقة قوية نصحه هذا الأخير أن يذهب الى باريس وبعد وقت قصير في 3 أيلول 1921 تزوج من هادلي وأبحرا الى فرنسا :
لأسرة همنغواي
في نهاية شهر يناير / كانون الثاني 1922
اخترنا أنا وهادلي أن نقضي اكثر من وقت رائع في باريس ، لكننا حصلنا على نوع من الطقس الرطب في جبال الألب حوالي 3000 قدم فوق سطح البحر ، نزلنا بعدها الى بحيرة جنيف للتخلص من نزلات البرد مع أنها لازالت تلازمنا والثلوج عمقها أربعين بوصة ، الطريق اسفل الجبل تحيطه الغابات السوداء من أشجار الصنوبر والأودية والمنظر يزداد جمالا بركوب القطار الذي أقلنا بسرعة 60 ميلا في الساعة شاهدنا خلالها كيف تتطاير شظايا الثلج تحت عجلاته ، وفي مونترو عاودت الكتابة بعد ان استقر بنا المقام في شقة تقع على شارع 74 وهي مؤثثة مقابل 250 فرنك في الشهر حوالي 18 دولار مع تعين مدبرة لشؤونها .
في صيف عام 1923 نشر همنغواي أول مجموعة قصص قصيرة ، وبناءا على اقتراح جيرترود شتاين قال في احدى رسائله انه سيتوجه مع زوجته هادلي الى بامبلونا لحضور مهرجانها السنوي لمصارعة الثيران الذي أوحى له كتابة روايته الأولى " ثم تشرق الشمس " والتي نشرت أول مرة عام 1926 .
مجلة فيني فيتر