لقد مارس الفنانون التشكيليون نشاطهم ضمن الإطار الثقافي العام للمجتمع، ووضعوا نصب اهتمامهم تحقيق المتعة للذوق العام من خلال تجاربهم الجمالية التي تظهر في إنتاجهم الفني باستخدام الوسائط المختلفة. ويتميز الفنان بالموهبة، والقدرة على أن يحدث تغييرا في شكل الخامة الطبيعي لتتحول إلى صورة مبتكرة ذات صفة جمالية محملة بالمعاني والمضامين الفكرية، أو يخرجها في شكل تصميمات تستخدم للأغراض النفعية. والفنون التشكيلية بالنسبة للفنان هي وسيلة تفريغ للشحنات النفسية والمشاعر أو التجارب الإنسانية المختلفة في سياق أحداث تؤثر فيه كما تؤثر في المجتمع، فالفنون وسيلة للتعبير والاتصال والمشاركة الوجدانية للتجربة الجمالية التي تولد المتعة بالصيغ التشكيلية. ويعد موضوع الجمال في الفنون من الإشكاليات المتشعبة، التي تدور حوله آراء وأفكار كثيرة، قد نتفق مع بعضها ونختلف مع الآخر حتى أننا نرفض بعضه من أساسه، كونه يخالف معتقداتنا وطريقة تفكيرنا الإيماني بوحدانية الله وكونه الخالق الجميل الذي أوجد الجمال.
فعندما ظهر علم الجمال (الاستاطيقا) في القرن الثامن عشر، وعُرّف بأنه المعرفة الحسية بالأشياء، اختلط في مفهومه مع مفاهيم عديدة، كانت بعيدة عن مشكلات الفن، وكان من الضروري تضييق ميدان البحث في هذا العلم بحيث تستبعد كل المجالات غير الفنية. فأصبحنا نطلق مسمى علم الجمال على ذلك الميدان النظري الذي يهتم بمشكلات الجمال في التعبير الفني. مما أدى إلى ظهور التساؤل التالي: "كيف يمكن أن نتعرف على تلك الحدود الفاصلة بين الفن والنقد وبين علم الجمال ؟". فالإبداع الفني ينتج عنه صورة تتصف بالجمالية، هذه الجمالية تتأسس من عمليات عقلية إدراكية، تحليلية، تفسر النظام العام الذي أسبغ على الصورة شكلاً ولمحتواها معناً يتصف بصفة الجمال، في الأعمال ذات المعاني الرمزية، أو في صور الطبيعة ذات الحقيقة الموضوعية القابلة للنقل والتي تتصف في طبيعتها بالنظام الجمالي الذي يحقق المتعة. ففي الطبيعة من الجمال ما يثير مشاعر الفنان المبدع، حيث لا حدود توقف تدفق ذلك الجمال المنبعث من الطبيعة، والتي ليس لها إطار محدد. ففي الطبيعة مصدر إلهام كبير للفنانين المبدعين القادرين على استشفاف النظام الموضوعي بها وتحويله إلى نظام داخل إطار فني يحقق متعة جمالية لمتذوق الفن التشكيلي.
إن أي عمل فني، مهما كان مجال اتجاهه التشكيلي، سوف يكون قابلاً للتحليل والتفسير من خلال تشبعه بالنظم الجمالية سواء صيغت باستلهام من الطبيعة أو من محتوى التعبير الفني، أي المعنى الذي قد يكشفه الفنان أو يحتفظ به لنفسه... ومهما كان توجه التعبير في محتوى العمل الفني إلا أن تحليل النظم الجمالية، ومن خلال ربطها بمدارس التحليل النفسي، سوف يجعل من الممكن استخلاص المعاني فيما وراء النظام الشكلي بالإضافة إلى دراسة النظم الجمالية وهو ما تركز عليه دراسات علم الجمال، حيث يتمثل أعلى مستويات العبقرية الفنية في تلك التنظيمات الشكلية الظاهرة في العمل الفني.
ومن طبيعة النقد أن يعمل على تسجيل الجماليات بمختلف أشكالها ونظمها التي تعمل من خلال الحس لتؤثر في الذوق العام، ولتعكس تلك الصيغة المقبولة من الجمال في الفن التشكيلي. وجمال الأشياء لا يقوم في معزل عن التقبل والفهم الإنساني. فهذا الفهم الإنساني هو محور التفسير والحكم الجمالي، وهو متغير من زمن لآخر ومن طبيعة شعب إلى آخر، ويعمل علم الجمال على تتبع هذا التغير في الفهم للنظم الجمالية، ويقوم بتحليله واستخراج نظريات تتوافق مع طبيعة هذا المفهوم الإنساني المتغير الذي يبحث في المشكلات المتعلقة بالفن والتفكير الجمالي.
بذلك يكون لعلم الجمال صلات وثيقة بتاريخ الفن وبالدراسات النقدية التي تفسر مواطن القوة والضعف في التعبير الفني والتي تشكل تطوراً في الفهم الإنساني للفن، والذي هو بالتأكيد مجال الدراسة الواسعة لهذا العلم (أي علم الجمال) وتصبح العلاقة بين الفن وعلم الجمال كالعلاقة بين الطب وعلم وظائف الأعضاء. وهذا يعني أن علم الجمال وبرغم استقلاليته هو جزء من دراسة الفن من خلال طابع فلسفي علمي، ويكون النقد هو وسيلة التسجيل الراهنة لمتطلبات الدراسات الجمالية والتاريخية للفن.
وكما نعلم فإن جزءاً كبيرا من علم الجمال يهتم بدراسة التذوق الفني، ويدور الجزء الآخر حول دراسة القيم الجمالية في الإنتاج الفني، وقد مكنت الصلة بين النقد وعلم الجمال من معرفة المشكلات المتعلقة بالتذوق، فنحن نعلم أن مهمة الناقد شديدة الصلة بتوصيف الجمالية الفنية، وإصدار حكم جمالي قائم على مبررات موضوعية قائمة على التحليل والتفسير. فإذا علمنا أن لكل حقبة حضارية ذوقها العام فإن دور النقد هو تسجيل هذا الذوق الذي يصدر من خلال تلك الأحكام الجمالية التي تسود في ذلك العصر. فالنقد يعني الحكم الجمالي على الفن، وأبسط صور النقد (بمعنى الحكم الجمالي على الأعمال الفنية) هو القدرة على تمييز القيم الجمالية الصرفة فيه، بمعنى أننا نحكم عليه بحيادية وبدون رغبة في الفرار منه أو الحصول عليه، ونقول بأنه جميل من خلال الإحساس بالرضا عن نظمه – التي لا تشعرنا بالضيق أو التقزز. ورغم أننا بقولنا هذا قد بسطنا مفهوم النقد بمعنى الحكم الجمالي، إلا أن النقد ليس بهذه البساطة، ولا تقتصر مهمته على القول بجمال الشيء أو قبحه بل يتعدى ذلك في مراحله المتقدمة إلى استخراج القيم الجمالية المتوفرة في العمل الفني ووضعه في مستواه الذي يستحقه من خلال إجراء المقارنات وتوضيح المفاهيم المتعلقة بالتذوق التي هي في الأساس قائمة على معايير للحكم وفلسفة جمالية (متغيرة، وغير ثابتة) يخرج بها الناقد ويقدمها لنا بصيغة مكتوبة في بحث أو مقالة الهدف منها تأييد الحكم الجمالي.
إن معايير الحكم التي يسعى النقاد إلى استكشافها في الأعمال الفنية التشكيلية هي في الحقيقية محاولة لاستخراج القيم الجمالية التي تمثل أحد محوري دراسة علم الجمال. فمن خلال دراسة القيم الجمالية السائدة في المجتمع، عند المتذوقين والنقاد حول الأعمال الفنية، والتي يمكن فهمها وتقبلها والرضا عنها من أفراد المجتمع، بالإضافة إلى وجود مساحة من الحرية عند الفنان للإبداع وابتكار صيغ جديدة لقيم جمالية لم تكن معروفة من قبل. ففي حالة ما إذا جذبت هذه الصيغ الجديدة في الأعمال الفنية انتباه النقاد الذين يقومون بتحليلها وتسجيلها ووضع أسس نظرية لها في دراساتهم النقدية، فإنها تصبح فيما بعد موضوعا للدراسة في علم الجمال، وتكون إضافة جديدة إلى القيم الجمالية التي يهتم بها هذا العلم ويبحث عنها في الأعمال الأخرى من نفس الاتجاه.
وتعني القيم الجمالية كل الصفات التي تلبي الحاجة إلى المتعة بالجمال والتي يجب أن يكون عليها العمل الفني من اتجاه ما، وهي الصيغ التي تجعله أكثر جمالا، وتقوم هذه القيم على ثلاثة عناصر هي: أولا: الموضوع في العمل الفني الذي يمثل قيمة مهمة تحدد الاتجاه التشكيلي الذي يسلكه الفنان في تأليفه لصياغات عمله التشكيلي. ثانياً: الخامة المنفذ بها العمل الفني. ثالثاً تقنية الأداء أو الأسلوب الذي نفذ به الفنان العمل التشكيلي. فمن خلال معرفة هذه العناصر الثلاثة وربطها بالقيم الفنية المناسبة لها سوف يكون من السهل على النقاد تحديد معايير الحكم الجمالي الذي يعطي للعمل الفني مستواه الذي يستحقه. ففي حالة وجود الأعمال الفنية في مسابقات بحاجة إلى تحكيم، أو تصنيف، فإن وضع أو إتباع معايير الحكم المناسبة تصبح ضرورية ويمكن أن أقترح بعض العناصر لمعيار يصلح لتحكيم الأعمال الفنية:
كما يلي
معيار مقترح لتحكيم الأعمال التشكيلية في المسابقات الفنية
وضعه : د. طارق بكر عثمان قزاز
1- قدم العمل الفني موضوعا واتجاهاً فنياً لفت الانتباه.
2- استخدم الفنان خامة مناسبة للموضوع.
3- قدم الفنان أسلوباً تقنياً ملائماً في تناوله للعمل الفني.
4- تقييم التكوين العام للعمل.
5- الصيغ التركيبية بين العناصر التشكيلية الدقيقة في العمل الفني.
6- الخطوط في قوتها وضعفها تناسب صيغة العمل الفني.
7- اختيار الألوان مناسب في معظم أجزاء العمل الفني.
8- مساحة العمل الفني والإطار متناسبة مع الصيغ الداخلية والتكوين العام.
9- وضوح الرؤية الفكرية للعمل الفني؟
10- للعمل الفني أثر وقبول وارتياح وقوة جذب للمتذوق؟
11- أحدث العمل الفني انطباعاً عاماً بالجمال عند المتلقي.. (أو المحكم).
12- يتواءم العمل الفني مع تاريخ الفنان وسيرته الذاتية التي اطلع عليها المتلقي (المحكم).
وكما نلاحظ فقد راعى هذا المعيار تعدد الاتجاهات الفنية، واختلاف التناول الفني، من ناحية ألأسلوب، والخامة المستخدمة، وكذلك الانطباع الشخصي للناقد أو محكم الأعمال الفنية، ويهتم بدور الفنان حيث يجب أن يكون لسيرته وتجربته السابقة تأثير في تقييم أعماله، وأعتقد أن من واجب الناقد أن يسأل "من هو الفنان؟" ذلك الشخص العبقري الذي أنتج تلك الأعمال الفنية ذات القيم الجمالية، والتي نحن بصدد الحكم على جماليتها، فهو صاحب الخبرة والممارسة، والتاريخ الفني، حيث يجب أن لا ننسى تأثير كل ذلك على قرار الناقد.
إن الدور الذي يؤثر من خلاله الفنان على المتذوق لا يكون فاعلا إلا من خلال الشفافية التي تعمل في حسه ورؤيته المهذبة والتي تدرك أعلى درجات الجمال في الطبيعة وفي مظهر الأشياء. وكما عمل الفنان على إنتاج تلك القيم، فإن المتذوق يعيد صياغة تلك المدركات في صور ذهنية تتوافق مع الصورة المنقولة، أو الصورة الشكلية التجريدية والتي يتفوق فيها الفنان على ذاته لأنه اقترب من صيغة الجمال المطلق في جوهره الأصيل، دون التطرق إلى التفاصيل. لذلك يتجه كثير من الفنانين إلى الاتجاه التجريدي مبتعدين عن النقل الحرفي من الطبيعة، وتقديم صيغ حسية مستقلة بروحها الجمالية. هذه الروح التي تكشف عن قدرات الفنان وفكره وتصوره الجمالي المستلهم في الفن وما أضفاه على عمله الفني من نفسه ما يجعله جميلا، الأمر الذي ينعكس على حس المتذوق. فيؤدي إلى تقدير الفنان، وهو جزء من تقدير قيمة عمله الفني.
إن متعة ممارسة الفنان للإنتاج الفني لا تكتمل إلا بمشاركة الآخرين له بجمال تلك الأعمال التي أنتجها، وتصبح المتعة في ذروتها حين يتم تقدير هذا العمل من قبل النقاد والمتذوقين بالحديث أو الكتابة. فإذا ما فاز أحد الأعمال الفنية بجوائز وشهادات تقديرية فإن ذلك يعتبر من الأمور التي يسعد بها أي فنان في مقابل إنجازاته التي يسهم بها في إطار الحركة الثقافية لمجتمعه.
د.طارق قزاز